Menu

من الرصد الثوري إلى دايتون... مفهوم الأمن الفلسطيني

مهند إبراهيم أبو لطيفة

تتعرض أجهزة الأمن الفلسطينية، والتي يعمل في صفوفها آلاف من أبناء شعبنا الفلسطيني، لحملة متواصلة من الانتقادات اللاذعة من مختلف الاتجاهات، ولا تتركز الانتقادات فقط على الأجهزة الأمنية التي تتبع للسلطة الفلسطينية ومعظمها من المحسوب تنظيميًا على حركة فتح، ولكنها تمتد لتطال الأجهزة التي تتبع حركة المقاومة الإسلامية حماس في قطاع غزة. وبالتأـكيد في ظل الانقسام الفلسطيني المتواصل منذ سنوات، تكال التهم يمينًا ويسارًا للطرفين- ومع الإقرار بوجود الكثير من المبررات لهذا النقد والذي يتحمل مسؤوليته وبكل صراحة ووضوح الطبقة السياسية والقيادية الفلسطينية - ووجود بعض التشويه المقصود أحيانًا، إلا أنه من حق الشعب الفلسطيني أن يرفع صوته عاليًا ويحتج على جميع الممارسات القمعية والبوليسية بغض النظر عن أي جهة تصدر، ومن حقه أن يطالب الجميع بعدم إستنساخ تجارب الاستبداد التي عانت منها منطقتنا العربية ولا تزال.

تعرض شعبنا الفلسطيني منذ الاحتلال البريطاني حتى يومنا هذا - ولا يزال- لضغوطات نفسية وسياسية واقتصادية، ومعاناة شديدة من قبل الاحتلال الفاشي وعنصريته أولًا، والعديد من أجهزة الأمن العربية، وتولدت عنده حساسية عالية منها ونفور شديد لتجاربه المريرة التي تركت بصماتها عليه، إضافة لما يراقبه من  تزايد المخاطر التي تهدد وجوده وحقوقه الوطنية ومستقبل قضيته في ظل غياب الاجماع الفلسطيني حول مشروع وطني موحد، وغياب المرجعية االسياسية الجامعة وهشاشة الكيانات السياسية المتصارعة مقارنة بالطموحات الشعبية.

بالرغم من الانحياز الكامل لكاتب هذه السطور لصف المقاومة، ورفضه لاتفاقية أوسلو جملةً وتفصيلًا وكل تبعاتها، وقناعته التامة بأن المشروع الوطني الفلسطيني هو: تحرير فلسطين، كامل فلسطين من البحر إلى النهر، إلا أن أي ممارسة يتم فيها التعدي على أي حق من حقوق الإنسان الفلسطيني الأساسية كان ينتمي لفتح أو لحماس أو أي فصيل أخر، وفي مقدمتها حقه في التعبير عن رأيه بكل حرية، وحقه في احترام كرامته وآدميته، هي ممارسة مرفوضه ومدانة، ولا يبرر حمل السلاح للمقاومة إهدار كرامة أي مواطن فلسطيني، فالنضال أو الجهاد الذي لا يكون هدفه تحقيق الحرية للأرض والإنسان، يتحول إلى "بلطجة مسلحة"، وشعبنا الحر الكريم المعطاء لا يستحق سوى الإكرام والتقدير والتضحية من أجله، وهو لن يرضى بالانتقاص من حقه في العيش الحر الكريم تحت أي شعار أو تبرير.

وعليه يجب على المنظومة الأمنية قيادة وأفراد، قبل أن تستوعب تقنيات العمل المهني، أن تدرك أن دورها الاساسي هو: حماية الإنسان الفلسطيني وحقوقه، وأن مهمتها المركزية وواجبها العمل على الدفاع عن مشروعه الوطني ورعاية مصالحه، وأن أي دور وظيفي أو فئوي لا يقوم على هذين الاعتباريين لا يمكن أن يوصف بالوطنية على الإطلاق، وأنها يجب أن تكون دائمًا خاضعة للمحاسية والمسألة والرقابة الشعبية والمؤسساتية، ولا يحق لها أن تتغول على شعبها أو أن تمارس أي نوع من الفوقية والاستبداد، والأيادي التي تتلطخ بدم أي فلسطيني مظلوم هي أيادي مجرمة.

في كتابه "حركة فتح والإنجازات الثورية" يوثق اللواء محمود الناطور (أبو الطيب) عن بدايات حركة فتح، وأنها عند تشكيل هيكلها التنظيمي، وتوزيع المهام على أعضاء لجنتها المركزية، تم إسناد مهمة تشكيل جهاز أمني أطلق عليه "الرصد الثوري" إلى الشهيد صلاح خلف (أبو إياد)، ولحساسية المناضلين في ذلك الوقت من تسمية "جهاز المخابرات"، تم اختيار هذا الأسم لينسجم مع المهمة الأساسية الوقائية التي أريدت له، وللدفاع عن الثورة الفلسطينية وحمايتها من الداخل والخارج، ولكي تكون جهازا تنفيذيا في معركة التحرر الوطني.

 وبمساعدة من مصر عبد الناصر، تم تدريب عدد من الكوادر في مصر، حيث كانت أول دورة والتي استمرت ثلاثة أشهر تحت إشراف المصريين وشارك فيها: علي حسن سلامة (أبو حسن)، سفيان الأغا (مجيد)، مهدي بسيسو (أبو علي)، فخري العمري (أبو محمد)، مريد الدجاني (أبو رجائي)، مهنا عزيز الطاهر، محمد داود (أبو داود) ومحمد صبيح، وترأس الفرقة التي تلتها غازي الحسيني، وشارك فيها عدد كبير منهم أبو حسن قاسم، باسل أبو هولة وغيرهم، وجميع الأسماء المذكورة تركت بصماتها على العمل الوطني الفلسطيني بأشكال مختلفة، ولعبت دورًا كبيرًا ومهما في النضال الوطني.

