Menu

دلالات تغيير النخب الحاكمة بين طهران وتل أبيب

د. محمد السعيد إدريس

على الرغم من الاختلافات الجذرية بين هوية وأيديولوجية النظام الحاكم فى طهران وهوية وأيديولوجية النظام الحاكم فى تل أبيب ورغم أن كلاً من إسرائيل و إيران يخوض علاقات صراعية بحتة مع الطرف الآخر، وأن كل منهما يرى صراعه مع الآخر "صراعاً وجودياً" وبالذات الإدراك الصراعى الإسرائيلى لإيران، إلا أن الصدفة وحدها قادت إلى حدوث تغييرات سياسية مهمة فى بنية السلطة الحاكمة وبشكل يكاد يكون متزامناً بين البلدين، لكن الأهم هو أن طبيعة التغيير الحادث فى السلطة الحاكمة فى تل أبيب بعد الانتخابات التشريعية العامة (الرابعة) الأخيرة التى جرت يوم 23 مارس الماضى وفى أقل من عامين تكاد تتطابق مع نظيرتها التى جرت فى طهران عقب ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية التى جرت يوم الجمعة 18 يونيو الجارى. فإذا كانت الانتخابات الإسرائيلية العامة تقول أن إسرائيل باتت تتجه من اليمين المتطرف بزعامة بنيامين نتنياهو وحزب الليكود إلى اليمين الأكثر تطرفاً بزعامة نفتالى بينيت فإن الانتخابات الرئاسية الإيرانية تقول أن الحكم فى إيران يتجه من الاعتدال تحت حكم الرئيس الحالى حسن روحانى المدعوم من تيار الإصلاحيين إلى حكم اليمين المحافظ تحت رئاسة الرئيس الجديد المنتخب إبراهيم رئيسى الذى سيتسلم مهامه الرسمية فى منتصف أغسطس المقبل مع فارق كبير هو أن السلطة الحقيقية فى إيران تبقى محكومة بقبضة المرشد الأعلى (الولى الفقيه) السيد على خامنئى، لكن المحصلة النهائية تقول أن كلا من إسرائيل وإيران أضحى خاضعاً لسلطة اليمين المتشدد فى البلدين فكيف سيؤثر ذلك على مستقبل الصراع بينهما؟ هل الحرب الشاملة الفاصلة أضحت مصيراً محتوماً لا مهرب منه، أم أن إسرائيل ستظل تتجنب التورط فى مثل هذه الحرب فى ظل غياب اليقين عن المشاركة الأمريكية فى مثل هذه الحرب، ومن ثم لن تجد مفراً من الاعتماد على الاستمرار فى خوض "حروب استنزاف" ضد إيران على أكثر من صعيد عسكرى وأمنى وتكنولوجى ونفسى على أمل كسب الصراع بالنقاط ضد إيران طالما أن كسبه بالضربة القاضية بات مستحيلاً؟ وهل يمكن لإيران أن ترضى بأن تظل رهينة لاستراتيجية حرب استنزاف إسرائيلية ضدها المعروفة بـ "الحرب بين الحروب" أى الحروب الجزئية دون الحرب الشاملة، أم أنها يمكن أن تخطط لتوريط إسرائيل فى حرب شاملة ضدها، آخذة فى اعتبارها غيبة أمريكية محتملة فى هذه الحرب ، ومن ثم امتلاك "حق الضربة الثانية" التى يمكن أن تكون قاضية إذا أحسنت إيران إدارتها؟
أسئلة من هذا النوع أخذت تتردد فى أوساط سياسية وإعلامية كثيرة خاصة فى كيان الاحتلال الإسرائيلى، ناهيك عن كل ما يدور من تساؤلات واستفسارات بخصوص مستقبل التفاوض الدائر فى العاصمة النمساوية فيينا بين إيران والقوى الدولية بما فيها الولايات المتحدة لتأمين عودة أمريكية إلى الاتفاق النووى مع إيران الذى انسحبت منه إدارة الرئيس دونالد ترامب السابقة فى أغسطس عام 2018، تؤمن لإيران إلغاء كل العقوبات التى فرضتها عليها إدارة الرئيس دونالد ترامب ، بقدر ما تؤمن أيضاً عودة إيران إلى أصل الاتفاق النووى أى تتراجع إيران عن كل تجاوزاتها التى أقدمت عليها فى الأشهر الأخيرة وخاصة برفع معدل تخصيب اليورانيوم من 3,67% إلى 20% ثم إلى 60%، واستبدال أجهزة الطرد المركزى العاملة فى تخصيب اليورانيوم بأخرى أكثر تطوراً وأكثر كفاءة بشكل يمكن أن يصل بها قريباً إلى امتلاك القدرة على إنتاج سلاح نووى؟
