يكتب التاريخ أن احتلال قديماً وحديثاُ لم يقوم على المجازر والقتل والدمار وارتكاب أفظع الجرائم، والاحتلال الصهيوني في فلسطين هذا الاحتلال الذي قال فيه الشهيد ابو علي مصطفى: "هذا احتلال استعماري استيطاني احلالي". وبالطبع ضمن الأدبيات هناك فرق بين الاحتلال العادي هذا الاحتلال الذي يقوم على نهب الأرض خيراتها وليجعلها قاعدة لأمن "المركز" الذي جاءت منه جيوشه وليستغل شعوب البلاد المحتلة، وفرق بين الاحتلال الاستيطانيSettler Colonialism وهو الاستيلاء على الأرض واستغلال سكانها واقتلاعهم من أراضهم وديارهم بالإبادة أو التهجير، فهو يحول البلاد التي يستعمرها إلى "أرض بلا شعب" ليجعلها أرضا خالصة له من دون أهلها وترحيل السكان الأصليين خارج الحدود إلى الدول اجاورة.
لستُ في هذا المقال بصدد الدخول بتفاصيل أنواع الاحتلال، ولكن علينا أن نعي معادلة أن في فلسطين التاريخية المحتلة، ومنذ أن وقعت تحت الانتداب البريطاني، الذي جعل منها فريسة للعصابات الصهيونية، كان هناك العديد من الشهداء سقطوا بالمجازر الصهيونية، وفي كتب التاريخ تتحدث بعض الروايات أن في مجزرة دير ياسين التي ارتكبت في 9 أبريل 1948 كان الاحتلال يقوم بقتل النساء الحوامل ومن ثم شق بطونهم وقتل الجنين الذي بداخلها هذه الحادثة التي قال فيها مظفر النواب في قصيدته تل الزعتر "والحامل تكشف بيت أنوثتها.. طرحوا الحامل أرضا.. سحبوا رحماً يتكون فيها في الليل فدائي". أن هذا الاحتلال سواء ما قبل عام 1948 ما بعدها كان وما زال يقوم على فكرة العنف ولديه عقده نفسيه مع الطفولة الفلسطينية.
تقول جولدا مائير: "الكبار يموتون والصغار ينسون" إن هذه المقولة تلخص حكاية الشعب الفلسطيني مع الاحتلال الصهيوني القائم على أرضهم منذ ما يقارب سبعة عقود، ولكن كانت تعلم جولدا مائير ان الكبار قد ماتوا بالمجازر التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني إبان النكبة وحتى اليوم، وأعتقد أن مقصدها بالصغار ينسون ليس بكي الوعي الممارس على الشعب الفلسطيني منذ احتلاله فقط بل بقتل هؤلاء الاطفال كلما سمحت الفرصة، والدليل إنها اعترفت في أحد كلماتها عندما قالت: "يمكننا أن نسامح العرب على قتلهم أطفالنا، ولكن لا يمكننا أن نصفح عنهم لإجبارهم إيانا على قتل أطفالهم".
في بلدة بيت أمر الواقعة شمال مدينة الخليل المحتلة مثلها كمثل سائر المناطق المحتلة سقط على أرضها وأرض فلسطين مجموعة من الشهداء كان آخرهم الشهيد الطفل "محمد العلامي 11 عام"، كان متوجهاً مع عائلته إلى البيت ويحتضن رغيف الخبز، تحت وابل من الرصاص ارتقى هذا الطفل شهيداً، إن لمحمد حكاية كما لكل شهيد حكاية هذه الحكايات علينا أن نكتبها ليبقى هذا التاريخ صادقاُ لا مزوراً لأن هؤلاء الشهداء وعائلاتهم هم الذين يكتبون التاريخ الحقيقي، تاريخ المنتصر.