كان الجهاز يقوم بعدة مهام، تبدأ بالاستطلاع العسكري لمناطق التماس مع العدو الصهيوني، وتشمل تشكيل قوة تنفيذية كبيرة ومتكاملة ومجهزة بكل أسلحتها بصورة جيدة، ويقيم معسكرات التدريب العسكري والأمني مثل معسكر اللواء في السخنة في محافظة الزرقاء الأردنية عام 1969، ويتم تخرج أفواجًا من الثوار الفلسطينيين والأمميين. وكان للجهاز أقسام مختلفة منها: قسم للمعلومات والتوثيق، وقسم لمكافحة التجسس، النشاط العام، الأمن الداخلي، أمن الأقاليم المختلفة، قسم للتدريب والإعداد، وقسم للبحث العلمي (التجسس العلمي).

 ومع إقرار اللواء أبو الطيب بوجود بعض الممارسات والأخطاء التي رافقت التجربة، إلا أنه أشار إلى أن الجهاز كان يسعى لمواجهة الممارسات البدائية الخاطئة في التحقيق مثل: الشبح والدولاب والحلاق والضرب المبرح...الخ.، وأن الجهاز خضع للمحاسبة من المجلس الثوري لحركة فتح خصوصًا بعد الخروج من الأردن، بعد اتهامه بممارسة العنف والهيمنة والتسلط، وتم إبعاد أبو إياد عن رئاسة الجهاز وتسليمه ملف الأردن، وتجميد أبو حسن سلامة، وتكليف محمود عباس (أبو مازن) ليشرف بشكل مؤقت على الجهاز، ثم وبعد انعقاد المؤتمر الثالث لحركة فتح في دمشق في أيلول /سبتمبر 1971، تم تكليف محمد يوسف النجار (أبو يوسف) بمهمة الإشراف على إعادة تشكيل جهاز الأمن، وأعيد تشكيل الجهاز مرة أخرى في أعقاب اغتيال أبي يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر، في بيروت في نيسان 1973، حين قامت اللجنة المركزية مجددًا بهيكلة الجهاز وتعيين هايل عبد الحميد (أبو الهول) ليشكل الأمن المركزي لفتح، ثم تولى أبو إياد مسؤولية جهاز الأمن الموحد الذي كان من المفترض أن يجمع كافة أجهزة الأمن لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم تم تكليف عطالله عطالله بمسؤولية جهاز الإستخبارات العسكرية، وتم تكليف علي حسن سلامة (أبو حسن ) بمسؤولية جهاز 17- أمن الرئاسة.

كانت من المهام الرئيسية لهذه الأجهزة، إضافة لأجهزة باقي الفصائل الفلسطينية التي شكلت لها أيضًا مؤسسات أمنية حسب حجمها وإمكانياتها المالية:

1 – الدفاع عن الحركة الوطنية الفلسطينية وإسناد العمل الوطني.

2 – الأمن الوقائي ومكافحة التجسس والاختراق.

3 – دعم العمل الفدائي في الأرض المحتلة والخارج.

4- الكشف عن محاولات الاغتيال، وجمع المعلومات عن الكيان الصهيوني

5- مهام التدريب والتأهيل وعقد الدورات المتخصصة وتنظيمها داخليًا وخارجيًا.

6- حماية الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع وملاحقة العملاء.

7- تسهيل مهمات المناضلين في مختلف مجالات العمل، السفر، التنقلات، حماية الشخصيات، توفير بعض الموارد المادية والدعم اللوجستي والتسليح.

وبالرغم من الظواهر السلبية التي رافقت عمل هذه الأجهزة كدعم بعض الانشقاقات في صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية، وعدم المحاسبة على بعض التجاوزات ومنها استخدام أساليب قمعية وبوليسية ضد المخالفين كما حصل من قبل بعض الفصائل، والتورط في بعض الخلافات والصراعات، إلا أن عملها كان بالإجمال يتركز على مواجهة الكيان الصهيوني، والحفاظ على الثورة الفلسطينية وإستمراريتها ومكتسباتها، وكانت علاقتها بمجموع الشعب الفلسطيني مختلفة تمامًا، وصورتها في عيون هذا الشعب – في ذلك الوقت -  أنها امتداد لمنظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وأنها جزء أصيل من العمل الفدائي المقاوم، ونادرًا ما كانت هدفًا مباشرًا للإنتقادات إلا في بعض الأوساط، ولم تكن تنعدم إمكانية التأهيل والتدريب والإعداد بالرغم من الإمكانيات المحدودة، وهذا يدل على أن إعادة هيكلة أي جهاز، وإعادة الاعتبار لدوره الوطني، ممكن من الناحية النظرية لو توفرت الإرادة الوطنية والقرار السياسي، وتوحدت الجهود وأصبح هناك توافق على إيجاد مرجعية وطنية، وفُتح المجال للمشاركة الشعبية في ممارسة دورها وانتخاب ممثليها، بدل أن تكون الأجهزة من العوامل الإضافية لاستمرار الانقسام والشرخ الذي لا يملك شعبنا خيارات أفضل في هذه المرحلة سوى تجاوزه بالرغم من التشاؤم المبرر جدًا.

أسست اتفاقية أوسلو وما تبعها من اتفاقيات وملاحق، لحالة مختلفة تماما لأسباب عديدة، من أهمها الالتزامات التي تم توقيعها وتم إلزام الطرف الفلسطيني بها، ناهيك عن دور فريق الجنرال دايتون، فمثلًا :نصت اتفاقية "طابا" التي وقعت أواخر شهر سبتمبر عام 1995 في مادتها العشرة على كيفية إعادة الإنتشار والترتيبات الأمنية، وفي مادتها الثالثة عشرة تحدثت عن الأمن بعد اكتمال إعادة الانتشار للقوات العسكرية "الإسرائيلية"، وأن الكيان هو من يتحمل المسؤولية العليا للأمن من أجل "حماية الإسرائيليين ومواجهة الإرهاب"،  بينما تسلم مهمة حفظ النظام العام للشرطة الفلسطينية، وتحدد هذه الاتفاقية في مادتها الخامسة عشر المهمة المركزية وهي: "منع الأعمال العدوانية"، وتحظر في المادة الرابعة عشر حمل السلاح سوى لتحقيق هذا الغرض، ويمنع على أي منظمة أو مجموعة أو فرد في الضفة الغربية وقطاع غزة، إمتلاك السلاح حتى "ملح البارود"، وبالرغم من البيانات الختامية لبعض المؤتمرات التي حملت العبارات الرنانية حول "سلطة مقاومة"، إلا أن هذه الاتفاقية تمثل الأرضية التي من المفترض أن تعمل بناء عليها الأجهزة الأمنية، أي إيقاف جميع أشكال المقاومة الشعبية (عدا المقاومة بالزهور).

