الاجماع الأمني-الاستخباري والسياسي الإسرائيلي اليوم، على أن عملية "نفق الحرية والتحرر" التي قام بها ستة من كبار الأسرى الفلسطينيين من معتقل جلبوع الأشد تحصينًا وحراسةً أمنية من كل المعتقلات الأخرى، هي عملية خطيرة وحدث كبير وخطير هز الكيان بكامله، وأدخل القيادات الإسرائيلية في مأزق كبير وحالة ارتباك لم تأتِ في حساباتهم؛ فأعلنوا حالة الاستنفار الشامل واستدعوا أفضل وحداتهم العسكرية وأجهزة استخباراتهم ووحدات حرس الحدود والمستعربين والمستوطنين والمروحيات والمسيرات، اضافة إلى قصاصي الأثر والعملاء، وأقاموا أكثر من مائتي حاجز على امتداد مساحات واسعة من فلسطين، وغير ذلك من الاجراءات الأمنية-العسكرية والاستخبارية، وإن نجحوا بإعادة اعتقال أربعة من الأسرى الستة؛ فان ذلك لا يقلل من قيمة وشأن وتداعيات عملية الحرية والتحرر أبدًا.
أما من الجهة الفلسطينية؛ فتعتبر عملية الحرية والتحرر؛ حدثًا كبيرًا وعملية أسطورية-ملحمية تضاف إلى سجل الكفاح والنضال الفلسطيني المفتوح ضد الاحتلال. وبنجاح هؤلاء الأبطال باختراق كافة الاجراءات والحواجز والجدران الأمنية الإسرائيلية وملامسة فضاء الحرية خارج جدران الاعتقال؛ فإنهم - ورغم اعتقال أربعة منهم - يسطرون فصلًا نضاليًا جديدًا يشكل درسًا للأجيال الفلسطينية القادمة. ولكن في ضوء تفاصيل هذه العملية الكبيرة الناجحة يبقى السؤال الكبير الرئيس في الوعي الجمعي الفلسطيني العربي وعلى نحو خاص بعد إعادة اعتقال الأربعة:
لماذا يبقى هؤلاء الأسرى العظام الابطال-بالآلاف- وراء القضبان في معتقلات الاحتلال…؟! ولماذا تعجز القيادات والفصائل والقوى الفلسطينية عن تحريرهم…؟! وفي المشهد الصراعي الفلسطيني مع الدولة الصهيونية أيضًا، وعلى مستوى معسكرات الاعتقال الجماعي الصهيونية، نتابع كيف قامت تلك الدولة منذ البدايات ”بأكبر عملية اعتقال جماعي في التاريخ الحديث”، فاعتقلت أكثر من مليون فلسطيني أمضوا نحو مليون سنة اعتقالية وراء القضبان الصهيونية، كما نتابع في السياق حكايات الدم والألم والبطولة في معتقلات الاحتلال الصهيوني، وحكايات المفاوضات والمعركة على ما أطلق عليه ”الأسماء من العيار الثقيل، أولئك الملطخة أيديهم بالدماء اليهودية”، وكيف ارتهن مستقبل آلاف الأسرى الفلسطينيين في مهب رياح المعايير الاسرائيلية.
كان النائب والوزير السابق عيسى قراقع رئيس نادي الأسير الفلسطيني تساءل قائلًا: إن سؤال الاشكالية هو: هل أزمة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال هي أزمة سياسية أم تربوية؟ مضيفًا: ”ولأن الأسرى فرضوا وجودهم كأمر واقع على الحياة السياسية الاسرائيلية، فإن التعامل معهم يجري وكأنهم أرقام لا بشر، بل فئران كما قال الصحفي “عاموس هرئيل” ليس لهم حقوق، والذي يقرر حقوقهم هي نظرية القوة والأمن والأوامر والتعليمات العسكرية الصادرة عن الضابط أو من الجهاز القضائي الإسرائيلي...”.
وربما يكون الاستخلاص الأبرز والأهم في سياق قراءة هذا المشهد هو ذلك الاستخلاص المتعلق بملف الآلاف من الأسرى الفلسطينيين والعرب الذين ما زالوا صامدين في باستيلات الاحتلال الصهيوني، وأن الطريق الوحيد لتحريرهم كما برهنت التجربة المثخنة بالجراح الفلسطينية حتى الآن، هو طريق القوة والقوة فقط...! فهكذا؛ كما أقيم ذلك الكيان على الحراب والحروب والقوة والإرهاب، فإنه لا يرتدع ولا يتراجع ولا يهزم إلا بالقوة... وليس ذلك فحسب؛ ففي القناعات الفلسطينية المتبلورة الراسخة على امتداد الفصائل والجماهير الفلسطينية، فإنه لن يتم تحرير آلاف الأسرى إلا بالقوة فقط كما تبرهن في هذه الأيام عملية الحرية والتحرر من وراء قضبان الجلبوع...!
ناهيكم عن أن هناك الكثير أيضًا من الاعترافات والشهادات الإسرائيلية على مختلف المستويات التي تقول صراحة أن “إسرائيل لا تفهم سوى لغة القوة...! “؛ فبالقوة فقط يمكن تحرير الآلاف من الأسرى، وبالقوة وحدها فقط يمكن تحرير الوطن المُغتصَب،
وبالقوة وحدها يمكن تحرير شعب كامل يرزح تحت الاعتقال في معسكرات الاعتقال الجماعي الصهيونية. وكان الكاتب الاسرائيلي المعروف جاكي خوجي- ثبت هذا الاستخلاص في معاريف قائلًا: “إن التجربة علمت إسرائيل أنه بخلاف مفهومها عن نفسها، فإنها لا تفهم سوى لغة القوة، وهذه الحقيقة ثبتت من قبل الفلسطينيين”.
ولعلنا نثبت في ضوء كل هذه المعطيات حول الحركة الأسيرة الفلسطينية ومسيرة النضال والدم والألم والمعاناة والبطولة للأسرى الفلسطينيين، وفي ضوء معطيات المشهد الفلسطيني كله على امتداد خريطة الوطن المحتل التي حولها الاحتلال إلى أضخم معسكر اعتقال على وجه الكرة الأرضية: ”أن فلسطين تدق على جدران الصمت والعار العربي، وتعلن حاجتها الملحة والعاجلة جدًا إلى أزمة ضمير وأخلاق ومواقف وطنية وقومية، وليس إلى بيانات واستعراضات، وتعلن حاجتها إلى من يتطلع إلى الحقول الخضراء في إنسان يحصد قمح حريته منذ أن حل الاحتلال ولم يتعب..!“.
