كان اختفاء وزير خارجية ليبيا الأسبق منصور الكيخيا حدثاً دولياً كبيراً من زاويته الحقوقيّة والسياسية والإنسانية. ويمكن القول أنه كان محطة جديدة في أنشطة الحركة العربية لحقوق الإنسان، فيما يتعلّق بقضايا المختفين قسرياً، فبعد مغادرتنا لمؤتمر في القاهرة بثلاثة أيام في العام 1993 وصلنا خبر اختفاء الكيخيا الذي زاد ثقلاً في ملف المختفين قسرياً، وهو ما كنت قد بدأت الانشغال به منذ مطلع الثمانينات عند اختفاء د. صفاء الحافظ وصباح الدرّة وعايدة ياسين ودارا توفيق وأسعد الشبيبي وآخرين.
ولعلّ هذا الملف يكبر باستمرار، فمنذ الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003 والآلاف من عوائل المختفين قسرياً تستغيث، ولكن دون جدوى، بمن فيهم آلاف الإيزيديين والإيزيديات وآخرين من الذين اختفوا على يد داعش بعد احتلالها للموصل، فضلاً عن مفارقة الصحافي توفيق التميمي الذي حاورني على كتابي "الاختفاء القسري في القانون الدولي - الكيخيا نموذجاً" وزميله الناشر مازن لطيف اللذان اختفيا قسرياً بُعيد هبّة تشرين العام 2019.
الاختفاء القسري "اصطلاح" تستخدمه الأمم المتحدة لوصف حالات الاختطاف والاحتجاز والاعتقال غير المعلن عنه أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية من جانب جهات مجهولة أو غير معلومة، سواء على أيدي موظفي الدولة أو أشخاص أو جهات أو مجموعات من الأفراد تتصرّف بإذن من الدولة أو بموافقتها مع رفضها الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصيره.
وقد اعتمدت الأمم المتحدة إعلاناً في العام 1992 أطلقت عليه اسم "الإعلان العالمي لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري" وفي العام 2006 اعتمدت "اتفاقية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري"، وطلبت من دول العالم التوقيع والتصويت والانضمام إليها. ودخلت الاتفاقية حيّز النفاذ يوم 23 ديسمبر/كانون الأول العام 2010، بعد أن صادقت عليها 20 دولة ويبلغ عدد الدول المنضمّة إليها 64 دولة من بينها العراق، في حين أن 48 دولة وقّعت عليها ولم تصدّق.
والاتفاقية تتألف من ديباجة و45 مادة مقسّمة إلى 4 أجزاء، وتخشى بعض الدول من التصديق عليها لعلاقة ذلك بالمساءلة ومبدأ عدم الإفلات من العقاب، لا سيّما إذا ذهبت المسألة إلى المحاكم الدولية، سواء المحكمة الجنائية الدولية التي دخلت حيّز التنفيذ في العام 2002 أو حتى محكمة العدل الدولية في لاهاي التابعة للأمم المتحدة والتي تختصّ بالشكاوى المدنية وليس لها ولاية جنائية.
وتحاذر بعض الحكومات، ولا سيّما من الدول النامية والتي فيها تجاوزات وانتهاكات تتعلّق بالاختفاء القسري من التصديق على الاتفاقية، لأن المادة 5 تعتبر الاختفاء القسري "جريمة ضدّ الإنسانية" وتذهب المادة 6 لتحميل المسؤولية الجنائية لرئيس البلد والقائد العام للقوات المسلّحة أو حتى أحد مرؤوسيه العاملين تحت أمرته ورقابته، فيما إذا ارتكبت جرائم ضدّ الإنسانية، حيث يمكن مساءلة من أصدر الأوامر أو قام بالتنفيذ أو تواطؤ أو اشترك في ارتكاب جريمةٍ تحمّله المسؤولية الجنائية، بمعنى عدم إعفاء أي شخص ارتكب جريمة الاختفاء القسري، سواء كان مدنياً أم عسكرياً.
إن الاختفاء ممارسة للتعذيب حين تقطع صلة المختطف بالعالم الخارجي وهو تعذيب آخر للعائلة التي لا تعرف مصير رب الأسرة أو ابنها أو مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، وأحياناً يتملّك العائلة حالة من الإحباط إلى درجة اليأس بعودة المختفي، خصوصاً إذا طال أمد الاختفاء وعدم وجود أي خبر يدلّ على بقائه على قيد الحياة.
وعلى الرغم من أن بعض الدول العربية انضمّت إلى الاتفاقية، إلاّ أنّها أبدت تحفّظات على بعض موادها، وخصوصاً المادة 42 (الفقرة-أ-) التي تتعلّق بخلاف بين دولتين أو أكثر من الأطراف الموقّعة على الاتفاقية بشأن تطبيقها أو تفسيرها، فإذا لم يجدوا طريقة لحلّ الخلاف بالمفاوضات أو بالتحكيم فيمكن عرض القضية على محكمة العدل الدولية المختصّة بذلك.
كما أن هناك تحفّظات وردت حول المادتين 31 و 32 الخاصة بتقديم الشكاوى الفردية أو شكاوى دولة ضدّ دولة، فيما إذا لم يتمّ التوصّل إلى حلّ عبر مبادئ العدالة الانتقالية الدولية، فيمكن تقديم شكاوى ضدّ الدولة، سواء من أحد مواطنيها أو من دولة أخرى، وهذا التحفّظ على اختصاص لجنة الأمم المتحدة لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري في النظر بالشكاوى الفردية أو شكاوى الدول الأطراف.
ومثل هذه الشكاوى تنشأ حين تستنفذ المحاكم الوطنية جميع الوسائل، ولكنها لم تتوصّل إلى حلولٍ مرضية للأطراف المتنازعة، فيكون من حقّ الشخص التوجّه لإقامة شكاوى فردية أو من دولة على أخرى في القضاء الدولي، وذلك بهدف ملاحقة المتورّطين ومعاقبتهم إذا ثبت إدانتهم.
وإذا ما أعلنت دولة ما انضمامها للاتفاقية فمن المفروض بعد سنتين تقديم تقرير للأمم المتحدة بتنفيذ ما ورد بالاتفاقية ويقدّم التقرير للجنة الأمم المتحدة المعنية بحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري في جنيف، وهي مكوّنة من خبراء مستقلين على أساس توزيع جغرافي عادل.