مثال آحر، هو ما سمي ب "خارطة الطريق"، وهي عبارة عن خطة سلام أعدتها عام 2002 اللجنة الرباعية، التي تضم كلا من الأمم المتحدة والولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي وروسيا، وتتضمن ثلاثة مراحل يجب تطبيقها كاملة قبل عام 2005، ولم تلتزم بها حكومة الكيان على الإطلاق، وتبين ما هو هدفها الحقيقي، ومن ما شملته هذه الاتفاقية من بنود موزعة على مراحلها:

- وقف السلطة الفلسطينية فوريًا للانتفاضة، والمقاومة في جميع أنحاء فلسطين.

- وقف التحريض ضد الاحتلال الإسرائيلي.

- التنسيق الأمني الفلسطيني- الإسرائيلي (الذي أصبح مقدسًا من طرف واحد).

- إجراء انتخابات وتعيين حكومة فلسطينية جديدة برئاسة رئيس وزراء جديد (وكانت النتيجة إضعاف وعزل الراحل الشهيد أبو عمار ومن ثم اغتياله).

- الكف عن المساس بالمدنيين الفلسطينيين وأملاكهم.

- انسحاب جيش الاحتلال من المناطق التي احتلت منذ 28 سبتمبر / أيلول 2000.

- عقد مؤتمر دولي بشأن احتمال قيام دولة فلسطينية في حدود مؤقته، حتى نهاية العام 2003.

- عودة وإستئناف العلاقات بين العرب وإسرائيل.

- عقد مؤتمر دولي ثالث للنقاش بشأن الإتفاق الدائم والنهائي، الذي يفترض أن يُنجز عام 2005، ويتعلق بالحدود و القدس والمستوطنات.

- إنشاء علاقات طبيعية بين العرب وإسرائيل.

أجريت على الاتفاقية بعض التعديلات، وبالرغم من ذلك كانت النتيجة كارثية على الشعب الفلسطيني: اغتيال أبو عمار ، وإحالة المئات على التقاعد وتحييد عشرات الشخصيات السياسية، وقف الانتفاضة والمقاومة، وتعميق الشرخ في المجتمع الفلسطيني، وتحولت السلطة لأداء دور وظيفي مراعاة للجنة الرباعية وشروطها، وبالتالي ابتزاز التمويل الدولي والإقليمي العربي، وملاحقة وهم إمكانية تحقيق مكتسبات سياسية للكيان السياسي الفلسطيني العاجز، واستمرار التوسع الاستيطاني، وتخفيف العبء والتكلفة على الإحتلال. وأصبح المشروع الوطني الفلسطيني على أرض الواقع وبعيدًا عن الشطحات والخزعبلات يتلخص في تأمين رواتب الموظفين آخر الشهر!

أما عن دايتون، فهو الجنرال كيث دايتون، المنسق الأمني الأمريكي بين السلطة الفلسطينية وكيان الاحتلال، شغل هذا المنصب بدأ من عام 2005، وترأس فريقًا من الضباط الأمريكيين والكنديين والبريطانيين والأتراك، وكانت مهمته هيكلة وبناء قوات أمن السلطة الفلسطينية، وتم استدعاء هذا الجنرال بعد وصول حركة حماس إلى السلطة، ليبدأ بالإشراف على تدريب الأجهزة الفلسطينية من مقره في القدس.

في برنامج ندوة SOREF حول سياسة الشرق الأوسط التابع لمعهد واشنطن وبإدارة مايكل ستاين، تحدث دايتون بتاريخ 7 أيار / مايو عام 2009 عن تجربته وعمله الذي قام به، وتاليا اقتباسات حرفية مما جاء على لسانه في الندوة:

"وآمل في هذه الأمسية أن أشارككم في أفكاري حول المواضيع التالية: السلام من خلال الأمن، ودور أمريكا في بناء قوات أمن السلطة الفلسطينية. ولكن تذكروا، وأنا أواصل كلامي بأن أمريكا ليست وحدها، بل أيضًا معها كندا، والمملكة المتحدة، و تركيا من يعمل على هذه المهمة في الوقت الراهن.

سأتحدث عن الفرص المتاحة وأعرج ملامسًا التحديات. سأترك السياسة والسياسات (الاستراتيجيات) لمن هم أكثر معرفة مني بها، فالدول المنخرطة في هذا المشروع قد أرسلت ضباطًا ليكونوا جزءًا من فريق العمل على هذه المهمة، ودعوني أستخدم عبارات يرددها الباحثون في هذا المعهد عن السبب في ذلك «إن القوانين السارية في لاس فيغاس لا يمكن العمل بها في الشرق الأوسط» وفي حين أن ما يجري في لاس فيغاس يبقى في لاس فيغاس، لكنه ليس صحيحًا أن ما يحدث في الشرق الأوسط يبقى في الشرق الأوسط. ونحن جميعًا في فريق التنسيق الأمني نتشاطر القناعة بأن حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو من مصلحة وطنية لدولنا على التوالي، وبالتالي للعالم أجمع. دعوني في البداية أعرض بعض المبادئ الأساسية التي استند إليها في عملي هذا.

أولاً: وكما أسلفت، فإني أؤمن بعمق أن المساعدة على حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني تصب في مصلحة الأمن القومي للولايات المتحدة.

ثانيًا: أنا واحد ممن يؤمنون إيمانًا راسخًا بحل الدولتين. دولة فلسطينية تعيش بسلام وأمن إلى جانب دولة إسرائيل، وهو الحل الوحيد الذي يحقق الاحتياجات بعيدة المدى لدولة إسرائيل وكذلك أيضًا يحقق طموحات الشعب الفلسطيني. وشكل هذا التوجه وعلى مدى طويل عماد سياسة قيادتنا القومية، وأنا أشاركها هذا التوجه.