إن نبضات روح محمد حاولت المقاومة وكانت تأبى الرحيل ففي مستشفى الاهلي في مدينة الخليل حاول الأطباء السيطرة على النزيف الذي سببته رصاصات جنود الاحتلال، كانت هذه النبضات بكل خفتها تتمسك بثقل هذا العالم، محمد الذي كان ككل الأطفال يسعى جاهداً للحصول على شهادة المدرسة والدخول إلى الجامعة بعد سنوات برصاصة واحدة بالصدر أصبح محمد يحمل أشجع واجرئ شهادة على أرض فلسطين، شهادة التضحية، شهادة الطفولة، ويبقى شاهد قبره علامة جديدة على هذا الاحتلال.
يقول غسان كنفاني في قصة "المدفع": "كم هو بشع الموت؟ وكم هو جميل أن يختار الإنسان القدر الذي يريد؟"، ولكن لم يكن والد الطفل الشهيد محمد يعلم أن قدر ابنه سيكون تحت رصاص الاحتلال، لقد جاءه محمد بعد سبعة سنوات من الزواج، وهذا دليل واضح أن الاحتلال لم يقتل محمد فقد بل قتل الفرصة أن يكون له طفل يحلم ليلاً ونهاراً أن يكون هذا الطفل طبيباً أو مهندساً أو حتى عاملاً...، كان يعمل هذا الأب يومياً لتحقيق هذا الحلم، لذلك قتل الاحتلال أيضا الحلم الفلسطيني، الحلم الإنساني، هذا الأب الذي قال بعد استشهاد محمد: تقريبا مشط رصاص ضربوه للسيارة وكنت أنا وولادي محمد 11 سنة وعنان 9 سنوات وأحمد 5 سنوات، محمد بعد سبع سنين لخلفته دم قلبي حطيت عليه". وبجملة واحدة لخص والد الشهيد محمد الحسرة الفلسطينية هذه الكلمة التي تختصر الوجع الفلسطيني" من جوا قلبي أخذوك يابا".
إن الشهيد محمد ليس بعيد عن بيئة الشهداء، فهو يسكن بالقرب من مدخل بلدة بيت أمر تعرف المنطقة هناك بجبل عصيده، هذا الجبل الذي قدم أول شهداء الانتفاضة الثانية في البلدة الشهيد إبراهيم العلامي، وأصبح يعرف منذ ذاك اليوم بجبل الشهداء، لقد أرتقى في هذا الجبل الشهيد نضال العلامي وهو خال محمد، وعمه الشهيد أمجد العلامي، وما زالت والدة نضال ووالدة أمجد وهن جدات محمد الذين قال فيهم تميم البرغوثي في قصيدته جداتنا: "تهد اعتبارات السياسة كلها إذا ذهبت تحت القنابل تخبزُ". تحتفظان هاتان الجدتان بملابس فلاذت أكبادهم كما يحبون أن يسموهم في خزائن خاصة، ويحتفظون أيضا بصور الشهداء معلقات على "جدار الأحبة" وعلى هذا الجدار يضاف اليوم صورة محمد، وما بقي هذا الاحتلال سيبقى هذا الجدار يمتلئ.
لم يكتمل حلم محمد برغيف الخبز ولا حلم العائلة بالسعادة بذلك الرغيف هذه السعادة التي قتلها الاحتلال أيضا، فأصبح الخبز الذي بداخل السيارة مغمس بالدم، وسيعود محمد كسائر الشهداء مرفوع على الاكتاف لتوديع جسده بعد أن يوضع فوق صدر أمه تلك الأم التي تعجز كل لغات المعمورة بوصف ملامح وجها بعد فقدان طفلها، ووصف دموعها، ووجعها، ووصف 9 شهور حملت فيهم محمد وليصبح هنا حمل عن حمل بفرق، وككل الشهداء تهتف الجماهير "بالروح بالدم نفديك يا شهيد... وحدة وحدة وطنية فتح وحماس وشعبية..." وتستمر تهتف "يا فلسطين قومي وشدي الحيل بيت أمر لسا بخير".
