Menu

المشهدُ الفلسطيني بين مطرقةِ الاحتواءِ وسندانِ استمرارِ المعركة

محمد أبو شريفة

نُشر هذا المقال في العدد 28 من مجلة الهدف الإلكترونية

اعتقدت قيادةُ السلطةِ الفلسطينيةِ بعد خسارةِ ترامب للانتخاباتِ الرئاسيّةِ الأميركية، وصعودِ نجم بايدن وما يحمله من سياساتٍ تجاهَ المنطقةِ أنها ستستثمرُ السنواتِ العجافَ التي عاشتها مع الإدارةِ السابقة، حيث أعطت الإدارةُ الأميركية مؤشراتٍ على عودةِ الدفءِ لهذه العلاقة، أهمُّها: وقفُ تجميدِ المساعدات المالية للسلطة ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، وعودة عمل ممثلية منظمة التحرير في واشنطن، وكذلك فتح القنصلية الأميركية في شرقي القدس . كل تلك المؤشرات دفعت السلطةُ في رام الله إلى الاسترخاءِ مع الخارج والاستقواء مع الداخل، وبدل أن تتكيف السلطة مع هذه المتغيراتِ قامت بأفعالٍ ارتكاسيةٍ عبرَ إلغاءِ الانتخابات المقررة، تحت حججٍ غيرِ مقنعة. وبالمقابل حاولت استثمارَ معركةِ سيف القدس لصالحِها عبرَ الضغطِ على غزة من خلالِ بوابةِ الإعمار، وأضافت ندبةً جديدةً في جبينِها بعد أن أقدمت أجهزةُ أمن السلطة على اعتقال الناشط السياسي نزار بنات بشكلٍ غيرِ قانوني، ووفاته الفورية جرّاءَ ما تعرض له من تعذيب. وما تلاها من أحداثٍ جعلت السلطةَ تحشرُ نفسَها في الزاوية، فهي الآن تقاتل على جبهات كثيرة، ولكن عينها على الإدارة الاميركية التي بدأت تصدر منها إشاراتٌ غير مطمئنة، فالإدارة الديمقراطية في البيت الأبيض تضغط على السلطةِ وأجهزتِها في سبيلِ فتح مساحةٍ للحرياتِ في الضفة الغربية، ولكنْ هذه الحرياتُ متاحةٌ لمنظماتِ المجتمع المدني، وهذا المؤشرُ الأخير للسلطة ظهر بوضوحٍ بزيارة عمرو هادي مساعد وزيرِ الخارجية الأميركي لفلسطين حين اجتمع بعشراتٍ من نشطاءِ المجتمعِ المدني من مدنِ الضفة وقراها كافةً، قبل لقاءِ أي مسؤولٍ فلسطيني. وسياسيًّا، يُفهم هذا الأمر على أن الإدارة الأميركية تضع الملفَ الفلسطيني ضمنَ خياراتٍ عدة، وتقدم له مقارباتٍ مختلفةً عن وجهةِ نظرِ السلطة، فلم تتحدثْ حتى الآن على عودةِ المفاوضاتِ بين السلطة و(إسرائيل). وفي المقابل، بنت السلطةُ توازناتِها الاقتصاديةَ والسياسيةَ على أملِ أن تُفتح لها الأبوابُ في واشنطن ولهذا – كعادتها – السلطةُ حين تدخل في مـأزقٍ تعلن حالةَ الإفلاس. ويبدو أن هذا الإعلانَ لن يفيدَها اليوم في شيءٍ، خصوصًا في ظلِّ هذه المواجهةِ المفتوحةِ مع الإدارةِ الأميركية الجديدة لأكثرَ من سبب، أهمُّها: أنّ إدارةَ بايدن لا تستهدف السلطةَ الفلسطينيةَ كمؤسسات، ولكن على ما يبدو، أنّ عينَها على محمود عباس، وتلّوح بأن ثمةَ سيناريوهاتٍ في الأفق، لإزاحة الرئيس الفلسطيني قبل البَدْءِ في أيّ مشروع تسووي. ومن الأرجحِ أنّ الإدارةَ الأميركيةَ باتت تعتقد أن الرئيس الفلسطيني قد أصبح عقبةً ولا بد من التغيير، ولكنّ الناظرَ للمسرحِ الفلسطيني يرى بوضوحٍ أن إدارةَ جو بايدن لم تصل حتى هذه اللحظةِ إلى مستوًى محدّدٍ في كيفيّة التغيير، لكنها على ما يبدو قد وصلت إلى مرحلةِ اتّخاذِ القرار. وكأنّ خريفَ محمود عباس قد اقترب، والأيامُ والأشهرُ القادمتان ستظهران بوضوح، وسيتم اختبارُ نوايا الإدارة الأميركية الجديدة، والتي تستخدم دبلوماسيةَ الصمتِ القاتلة، وذلك بعد أن أغرقوا المسرحَ الفلسطيني بجملةٍ من التناقضاتِ الضخمة، وعزلوه عن محيطهِ العربي.