ثالثًا: دعوني أعلن بشكل واضح وجلي عن قناعتي الراسخة، علمًا أنني أقول هذا لأصدقائي الإسرائيليين وبشكل مستمر، بأنه وكما قال الرئيس أوباما في العام الماضي إن الروابط بين الولايات المتحدة وإسرائيل غير قابلة للانفصام لا اليوم، ولا غدًا وستبقى إلى الأبد [تصفيق].

حسنًا، دعونا نبدأ. لقد وصلت إلى المنطقة في شهر كانون الأول/ديسمبر 2005 قادمًا من البنتاغون في واشنطن، حيث عملت نائبًا لمدير قسم السياسة والتخطيط الإستراتيجي في هيئة الأركان. وقبل ذلك كنت في العراق، مكلفًا بمهمة البحث عن أسلحة الدمار الشامل العراقية. قد يتساءل بعضكم فيما إذا كانت المهمة الموكلة إلي راهنًا في الشرق الأوسط هي مكافأة على جهودي المبذولة في العراق أو ربما كانت فكرة لشخص ما استهدف معاقبتي [ضحك]. سيدي الوزير ولفوفتنز لن أطلب منك أن تقول لي أيًا منها الأصوب [ضحك].

قبل ذلك كنت ملحقًا عسكريًا في سفارتنا في روسيا. لكن في قناعاتي كنت جندي مدفعية [تصفيق]. شكرًا لكم، أنا أقدر هذا [ضحك]. وهذا مهم لأن رجل المدفعية تعلم كيفية «ضبط النيران» فأنت تطلق الطلقة الأولى بحيث تكون أكثر قربًا ممكنًا من الهدف، مستخدماً كافة المعلومات المتوفرة حولك ثم تطبق تلك المعلومات على الطلقات التالية وتضبط الإحداثيات حتى تصيب الهدف.

هذا ما فعلناه، على وجه التحديد، أنا والفريق في الشرق الأوسط. لقد أصبحنا متعمقين في فهم سياق ودينامية الصراع من وجهة نظر الجانبين وذلك من خلال التفاعل اليومي معهما على أرض الواقع. وتبعًا لذلك ضبطنا تحديد الهدف. والآن، ظهر إلى الوجود مكتب التنسيق الأمني الأمريكي، في آذار 2005، كمجهود لمساعدة الفلسطينيين على إصلاح أجهزتهم الأمنية، حيث لم تكن قوات الأمن الفلسطينية تحت سلطة عرفات قادرة على إنجاز التماسك الداخلي، وليس لديهم مهمة أمنية واضحة أو فاعلة.

 كانت الفكرة من تشكيل (ussc) فريق التنسيق الأمني الأمريكي) خلق كيان أو جهاز ينسق بين مختلف المانحين الدوليين في إطار خطة عمل واحدة تنهي حالة تضارب الجهود، وتعبئ المزيد من الموارد وتهدئ من مخاوف الإسرائيليين حول طبيعة قدرات قوات الأمن الفلسطينية. وكان على فريق التنسيق أن يساعد السلطة الفلسطينية على تحديد الحجم الصحيح لقواتها وتقديم النصح لها فيما يتعلق بإعادة بنائها وتدريبها وتحسين قدراتها، لفرض حكم القانون وجعلهم مسؤولين أمام قيادة الشعب الفلسطيني الذي يخدمونه.

لماذا اختير ضابط أمريكي برتبة جنرال لقيادة عمل كهذا؟ حسنًا، هناك ثلاثة أسباب. الأول هو شعور صناع القرار السياسي الكبار أن ضابطًا برتبة جنرال سيحظى بثقة واحترام الإسرائيليين. ضعوا هذا في خانة «نعم». الثاني هو أن مقام وهيبة الجنرال سيشكل رافعة للتعاون الفلسطيني مع دول عربية أخرى، بامكانكم وضع هذا في خانة "نعم". والفكرة الثالثة أن للجنرال نفوذًا أكبر على عملية التداخل بين مختلف الوكالات في الحكومة الأمريكية. اثنان من ثلاثة ليس أمرًا سيئًا [ضحك].

في الواقع، معظم المجموعة الإنكليزية ـ ثمانية أفراد ـ تسكن في رام الله. ومن يعرف منكم شيئًا عن المهام في أعالي البحار يعلم أن الولايات المتحدة لا تفهم أن العيش مع الناس الذين تعمل معهم أمر ثمين. أما الكنديون الذين يتجاوز عددهم ثمانية عشرة فهم منظمين في فريق يدعى محاربي الطريق. ويتنقلون يوميًا في مختلف أنحاء الضفة الغربية، يزورون قادة أمنيين فلسطينيين، يطلعون على الأوضاع المحلية، ويعملون مع فلسطينيين ويتحرون الأمزجة على أرض الواقع.

يوفر الكنديون للفريق مترجمين محترفين وهم كنديون من أصول عربية وعلى صلة مباشرة مع السكان. الكنديون والبريطانيون هم عيوننا وآذاننا. وعندما ألتقي بقادة أمنيين فلسطينيين أو قادة عسكريين إسرائيليين أحضر معي الكنديين والبريطانيين، وكوننا فريق متعدد الجنسيات مسألة مهمة جداً.

هناك نقطة مهمة أخرى وهي أننا منحنا منذ البداية العمل مع كافة أطراف الصراع باستثناء الإرهابيين. وهذا يعني أننا نتعامل بصورة يومية مع الفلسطينيين والإسرائيليين، هذا أمر فريد من نوعه في المنطقة. صدقوا أو لا تصدقوا. في أي يوم قد ألتقي في رام الله وزير الداخلية أو قائد قوات الأمن في السلطة الفلسطينية صباحًا ثم ألتقي بالمدير العام لوزارة الدفاع الإسرائيلية بعد ظهر نفس اليوم. وكذلك نجتمع مع لاعبين دوليين آخرين في المنطقة في سياق عملية التنسيق التي تتراوح بين الاتصال بالدول كل على حده وبالمنظمات غير الحكومية وموظفي الأمم المتحدة. لكن ربما ما هو أكثر أهمية حول من نحن هو أننا نعيش في المنطقة. نحن لم ننزل بالمظلة لبضعة أيام ثم نعود إلى الوطن، بل نبقى ونقيم هناك في منطقة حيث يشكل فهم الحقيقة على أرض الواقع وبناء علاقات مع مختلف الأطراف حجر الزاوية في إنجاز عمل ما، يجب استثمار الوقت، وقد فعلنا ذلك.

