واهم من يعتقد بأن السلطة تتخلى عن مصالحها بسهولة، أو تقدم التنازلات المجانية... وهذا ينطبق على السلطات مكتملة التكوين، فكيف بسلطة غير مكتملة التكوين... سلطة بدون سلطة... جذر وأساس ما وصلنا إليه هو كارثة أوسلو، الذي قسم الأرض والشعب والقضية، وشكل الانتصار الثاني لدولة الاحتلال بعد النكبة بلغة ثعلب السياسة الإسرائيلية الراحل شمعون بيرس، وما استتبعها من كوارث انقسام جغرافي ومؤسساتي إداري... وتحول السلطة من مشروع يفترض أن يكون عام لمصلحة شعب إلى مشروع استثماري لمجموعة منتفعة ومستفيدة من "نعم" و"بركات" أوسلو، تسيطر على كل قدرات ومقدرات هذا الشعب، ومفاصل المشروع، همها الأساس البقاء في هرم السلطة بشكل متنفذ ومهيمن، تتعاطى مع حقوق شعبنا بلغة التجريب والمقامرة، قدسية الأفراد والمؤسسة فوق قدسية الوطن والشعب.. قيادة لم تغادر عقلية الاستفراد والاستحواذ والهيمنة والاستئثار، لا ترى الوطن ومصالحه سوى من زاوية مصالحها وإمتيازاتها... ولذلك ابتدعت لنا نظرية "التفاوض من أجل التفاوض"، ولا شيء غير التفاوض مع محتل يبتلع الأرض ويفرض كل يوم وقائع جديدة عليها، وكل من يقول بخيار آخر غير خيار التفاوض مشبوه او يحمل اجندة خارجية هدفها تدمير المشروع الوطني، أي مشروع هذا ..؟ الذي أوصلنا إلى مرحلة القعر... نستمر في "اجترار" نفس الجمل والمفردات، ونحن ندرك بأنه لا إمكانية لتحول هذه السلطة الى دولة باستخدام نفس الشخوص والأدوات للوصول إلى نتائج مغايرة، وهذا ركض وسير في الاتجاه الخاطئ، لو كانت السلطة تريد أن تغير نهجها واستراتيجياتها لقامت بالاستثمار سياسياً في معركة "سيف القدس " عبر اشتباك شعبي جماهيري واسع مع المحتل، لا اعتبار أي تحرك شعبي جماهيري أو أي شكل نضالي آخر، تخريب لمشروعها "الوطني" وشكل من أشكال الفوضى ... الخ أو محاولة من البعض للانقضاض على السلطة.
إن الانفجار الداخلي الفلسطيني ليس وليد لحظة اغتيال نزار بنات على يد أجهزة أمن السلطة، التي أبدع دايتون في غسل أدمغة الفئة العليا المستفيدة منها، وعمل على "كي" و"تجريف" وعيها، بحيث، بل جملة السياسات والمواقف والممارسات والسلوكيات وردات الفعل التي تقوم بها السلطة، وهي التي كانت تدفع نحو المزيد في تراكم ضعف أداء السلطة وأخطائها وسوء إدارتها وتآكل وتراجع هيبتها والثقة بها.. سواء على المستوى الوطني السياسي العام أو على المستوى الحياتي المعيشي الاقتصادي الاجتماعي الخدماتي، وكذلك على صعيد الحريات العامة، حيث القمع والتنكيل وتكميم الأفواه هو من حكم سلوكها ومنهجها... التخبط والعشوائية والتجريبية واستمراء النهج والخيار التفاوضي واعتباره الخيار الذي لن تحيد عنه السلطة، وليست مستعدة لكي تفتح الخيار والقرار الفلسطيني على أرحب فضاء عربي- إسلامي، واستمرار الرهان على معسكر التطبيع العربي الأمريكي... سلطة استمرت تراكم في الأخطاء وضعف الأداء وفسادها أصبح يزكم الأنوف ورئيسها يقول أعطوني فاسد واحد في هذه السلطة، وهو خير من يعرف أنه من عند النائب العام السابق وحتى أصغر مؤسسة تتبع السلطة يتفشى الفساد في أروقتها وجنباتها.