هل يمكن أن تتراجع واشنطن عن ترددها وتشددها فى مفاوضات فيينا وتعجل بالتوصل إلى اتفاق مع طهران يمكن من خلاله احتواء تشدد الرئيس الإيرانى الجديد وخلق مصالح إيرانية تدعم التمسك بالاتفاق النووى أملاً فى الحصول على ثماره وخاصة وضع طهران يدها على أكثر من مائة مليار دولار نقدية مجمدة وعودتها إلى تصدير النفط، ومن ثم توقف عجلة التطرف فى إيران، وتحد من مغريات انسحابها من محادثات فيينا ومن محفزات إلغاء التزامها بالاتفاق النووى والامتناع عن الإقدام على خطوة امتلاك السلاح النووى ؟ أم أن واشنطن مدعومة بالحليفين الفرنسى والبريطانى سوف تتجه إلى التصعيد وتنفذ تهديدات وزير خارجيتها انتونى بلينكن التى أعلنها عقب لقائه فى باريس مع الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون (الجمعة 25 يونيو الجارى) بأن بلاده "لن تفاوض طهران إلى ما لا نهاية"؟
إدارة بايدن، التى بدأت إجراءاتها الفعلية بسحب قواتها من أفغانستان ضمن توجه استراتيجى يفرض تنفيذ عملية "إعادة انتشار" للقوات الأمريكية فى إقليم جنوب شرق آسيا لمواجهة الخطر الصينى، تواجه ضغوطاً داخلية خاصة من عتاة اليمين الجمهورى داخل الكونجرس لعدم رفع أى عقوبات عن إيران، على غرار دعوة السيناتور الجمهورى تيد كروز بذلك، والذى وصف الرئيس الإيرانى الجديد إبراهيم رئيسى بـ "الوحش والطاغية" داعياً إلى فرض عقوبات عليه تحت قانون "ماجنيتكسى" لحقوق الإنسان وكذلك على المرشد الإيرانى على خامنئى.
توجه التشدد يجد أصداء أقوى فى أوساط الحكومة الإسرائيلية الجديدة . فالرئيس الجديد للحكومة نفتالى بينيت المحسوب على اليمين المتطرف وزعامة المستوطنين اعتبر أن انتخاب إبراهيم رئيسى رئيساً لإيران "جرس إنذار أخير" للعالم، ووصف فى أول جلسة يبثها التليفزيون لمجلس الوزراء منذ توليه منصبه يوم الأحد (6 يونيو الجارى) بأنه "جاء بدفع من المرشد الإيرانى على خامنئى وليس بتصويت شعبى حر"، وقال فى بيان له "انتخاب رئيسى هو آخر فرصة للقوى العالمية للتنبه قبل العودة للاتفاق النووى وإدراك مع من يتعاونون.. نظام جلادين وحشيين لا يجب السماح أبداً له بامتلاك أسلحة دمار شامل.. موقف إسرائيل حيال ذلك لن يتغير". أما وزير الخارجية الجديد شريك بينيت فى التحالف ورئيس الحكومة المنتظر بعد عامين، إذا ظلت على تماسكها، يائير لابيد فقد شن هجوماً حاداً على رئيسى رغم أن لابيد يمثل تيار الوسط فى الحكومة الجديدة ووصف الرئيس الإيرانى بأنه "متطرف ملتزم بالطموحات النووية للنظام".
مثل هذه التوجهات تشير إلى أن الأجواء ستكون شديدة التعقيد بين إيران وكل من إسرائيل والولايات المتحدة لكن مع فارق مهم فى صالح إيران. فالحكومة الإسرائيلية حصلت على الثقة بأغلبية 60 صوتاً فقط داخل الكنيست واعتراض 59 صوتاً وامتناع صوت واحد عن التصويت، ما يعنى أنها حكومة مهددة بالانفراط فى أى لحظة، كما أنها تخوض صراع وجود ضد إيران فى لحظة تحول استراتيجى درامية بالنسبة للولايات المتحدة التى تعطى كل التركيز لمواجهة الصين وليست مع تخليق أزمات فى مناطق إقليمية شديدة الحساسية للمصالح الأمريكية مثل الشرق الأوسط وبالأخص فى الخليج العربى، ناهيك عن أن إيران تدخل هذا الصراع وهى موحدة للمرة الأولى فالسلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية أضحت متجانسة فى تصنيفها السياسى تحت سيطرة المحافظين وزعامة المرشد الأعلى ومدعومة بتحالف قوى مع الصين وروسيا ما يجعلها عصية على الانكسار وأكثر ميلاً للتشدد ، وهذا بالتحديد أهم معالم التحولات المنتظرة .