لذا دعوني أتحدث قليلا عن التاريخ ونحدد إلى أين وصلنا منذ آذار 2005، كان الجنرال كيب وارد أول قائد لفريق الأمن الأمريكي، وكانت مهمته البدء بعملية تدريب وتجهيز قوات الأمن الفلسطينية. لكن مهمته تعطلت، صراحة، بعملية الفصل الإسرائيلي الأحادي في قطاع غزة عام 2005، ولم يقم بأي عمل على صعيد مهمته. وعندما انتقلت القيادة إلي في كانون الأول/ديسمبر 2005، قال لي «حظًا سعيدًا». وقليلًا كان تقديري لحجم الحظ الذي كنت بحاجة إليه، ذلك لأنه بعد شهر ربحت حماس في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني وتغيرت مهمتي بين ليلة وضحاها. وخلال الثمانية عشر شهرًا التالية واجهنا وضعًا من اثنين إما حكومة «حمساوية» في الأراضي المحتلة أو حكومة وحدة على رأسها شخص من حماس.

ونتيجة لذلك، ركزنا نشاطنا التنسيقي الدولي على المساعدة بالنهوض باقتصاد غزة، وعلى نطاق واسع من خلال التنسيق مع إسرائيل ومصر والفلسطينيين على المعابر الرئيسية، وتحديدًا في معبري رفح وكارني. ونسقنا أيضًا المساعدة التدريبية التي قدمها الكنديون والبريطانيون للحرس الرئاسي الفلسطيني الذي كان يدير تلك المعابر الحدودية. ولأن الحرس الرئاسي يقدم تقاريره مباشرة إلى الرئيس عباس، وليس خاضعًا لنفوذ حماس اُعتبروا أطرافًا في اللعبة. لكن كافة قوى الأمن الأخرى عانت كثيرًا من إهمال حماس لها، وعدم دفع رواتبها، واضطهادها، وفي الوقت نفسه واصلت حماس بناء قوات أمن خاصة بها بدعم سخي من إيران وسوريا. في حزيران 2007، كما أعتقد أنكم تعرفون، قامت حماس بانقلاب في قطاع غزة ضد قوات أمن السلطة الفلسطينية الشرعية.

وهكذا أطاح رجال الميلشيا الحمساويون المدعومين من إيران وسوريا، والمجهزين جيدًا، والممولين جيدًا والمسلحين جيدًا، بقوات أمن السلطة الفلسطينية الشرعية. مع ضرورة الإشارة إلى أن هذه القوات لم تحصل على رواتب خلال ستة عشر شهرًا وينقصها التجهيز والتدريب. أحفظوا هذا في ذاكرتكم. وبغض النظر عن كل هذا صمدت القوات الفلسطينية خمسة أيام وفقدت بضع مئات من القتلى والجرحى. ولكن في النهاية ما زالت حماس هي الرابحة، وبالتالي تغيرت مهمتي بصورة جد دراماتيكية.

وبعد أن عين محمود عباس، سلام فياض رئيسًا لحكومة من التكنوقراط في حزيران 2007 انتقل مركز اهتمامنا من غزة إلى الضفة الغربية. في تموز أعلن الرئيس بوش عن طلب 86 مليون دولار من الكونغرس لتمويل برنامج مساعدات أمنية لقوات الأمن الفلسطينية. ووافق الكونغرس على الفور. وعدنا إلى اللعبة مرة أخرى. وما لم يقله الرئيس هو أن ميزانيتنا في الثمانية عشر شهرًا الأولى كانت صفرًا. لم يكن لدينا مال. كنت عمليًا منسقًا لجهود أناس آخرين. ولكن هذه المرة لدينا النقود في جيوبنا ولدينا مهمة جاهزون لإنجازها. ومنذ ذلك الوقت سلكنا سمتا ثابتًا في دعمنا لحكومة سلام فياض المعتدلة في الضفة الغربية.

وأمدنا الكونغرس والإدارة بـ 75 مليون دولار إضافيين نهاية العام. وبملغ 161 مليون دولار بات بإمكان فريق الأمن الأمريكي الاستثمار في مستقبل السلام بين إسرائيل والفلسطينيين من خلال تحسين الأمن، إذن، ماذا فعلنا؟ وحتى لا نجازف بدفعكم إلى الشعور بالملل، فعلنا ذلك في أربع مجالات رئيسية. أولاً التدريب والتجهيز. ومع أننا عملنا بصورة وثيقة مع الحرس الرئاسي حتى الآن، ركزنا على تحويل قوات الأمن الوطني الفلسطينية إلى جندرما فلسطينية ـ قوة شرطة منظمة أو وحدات شرطة كما كانت ـ لتعزيز العمل الجاري من قبل الشرطة المدنية الخاضعة لنصائح الأوروبيين.

ما الذي بنيناه- أقول هذا تواضعاً، ما فعلناه هو بناء رجال جدد. تتراوح متوسط أعمار الخريجين بين 20 و22 عاماً، وهؤلاء الشباب وضباطهم يعتقدون أن مهمتهم بناء دولة فلسطينية. وإذا كنتم لا تحبون فكرة الدولة الفلسطينية، فلن تحبوا بقية حديثي. ولكن إذا أحببتم فكرة دولة فلسطينية، فتابعوا الإصغاء.

دعوني أقتبس لكم، على سبيل المثال، ملاحظات على التخرج من كلمة لضابط فلسطيني كبير في الخريجين وهو يتحدث إليهم في احتماع لهم في الأردن في الشهر الماضي. قال: أنتم يا رجال فلسطين قد تعلمتم هنا كيف تحققون أمن وسلامة الشعب الفلسطيني. أنتم تتحملون المسؤولية عن الشعب ومسؤولية أنفسكم (لم تأتوا إلى هنا لتتعلموا كيف تقاتلون إسرائيل بل جئتم إلى هنا لتتعلموا كيف تحفظون النظام وتصونون القانون، وتحترمون حقوق جميع مواطنيكم، وتطبقون حكم القانون من أجل أن نتمكن من العيش بأمن وسلام مع إسرائيل).