انفجرت الأوضاع بعد مجيء حكومة اشتيه، حكومة العناقيد الوهمية والتنمية تحت الاحتلال، حيث لا انجازات سوى " التهريج" الكلامي، وعلى الأرض مزيد من الفقر والجوع والبطالة والارتهان لمؤسسات النهب الدولي.. وفي الجانب الوطني السياسي تكرار لازمة السلطة الوطنية، التي لم تعد تتحكم بأي شكل من أشكال السيطرة والسيادة خارج أبواب المقاطعة، ولم تعد أجهزة الأمن الإسرائيلية تقتحم معازل "ألف" فقط في المطاردة الساخنة، كما نص عليك اتفاق أوسلو، بل أصبحت "سداح مداح" تدخل وتخرج كيفما تشاء، تعتقل، تقتل، تدمر مؤسسات وتُصدر أوامر عسكرية بإغلاقها لجان العمل الصحي نموذجاً.
السلطة راكمت من الأخطاء الكثير الذي جعل الشعب يشبهها بالإدارة المدنية، بل ويترحم على أيام الإدارة المدنية... إلغاء انتخابات تشريعية ب"فرمانات" الذي لا ينطق عن الهوى... لقاحات منتهية الصلاحية.. لجان تحقيق للهروب إلى الأمام وتمويت القضايا، لجنة رامي الحمد الله رئيس الوزراء السابق، والتي شكلها للتحقيق في تسريب بيت جوده في البلدة القديمة، والتي رحلت معه وغيرها من لجان التحقيق الأخرى... حل المجالس البلدية والقروية وتحويلها للجان تسيير أعمال، تعيين لجان اللون الواحد للقدس وغيرها، تعطيل اجراء انتخابات نقابة المحامين ...الخ، ومن بعدها جاءت القشة التي قسمت ظهر البعير، اغتيال أجهزة أمن السلطة بطريقة وحشية للناشط السياسي والحقوقي نزار بنات، وتشكيل لجنة تحقيق بذلك، لم يقبل أي من مؤسسات المجتمع المدني او الأطباء الخاصين، المشاركة فيها، لتقتصر على وزير عدل السلطة وأجهزة استخباراته يحققون، مع أهل الشهيد والأطباء، والأجهزة الأمنية يحتاجون لإذن للتحقيق معهم، وهذا يحتاج لموافقة وزير الداخلية، والذي هو أيضاً رئيس الوزراء، ولكن لا يمتلك السلطة والسيطرة على أجهزته الأمنية.. والبعض يقول: لماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟
الفتق والخرق اتسعا على الراتق، ولا بد من إجراء تغييرات جدية وجذرية في الواقع الفلسطيني، تغييرات تطال تغيير حقيقي في طبيعة دور ووظيفة وأداء السلطة، فإما أن تتحول الى سلطة خادمة لكل الشعب الفلسطيني وتحت مسؤولية المنظمة التي تغولت على صلاحياتها ومؤسساتها، وإما فلترحل غير مأسوف على رحيلها، سلطة في معركة "سيف القدس" شاهدنا العديد من سفرائها، غير مقنعين وغير قادرين عن التعبير عن الموقف وشرح الجرائم التي ارتكبها الاحتلال بحق المدنيين العزل، وبالذات الأطفال الذي قتلوا تحت الردم والبنايات التي جرى هدمها، ولنصل اليوم إلى محافظ، يريد التضامن سلطته، لا يفرق بين القرآن والشعر، وبالأمس يقف رافعاً صورة زعيمه، معلناً تحرير دوار المنارة من "المحتلين"!!