في حين أنّ المشهدَ السياسي الفلسطيني برمّتهِ غيرُ قادرٍ على إعادةِ التوازن؛ لأنّ الثقل السياسي في غزة عاجزٌ عن اختراق هذا الحصارِ السياسي، فحركةُ حماس – وبكل ما تملكه من زخمٍ سياسي وعلاقاتٍ مع الفصائلِ الأخرى – غيرُ قادرةٍ على الإمساكِ بزمامِ المبادرة، ولاحظنا أنّ الحديثَ عن الحواراتِ الفلسطينيّةِ والمصالحاتِ والانتخاباتِ قد غابت مفرداتُها من أجندةِ السياسيين الفلسطينيين؛ لأنه بكل بساطة قد رفع الغطاءُ الإقليمي عن هذا الملف، وكلُّ بلدٍ في المنطقةِ يهرول إلى الإدارةِ الأميركية منفردًا؛ ليقرأ من دفترِها ما تريد، والبعضُ منهم قدّم أوراقَ اعتمادِ تطبيعِ العلاقاتِ مع (إسرائيل) وأعطى انطباعًا بأنّ القضيّةَ الفلسطينيّةَ انتهت، وأنّ الصراعَ العربي الإسرائيلي بلغ نهايتَه.

وضمنَ سياقِ تفاعلاتِ المشهدِ الفلسطيني، توقّع عديدُ المراقبين بولادةِ واقعٍ جديدٍ بعد معركةِ سيف القدس التي أرست مفاهيمَ جديدةً في تاريخِ الصراعِ والمواجهةِ مع المحتلِّ الإسرائيلي. وممّا لا شكَّ فيه أنّ المفاهيمَ الجديدةَ آتيةٌ لا ريبَ فيها وقد آنَ الأوانُ لكي نفهمَ هذهِ الحقيقةَ قبلَ فواتِ الأوان.

إنّ الوضعَ الفلسطيني برمّتِهِ يمرُّ اليوم بمرحلةِ مخاضٍ قاسية، فمنذ ولادةِ أوسلو عامَ 1993 ونحن نعيش حالةَ الانتكاس الوطني، إلى أن جاءتنا معركةُ سيف القدس فجأةً؛ فأخذت تجرفُ أمامها معظمَ ما ألفناهُ ونشأنا عليه من حقبةِ التسوية، ولكن تفاجأنا بتراجعِ الحراكِ السياسي الفلسطيني وانحسارِهِ بعد سيف القدس، في الوقتِ الذي كنا ننتظرُ فيه من القياداتِ الفلسطينيّةِ في السلطةِ وحركةِ حماس أنّ يساعدوا الشعبَ والمقاومةَ في تجاوزِ أزمةِ المخاضِ هذه، لكننا وجدناهم على العكسِ من ذلك، يحاولون أن يقفوا في طريقِ تحقيقِ الإنجازاتِ الوطنية، واختزالِ الانتصارِ ونتائجِ المعركةِ في البحثِ عن المصالحِ الفئويةِ الحزبية، ومحاولةِ مصادرةِ القرارِ الفلسطيني، والتفرّدِ بمستقبلِ شعبِنا ومصيرِه.