والآن لدى عودة شباب فلسطين الجدد هؤلاء، أظهروا حوافز وانضباط ومهنية، ويا له من تغير - وأنا لا أتباهى بهذا- فقد جعل هذا التغير ضباطًا في الجيش الإسرائيلي يسألونني في أغلب الأحيان «كم من هؤلاء الرجال الجدد تستطيع أن تصنع، وبأية سرعة، لأنهم الوسيلة التي ستؤدي إلى رحيلنا عن الضفة الغربية».

المجال الثاني الذي ركزنا جهودنا عليه قدرة وقابلية البناء في وزارة الداخلية، وهذا يبدو عملًا أرضيًا، ولكنه حيوي بإطلاق، لأننا نحاول صياغة حكومة طبيعية. وزارة الداخلية في السلطة الفلسطينية مسؤولة عن كافة القوى الأمنية أمام رئيس الوزراء وأمام الرئيس. وعندما سقطت غزة سقطت معها وزارة الداخلية، ولم يكن هذا أمرًا سيئًا، لأن الوزارة كانت تحت سيطرة حماس، وانصب تركيز الوزارة الحمساوية على إنشاء ما سمي القوة التنفيذية ـ التي كانت البديل الحمساوي لقوى الأمن الشرعية. وعندما سقطت الوزارة ـ كان سقوطها واحدًا من الأمور الحسنة التي حدثت في حزيران/يونيو 2007.

حسنًا، الوزير المعين في حكومة فياض، لم يكن لديه حرفيًا ما يعمله عندما دخل مكتبه، وقد شكى لي ذلك وقال إنه لا يملك حتى آلة كاتبة. فكروا في هذا. من يتكلم عن الآلات الكاتبة هذه الأيام؟ لكنه لا يملك حتى آلة كاتبة. في الأشهر الثمانية عشر الأخيرة استثمرنا أموالًا كافية وعناصر كافية في جعل وزارة الداخلية ذراعًا قائدة للحكومة الفلسطينية ولديها ميزانية كافية، لتفكر بطريقة إستراتيجية وتخطط عملياتيًا. كما قلت إنها مفتاح الوضع الطبيعي في فلسطين. ولم تعد القرارات الأمنية في فلسطين من صنع رجل واحد في منتصف الليل، وبهذا اجتزنا طريقًا طويلًا.

المجال الثالث هو البنية التحتية. من الصعب وصف الوضع البائس للتسهيلات الأمنية الفلسطينية التي واجهناها في البداية ـ لم تكن حقاً ملائمة للسكن البشري. في الأشهر الثمانية عشر الأخيرة عملنا مع المقاولين الفلسطينيين لبناء كلية للتدريب الفني للحرس الرئاسي في أريحا وكذلك أيضًا قاعدة عمليات من نوع جديد يمكنها إسكان – كما هو واقع الحال الآن – ألفا من القوى الأمنية الفلسطينية العائدين من الأردن على قمة تلة خارج مدينة أريحا.

ونخطط لبناء قاعدة عمليات أخرى في جنين وبموافقة ودعم كاملين من الجيش الإسرائيلي. ونحن أيضًا في وسط إعادة بناء مركز تدريب للجندرمة والشرطة الفلسطينية، أيضًا في أريحا. وعلي أن أخبركم عن الشعور بالفخر والثقة الذي يبديه المستفيدون من هذا العمل الذي كان مثار تقدير من الزوار الأمريكيين والحلفاء لهذه المواقع، بمن فيهم مبعوثين من الكونغرس. ولأول مرة أرى من العدل القول أن القوى الأمنية الفلسطينية تشعر بأنها الفريق الفائز.

والمجال الرابع الذي ركزنا عليه هو تدريب القادة الكبار. يبدو هذا نوعًا من الغباء ـ لكنه في الواقع برنامج صغير_ لكنه من وجهة نظري من المحتمل أن يكون واحدًا من أعظم الفوائد المستدامة. لقد خرّجنا فعلًا نوعين من الرتب الرائد والمقدم والعقيد من خلال دورة أقرب إلى حلقة بحث لمدة ثمانية أسابيع، حيث لدينا ستة وثلاثون رجلًا من مختلف القوى الأمنية وقد تعلموا كيف يعالجون القضايا اليومية وكيف يعملون بصورة مشتركة واحترام للمعايير الدولية. أنه العمل الأكثر شعبية الذي قمنا به.

لقد حضرت حفلتي تخرج وكانتا أشبه بتخرج جامعي. فقد أحضروا عائلاتهم وكافة قادتهم حضروا أيضًا والجميع باللباس الرسمي. إنه أمر يستحق المشاهدة لأنهم يشعرون اليوم بأنهم يدخلون مجتمع الأمم من حيث معاملتهم كقادة كبار لشعب قد حان الوقت ليدير فعليًا شؤونه وحياته كدولة.

وأجرينا امتحانًا أخيرًا لهذه الدورة، وهو سؤال تتطلب الإجابة مقالًا. ويتم اختيار سؤال من أصل عشرة أسئلة. ويمكن أن يدهشكم أن تعلموا أن المقال الأكثر شعبية- واختاره أكثر من 50% هو سؤال «لماذا حقوق الإنسان مهمة في فلسطين؟ والآن من كان يتوقع هذا؟ وهل تعرفون لماذا؟ لقد حصل القادة المتخرجون على الترفيع وعلى مواقع أكثر مسؤولية.

أنا لا أعلم كم واحد منكم يدرك أن الفلسطينيين، في السنة ونصف الماضية، قد انخرطوا في سلسلة ما يدعونه الهجوم الأمني عبر الضفة الغربية، وبمنتهى الدهشة بالتنسيق مع الجيش الإسرائيلي، وبسلسلة من الجهود المتواصلة لاستعادة حكم القانون في الضفة الغربية وإعادة بناء السلطة الفلسطينية. بدءًا بنابلس ثم جنين و الخليل وبيت لحم. لقد أثاروا اهتمام المؤسسة الدفاعية الإسرائيلية بقراراتهم وانضباطهم ودوافعهم والنتائج التي حقوقها.

