Menu

طالبان المنتصرة من الجبال إلى كابول

موسى جرادات

نُشر هذا المقال في العدد 29 من مجلة الهدف الإلكترونية

أيامٌ قليلةٌ فقط؛ حسمت فيها حركةُ طالبان أمرَها وأنهت مهمّةً كان يراد لها أن تغرق فيها لسنوات، وهي الحرب الداخلية مع الحكومة الأفغانية ومؤسساتها والقوى المنصهرة فيها؛ هذا الحسم كاد أن يكون هو المعجزة الفعليّة طوال عشرين عامًا من حرب التحرير التي خاضتها تلك الحركةُ في مواجهة قوى المحتل الغربي وعملائها على الأرض الأفغانية، دون كلٍ أو ملل. 

والسؤال الذي ما زال حتى هذا الوقت معلّقًا، ولم يجد جوابًا شافيًّا لدى متصدري التحليل من دولٍ إعلاميّةٍ وجماعاتٍ صحافيّة: كيف استطاعت طالبان أن تحسم الأمر دون قطر ة دمٍ واحدةٍ، ودون مواجهاتٍ تذكر؟ لأن الجواب الشافي يترتّب عليه الكثير من القضايا اللاحقة، التي تتعلّق بعلاقة المُنتصر مع العالم الخارجي من دولٍ وفضاءاتٍ إقليميّةٍ ودوليّة، وعن الشرعيّة الخارجيّة التي ستسمح لهذا البلد أن يكون عضوًا فاعلًا في الإقليم.

لقد كانت دول التحالف الغربي المحتل لأفغانستان؛ بقيادة الولايات المتحدة، على قناعةٍ تامّةٍ أن ما ينتظر أفغانستان بعد انسحاب الجيوش الغربية؛ حربٌ أهليّةٌ داخليّةٌ لا تُبقي ولا تذر، وبذلك تدخل طالبان إلى مستنقع تلك الحرب لسنواتٍ طويلةٍ، ويصبح انسحاب الأمريكيين عاملَ نقمةٍ لا تحرير.

من الواضح، ونحن البعيدين عن خطوط النار والدم والألم والمعاناة التي عاشها الشعب الأفغاني طوال العقدين من الاحتلال؛ أن هناك ملحمة أفغانيّة تم صياغتها بأيادي مقاتلي الجبال؛ المؤمنين بحتميّة النصر الذي جلبوه بوعيٍ تاريخي، هذه الملحمة سمحت لهم معرفة أحوال الأهل؛ فالتفوا حولهم ليحمي بعضهم البعض، دون تقديم أي تنازل للمحتل، فيما يتعلق بالجلاء والسيادة، خاضوا حربهم التفاوضية وأنجزوا المهمّة. ومعرفة أحوال الأهل؛ مكنتهم من دخول المدن مدينة تلو مدينة؛ فاتحين حتى وصلوا خلال أيام إلى أبواب كابول العاصمة؛ ليفرَّ منها كل من عمل لصالح المحتل تحت جنح الظلام؛ من الرئيس أشرف غني المتبجح برفضه المطلق لمفاوضة طالبان قبل أيام من خروجه المذلّ، وحتى أصغر وضيعٍ من عملاء السفارات الأجنبيّة؛ جميعهم ذهبوا لحضن سيدهم.. فهم لا يعرفون الحياة، إلا عبيدًا في ظلّه، لتُفتح صفحةٌ جديدةٌ من صفحات أفغانستان دون عملاء. ولأنّ نار الحرب لا يراد لها أن تنتهي في هذا البلد المنكوب؛ بدأنا نسمع حديث الإنساني، وحقوق الناس، والجماعات، والجندر والديمقراطيّة، والتشاركيّة؛ حديث طويل بلا نهاية؛ الهدف منه وضع طالبان على كرسي التعليم والتأديب، والتدريب؛ حديث الأستاذ للتلميذ الذي لا يفقه أبجديات الحياة دون معلّم؛ حديث استعلائي؛ يرى بهم جماعة ظلامية.. لا تفقه من أصول السياسة والاقتصاد والثقافة شيئًا، وسيخفقون كما أخفقوا طوال السنوات، فهذه الجماعة ابنة المجتمع الأفغاني؛ أكلت وشربت وترعرعت ضمن البناء الثقافي للأمّة الأفغانيّة، وهي التي تمثّلها، وهي عنوانها الأول، وإن لم تكن العنوان الوحيد.

وكل من لا يريد أن يرى أن طالبان طوال سنوات خلت مثّلت هذا الشعب كحركة تحريرٍ وطني، لن يستطيع الفهم، وربما لا يريده؛ لأنه سيُفقده كلَّ ادعاءاته الفاسدة التي يعتاش عليها؛ سواءً في الداخل الأفغاني أو خارج هذا البلد.

هل النصرُ الأفغاني يندلق علينا؟

لقد أثبتت التجربة الأفغانية جدواها، وأكدت أن موازين القوى لا تحسب بعدد الحديد ونوعه؛ موازين القوى التي دومًا يتربّص بها المتشدّقون في ديارنا ويقهروننا بها مع مطلع كل نهار، ذوبتها التجربة الأفغانيّة الناهضة من تحت الركام؛ فموازين القوى أصبحت لديها أدوات جديدة في القياس، كالصبر، والتحمل، والألم، والدم، والتضحيات، والإيمان العميق بمشروعية المقاومة مع القليل القليل من الحديد سيجلب النصر، لهذا يراد لهذه التجربة اليوم أن تمحى، أو أن يعاد رسمها على قياس عبيد أمريكا في ديارنا، عبر تزيف الوعي والذاكرة، وقطع تلك التجربة عن التجارب التي سبقتها وحققت النتائج نفسها في السابق، ولكي نبقى في زمن الحياة مفاوضات حتى لو أنكرها الأعداء وأنكرونا.

نعم، يمكن الاستلهام من هذه التجربة، لأنها لا تخص الأفغان وحدهم، هي جزء من التجربة الإنسانية على الرغم من خصوصيتها؛ فإن لها فضاءً عابرًا يتجاوز الحدود ويمر على كل المسلوبة إنسانيتهم وديارهم ويطمئنهم: أن الدنيا فيها من نفحات النصر ما يضيء الخدود.

خصوصية تلك التجربة التي تتصل بمحركاتها العقدية والأيديولوجية، هي ملك من أنجزوها، ولكن النصر وآثاره ملكٌ لمن يرون أنفسهم في ساحة الميدان أمام عدوٍّ واحد؛ يجرُّ بوارجه الحربيّة، ويرمينا من كل حدبٍ وصوبٍ ويوغل في دمنا في عطشٍ دائمٍ لا يتوقّف.

وإذا كان النصرُ صبرَ ساعة؛ فإننا والله صبرنا ساعاتٍ وساعاتٍ حتى طوينا القرنَ بقرنٍ جديد.. حتى أكلنا الصبرَ من جذوره، كما كانت تقول لي أمي – رحمها الله.