كان يجب أن تنتهي هذه المقال عند حدود قصة استشهاد الطفل محمد، ولكن واقع الشعب الفلسطيني تبقى السطور فيه مفتوحة، واختراع في حالات أخرى سطور جديدة، لأن وجود الاحتلال يبقى الجراح مفتوحة، ففي أثناء تشييع جثمان الشهيد "محمد العلامي" تناولت الاخبار "إصابة بالرأس والوضع الصحي خطير" كحالة محمد مكث الشهيد شوكت عوض ساعات في مستشفى الميزان في مدينة الخليل كانت دقات قلبه تصارع البقاء، وتصارع دموع امه ووالده، وكانت تصارع قلوبنا التي تتمنى أن لا يكون هناك شهيد آخر، ولكن كانت أمنياته بأن يكون شهيد أقوى من كل الأمنيات الأخرى لأنها كانت الأمنية الحقيقة، هذا الشهيد الملثم الذي وقف مقابل جنود الاحتلال بحجارته يصنع معادلة التوزان التي فشلت فيها سياسة السلطة منذ توقيع اتفاق أوسلو.
لم يكن الشهيد شوكت عوض بعيد هو الآخر عن جبل الشهداء، ففي عام 2001 إبان الانتفاضة الثانية استشهد الطفل "شوكت العلامي" لتطلق عائلة الشهيد "شوكت عوض" تيمن بالشهيد "شوكت العلامي" إن قصص الشعب الفلسطيني مترابطة ومتماسكة في بعضها البعض لتصنع حكاية الوطن، هذه الحكايات التي كلما بدأت واحدة فيهم فتحت جروح الحكايات قديمة لعائلات الشهداء، عند ارتقاء شهيد ستجد بيوت عائلات الشهداء كأنها اليوم استشهد ابنها.
إن الشهيد شوكت كان دائماً يحن إلى خبز أمه كما كان الشهيد محمد أيضا هذا الخبز الذي غنى له مارسيل خليفة "أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي.. ولمسة أمي.. وتكبُر في الطفولة يوماً على صدر يوم وأعشق عمري لأني إذا مت، أخجل من دمع أمي!" وها هن أمهات الشهداء سيبقن يحنن إلى أطفالهم وأشكالهم البريئة وهم يتناولون الخبز المصنوع بكل حب، وكل صباح ستلقي هاتان الامهات قصيدة حالة حصار لمحمود درويش "الألمْ هُوَ: أن لا تعلِّق سيِّدةُ البيت حَبْلَ الغسيل صباحاً، وأنْ تكتفي بنظافة هذا العَلَمْ". إن الشهيد شوكت قد مارس بحجره ايمانه الحتمي بالنصر، واستشهد تضحية في سبيل هذا النصر، لقد كان الموقف الذي ترفع له القبعة بالرغم من صغر سنه.
بين العلم الفلسطيني ورايات الفصائل الفلسطينية وصوت الجماهير الغاضبة في جنازة محمد العلامي، كان الشهيد شوكت عوض كأنه رايه من نوع آخر، راية الشهيد، ولم يكن يعلم وربما كان يعلم أنه غداً سيكون هو النعش الممد عليه جسده المحمول على الأكتاف تهتف له هو الآخر وتلقي ما تبقى في جعبتها من حجارة. وعلى هذه الجماهير بعد دفن محمد وشوكت الذي ستبقى حكايتهم فينا حكاية الطفولة والشهادة أن تبقى تهتف قصيدة الشاعر محمود درويش التي غِنَاهَا الفنان مارسيل خليفه "عندما يذهب الشهداء الى النوم":
عندما يذهب الشهداء الى النوم أصحو
وأحرسهم من هواة الرِّثاء
أقول لهم
تصبحون على وطن
من سحابٍ ومن شجرٍ
من سراب وماء
أهنئُهُم بالسلامةِ من حادثِ المُستحيل
ومن قيمة المذبح الفائضة
وأسرقُ وقتَا لكي يسرقونى من الوقتِ
هل كُلُنا شهداء؟
لأن هؤلاء الشهداء هم الذين عليهم أن يصحو بعد دفنهم ليجدوا الوطن لأنهم هم الذين دافعوا عنه.