وعلي أن أخبركم أن الشباب الذين تدربوا في الأردن هم المفتاح. لنتوقف قليلاً عند الخليل، لأن أي واحد منكم إذا كان يعرف شيئًا عن الخليل فهي مكان صعب. إنها أكبر مدينة في الضفة الغربية، وفيهاعدد كبير من المستوطنون وهم عدوانيون، وهي مكان مقدس لليهود والعرب. منذ عام رفض جيش الدفاع الإسرائيلي أي اقتراح يسمح للسلطة الفلسطينية بتعزيز حاميتها في الخليل، وهي قوة لا يزيد عديدها عن400 شرطي ودركي مع أنها أكبر مدينة في الضفة الغربية.

أردنا أن نعزز قوتهم ببعض المتخرجين من البرنامج الأردني، قالوا لا، ولكن أداء هؤلاء الخريجين في جنين، حيث كانت أول مكان لانتشارهم، كان جد مؤثر، بحيث أنه بعد ستة أشهر لم يسمح الجيش الإسرائيلي فقط بتعزيز القوة في الخليل، بل قادها أيضًا. وكانت هناك قرى في محافظة الخليل لم يشاهدوا شرطيًا فلسطينيًا بالزي الرسمي منذ العام 1967، فكروا في هذا. ليس بعد الآن.

حسنًا. كنت في الخليل الأسبوع الماضي، حيث كانت مجموعة – حوالي 125 رجلًا - ممن تدرب في الأردن وعددها 125 متدربًا، من الفرقة الثانية الخاصة لقوات الأمن الوطني تعمل تحت امرة قائد المنطقة، تقدم الدعم لرجال الشرطة والدرك فيما سمي باتفاق أوسلو المنطقة A وأيضًا في المنطقة B، التي تتبع السيطرة الإسرائيلية حسب اتفاق أوسلو. لماذا هم في المنطقة B؟ لأن القائد العسكري الإسرائيلي في المنطقة قال: «أنا بحاجة إلى مساعدتهم وأنا أثق بهؤلاء الشباب- لم يعودوا يكذبون على كما في السابق».

هذا أيضًا تحوّل ذو مغزى جيد، وسأخبركم بما رأيت، وبالتقارير التي تلقيتها من الكنديين والبريطانيين الذين يتنقلون أكثر مني، وفحواها أن التحول الذي كان موضع جدل في أصعب مدينة في الأراضي الفلسطينية المحتلة قد أصبح عميقًا. وفي وسط كل هذا لم يعد هناك صدامات، سواء بين القوات الأمنية الفلسطينية والجيش الإسرائيلي أو بين القوات الفلسطينية والمستوطنين الإسرائيليين الذين يعيشون في المنطقة. هذا أمر رائع، وأعتقد أننا سعداء به.

عبر الضفة الغربية تتسم الحملات الأمنية بالتشدد مع العصابات المسلحة وسط وجود بارز للشرطة، وبتفكيك الميليشيات غير الشرعية وبالعمل ضد نشاطات حماس غير الشرعية وبالتأكيد على أمن وسلامة المواطنين الفلسطينيين. وقد تضاءلت الجريمة. وباستطاعة الفتيات المراهقات في جنين زيارة أصدقائهن بعد حلول الظلام ودون خوف من التعرض للهجوم، وكذلك المحلات الفلسطينية الآن مفتوحة بعد حلول الظلام، حيث لم يكونوا كذلك من قبل، أي قبل عام لا أكثر.

الآن وفي لقاءاتي مع القادة الفلسطينيين الأسبوع الماضي، في طولكرم ونابلس في الشمال والخليل و بيت لحم في الجنوب، تبين لي أن هناك ثقة عميقة في قدراتهم وفي تعليقاتهم الإيجابية حول التعاون مع الجيش الإسرائيلي في المنطقة. في بيت لحم، ولدهشتي أشار قائد المنطقة بفخر أنه هو والقائد الإسرائيلي قد عملوا معًا، حيث كان منع التجول مطبقًا منذ العام 2002 في الضفة الغربية، ولكنه لم يعد يطبق في بيت لحم وأنه سمح للفلسطينيين بإدارة نقاط التفتيش الخاصة بهم للسيطرة على أعمال التهريب.

الوضع قد يكون هشًا، هناك تحديات كثيرة على الطريق. لكن هناك تقدم حقيقي لتغيير الحقائق على أرض الواقع. لكن التحدي الكبير، وهذا هو التحدي الذي أريدكم أن تقصوه إذا لم تقصوا أي شيء الليلة _ كان في يناير/كانون ثاني 2009. وكما يحلو لضباط الفريق البريطاني القول «البرهان على الحلويات يأتي بعد الأكل». وعلى امتداد السنة الماضية لم يكن هناك تحد أمني في الضفة الغربية يوازي التحدي الذي واجهه الفلسطينيون في حفظ القانون والنظام أثناء عملية الرصاص المسكوب ـ الغزو الإسرائيلي لغزة في كانون ثاني/يناير.

قبل الغزو البري، حذرني سرًا أصدقائي في الجيش الإسرائيلي من أن توترات شعبية كبيرة قادمة إلى الضفة الغربية، وتوقع البعض انتفاضة ثالثة، وهو أمر يرعبهم لكنهم رغبوا بالمخاطرة لإيقاف إطلاق الصواريخ على جنوب إسرائيل، إلا أن أيًا من هذه التنبؤات كما ظهر فيما بعد لم يتحقق. حدثت تظاهرات وكان بعضها صاخبًا، لكن أيام الغضب الموعودة التي دعت إليها حماس باستمرار فشلت في أن تترجم عمليًا.