وفي هذهِ الأثناء، نرى أن الحكوماتِ الإسرائيليةَ المتعاقبةَ تهدف من شنِّ حروبِها العدوانيّةِ المستمرةِ إلى كسرِ إرادةِ شعبِنا، وفرضِ سياسةِ العصا والجزرةِ مع المقاومةِ الفلسطينيّة في غزة، المتمثّلة في حماس؛ إذ تحاول احتواءَها وتطويعَها والدفعَ بها نحو تكريسِ الانقسامِ الفلسطيني، وتشجيعَها عبرَ وسطاءَ إلى إقامةِ كيانٍ سياسي موازٍ في قطاعِ غزة، بغيةَ التعاملِ معها والقبولِ بها بمعزلٍ عن القيادةِ الفلسطينيّةِ في رام الله. وفي الوقتِ ذاتهِ تهدد القطاعَ بعودةِ العدوانِ والقتالِ المروعِ حال لم تقبل حماس باملاءاتها وخضوعِها لتسويةٍ إقليميّةٍ بشروطٍ إسرائيلية. لذلك فالخيارُ الملزم أمام طرفي الانقسام هو تعزيزُ الوفاقِ الوطني، وعدمُ تجاهلِ مخاطرِ الانقسام والتفرّدِ بقرارِ الشعب الفلسطيني، والعملُ بجديّةٍ على تحقيقِ وحدةٍ وطنيّةٍ فلسطينيّة، من خلال مشروعٍ وبرنامجٍ وطنيينِ موحدينِ يعيدان الاعتبارَ الى منظمةِ التحرير الفلسطينية، وتفعيلَ مؤسساتِها، وتعزيزَ الجهودِ من أجل إنجاحِ المصالحةِ الفلسطينية وإنهاءِ الانقسام، مع الحذر من محاولاتِ خطفِ الانتصارِ عبرَ الزجِّ بهِ في دوامةِ عناوينَ إشكاليةٍ بين الأطرافِ المعنيّةِ لفرضِ اشتراطاتٍ جديدة ، وأن أيّةَ إجراءاتٍ أو مجرّدَ التفكير من بعضِ القوى أو الجهاتِ لتشكيلِ مرجعيّةٍ بديلةٍ عن منظمةِ التحرير الفلسطينيّة، والاستئثارِ باللقاءاتِ الثنائيّةِ دون القوى الأخرى، هو طعنةٌ في خاصرةِ القضية، وستكون له تداعياتٌ خطيرةٌ على الشعبِ الفلسطيني. لذلك يجب بناءَ استراتيجيّةٍ وطنيّةٍ شاملةٍ تعكس التطوراتِ السياسيّةَ والعسكريّة، وتلبي الطموحاتِ الفلسطينيّة.

إنّ الواقعَ الحالي الذي رسمت ملامحَهُ معركةُ سيف القدس يعدّ بمثابةِ فرصةٍ تاريخيّةٍ للقيادةِ الفلسطينيّة، ولعمومِ القياداتِ والشعوبِ العربيّةِ لخلقِ معادلةٍ جديدةٍ للمواجهةِ ودعمِ المقاومةِ الفلسطينية، لأنّ وقفَ إطلاقِ النارِ القائم لا يعدو كونَهُ بدايةً لإعادةِ رحى المعركةِ من جديدٍ بين الفلسطينيين وكيانِ الاحتلال، كما أن تدخل إدارة بايدن هو لإدارةِ الصراعِ ليس إلا، حتى لا يخرج عن السيطرة، وحكومةُ اليمين الإسرائيليّةُ الجديدةُ لا تمتلك نوايا تسويةٍ بقدرِ أنّها تريدُ تثبيتَ حالةِ الصراعِ مع المحيطِ انطلاقًا من مرجعيّةٍ أيديولوجيّةٍ عنصريّة، فما تحقّقَ من مكاسبَ في معركةِ سيف القدس يجب ألا يذهبَ هباءً منثورًا في كواليسِ الخلافاتِ السياسيّة.