لماذا حدث ذلك؟ حسنًا. كان هناك سببان. الأول كما أعتقد أن المهنية والأهلية الجديدة التي تمتعت بها القوى الأمنية الفلسطينية الجديدة قد ضمت تعاملًا مدروسًا ومنضبطًا مع التظاهرات الشعبية. وكانت التوجيهات من رئيس الوزراء والرئيس واضحة فقد سمحت بالتظاهرات دون أن تسمح لها بالتحول إلى العنف، ولذلك أبعد المتظاهرين بعيدًا عن الإسرائيليين.

وفي هذا الوقت، وخلافًا لأي وقت في الماضي، كان لدى الرئيس أو رئيس الوزراء الأدوات المناسبة للمهمة. وشعر الجيش الإسرائيلي أيضًا ـ بعد أسبوع أو نحوه ـ أن الفلسطينيين كانوا هناك وأن بإمكانهم الوثوق بهم. في الواقع، فإن القسم الأكبر من القوات الإسرائيلية تحركت إلى غزة من الضفة الغربية ـ فكروا في هذه للحظة ـ والقائد كان غائبًا لثمانية أيام متتالية. وهذا يكشف عن نوع الثقة، التي وضعت في هؤلاء الناس الآن.

على أية حال تعمد الاسرائيليون الحد من ظهورهم وبقوا بعيدًا عن التظاهرات، ونسقوا نشاطاتهم اليومية مع الفلسطينيين ليتأكدوا أنهم ليسوا في المكان الخطأ والزمان الخطأ من أجل أن يتجنبوا صدامًا أو أن يبقوا بعيدًا عن التظاهرات القادمة، وهكذا كان القائد الفلسطيني وبطريقة نموذجية يبلغ القائد الإسرائيلي في المنطقة بقوله «لدينا تظاهرة متجهة من نقطة A إلى نقطة B. وهي قريبة من نقطة تفتيش لكم هنا في بيت إيل. نأمل أن تغادروا النقطة لمدة ساعتين من أجل أن تمر التظاهرة، وعندها يمكنكم أن تعودوا».

وهذا ما فعلوه على وجه التحديد ـ يا للروعة. حدثت تظاهرات كبيرة ضد غزو غزة بالطبع، لكنها في معظمها كانت سلمية. ولم تخرج عن نطاق السيطرة، وطبق رجال الشرطة والدرك ما تدربوا عليه في الأردن، وبخلاف الأحداث الماضية لم يقتل أي فلسطيني في الضفة الغربية خلال الأسابيع الثلاثة من الوجود الإسرائيلي على أرض غزة، هذا أمر جيد جداً.

السبب الثاني وهو في اعتقادي يحتاج إلى مزيد من الدراسة ـ وبإمكان معهدكم أن يساعدنا على ذلك ـ وهو ما لم أتوقعه. سمعت هذا في الشمال وفي الجنوب. الموضوع الملح هو أنه بالرغم من أن السكان في الضفة الغربية لم يدعموا غزو غزة، لكنهم كانوا في الحقيقة غاضبين جدًا مما فعله الإسرائيليون، ولكنهم لا يدعمون حماس ولا يؤيدونها.

ما أقول هنا أنهم أظهروا دعمهم للسكان بالتبرع بالدم وإرسال الملابس، والأغذية وأشياء من هذا القبيل، لكنهم لم يخرجوا ليتظاهروا لصالح حماس. تظاهروا لصالح الناس في غزة، لكن حماس لم تكن موضع اهتمامهم. لماذا؟ لأنهم أدركوا أن حماس قد جلبت الفوضى والكارثة لغزة، والناس في الضفة لم يعودوا راغبين بمثل هذه الأمور، بالإضافة إلى وجود قوات أمن بينهم، وقد بدأوا باحترامها. وبطريقتي أقول: «المأمول من النظام قد تفوق على المأمول من الفوضى».

لا تحتاج شهادة الجنرال دايتون للكثير من التعليق، والأهم هو التأكيد على أن الشعب الفلسطيني يطالب وبحق، وينتظر أن لا تكون مهمات أجهزته الأمنية هي التجسس على بعضها البعض، أو تحريم المقاومة وملاحقة المقاومين، أو تصبح أدوات لدعم مراكز القوى أو تستخدم لحماية الفساد والفاسدين، أو حماية أمن الكيان، ولا دعم الاستبداد والبطش وملاحقة المعارضين، وأن لا يتم انتهاك حقوق وحريات الشعب، وأن لا تقف حجر عثرة في طريق المصالحة والوحدة الوطنية، وأن لا تتخاذل في حماية الشعب الفلسطيني، وأن لا يستخدم شعار "سلاح شرعي واحد، قانون واحد، سلطة واحدة" لتكريس حالة الشرخ والإستفراد بالتمثيل السياسي للشعب الفلسطيني ومحاربة المقاومة وإحتكار القوة، لا سيما وأن شعبنا ما زال يخوض معركة تحرره الوطني، ولا يريد شعبنا أن يشاهد حملات أمنية تمارس أساليب منبوذة، أو تضعف من المقاومة الشعبية ضد الإحتلال، أو قمع المظاهرات والمسيرات السلمية ضد الإحتلال، أو شيطنة الاحتجاجات الاجتماعية، ولا يريد أيضًا أن تكون ميزانية هذه الأجهزة أعلى من ميزانية قطاعات مثل الصحة والتعليم والزراعة مثلا، أو تصبح تجمعًا يستوعب الموالين لإطار معين لضمان الولاء، ولا يريد أن تمارس الأجهزة سياسة الباب الدوار بين السجون الإسرائيلية والفلسطينية.

إن الأسس الوطنية التي يجب أن تقوم عليها منظموة الأمن الفلسطيني، هي وحدها الكفيلة بدعم أي كياس سياسي حتى لو كان دون الحد الأدنى من طموحاتنا الوطنية، ومن يعمق الفجوة بين الأجهزة والشعب، يؤسس لخيارات صعبة جدًا مستقبلًا، ويمكن أن تكون دموية وجذرية، وبدلًا من مراقبة الناس ورصد تحركاتهم والتدخل في خصوصياتهم، يجب إجراء مراجعة شاملة قبل فوات الآوان لكل هذه المنظومة، وإلا فالشعب لن تعجزه الخيارات والبدائل. لا أمن بدون احترام إرادة وحقوق وكرامة شعبنا في الأرض المحتلة.