فإذا كنت من أهل الحكمة، أدركت الهدف الأخير، وهو أن لكل مجاهد أجره، وإن لم يستطع المجاهد أن يلمس جوهر هذا الأجر، فإنك أنت -أيها القارئ- تلمسه في كلمة طيبة تقال عن هذا المجاهد، فتصبح عطراً في سيرة حياته بعد أن تحترق ذبالة النور الأخيرة من هذه الحياة. تلك الكلمات الأخيرة هي من مقدمة رواية الشيخ والعجوز للكاتب إرنست همينغوي أسعفتني هذه الكلمات عندما بدأت أكتب عن بدران جابر، هذا الرجل الذي قد بلغ من الكبر عتيا ولكنه ما زال رابضاً في وطنه وحيداً، وما زال عقله يطل منه المرح وعدم الاعتراف بالهزيمة.
في عام 1965 جاء الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة زيارة إلى فلسطين كانت أحد محطاته مدينة الخليل. في تلك الزيارة دعا بو رقيبة إلى إجراء صلح مع الاحتلال والقبول بنتائج حرب 1948، وهذا ما شجع بدران جابر للمشاركة بمسيرات ضد هذه الدعوة تحت راية منظمة "أبطال العودة وحركة القوميين العرب"، بالرغم من الانتماء الخجول جاءت مجزرة بلدة السموع بتاريخ 13 نوفمبر 1966 ليكون الحدث المفصلي في حياة هذا الرجل، ليبدأ مشواره النضالي المتراكم كما تراكم الشيب في رأسه.
منذ تلك السنوات بدأ هذا العجوز الراسخ في الملاعب القديمة دوره كمناضل عنيد وعقائدي حتى النخاع، ولهذا فهو مستهدف، لتبدأ سلسلة اعتقالات بحق هذا العجوز في سجون الاحتلال سجن الخليل، الدامون، النقب، تحقيق المسكوبية، سجن عوفر... بدأت هذه الاعتقالات مع بداية مشواره النضالي ليعتقله الاحتلال مرة أخرى عام 1980 مرتين، ومرة أخرى عام 1985، ومن ثم عام 1987، وأخرى عام 1998 لتتوالى الاعتقالات والملاحقات المتواصلة، وليكون مجموع ما أمضاه جابر نحو 15 عامًا، كان آخرها عام 2017 في شهر أب/اغسطس، وفي داخل هذه السجون شارك في الاحتجاجات مع زملائه لتحسين شروط حياتهم في ذلك الوقت طوال فترة تأسيس الحركة الأسيرة، ويعتبر من أوائل الأسرى الذين دخلوا سجن النقب الصحراوي بعد افتتاحه مباشرة عام 1988.
في كل مرة يتم اعتقال هذا العجوز تتناول وسائل الإعلام خبر اعتقال مسن من مدينة الخليل، ولا تتناول هذه الوسائل تاريخ هذا العجوز الذي عاش يُعلّم شعبه كيف يصنعون صنارة صيد الحرية المصنوعة من الإرادة، وجاءت هذه المدونة المتواضعة للإضاءة على هذا الرجل الذي يملك من التاريخ الفلسطيني الكثير وهو رفيق الشهيد أبو علي مصطفى، والأسير احمد سعدات الذي اتفق معه الأخير على الإقلاع عن التدخين داخل سجون الاحتلال، ورفيق أيضًا جورج حبش الذي كان يجلس بجانبه ويزوران بنفس المركبة العسكرية معسكرات الثورة الفلسطينية في سوريا ولبنان، يعتبر هذا العجوز من مؤسسي الثورة الفلسطينية، ومن مؤسسي تنظيم الجبهة الشعبية وذراعها الطلابي.
تقول الصحفية الإسرائيلية عميرة هاس في مقالتها عن بدران جابر التي تحمل عنوان بدران الخطير: "جابر سيحمل كيس الأدوية الخاص به لأنه لا يعرف كم من الوقت سيقضي وهو مقيد في ما يشبه قفص الانتظار في المعتقل قبل إدخاله إلى كرفان المحكمة. في تمديد اعتقاله في 10 آب (اغسطس) 2017، الذي كان من الأيام الحارة جدا في هذه السنة، بقي من الساعة الثامنة والنصف صباحا حتى الساعة الخامسة بعد الظهر، وهذا نوع من التعذيب، حتى لإنسان سليم، فما بالك بشخص يعاني من مرض السكري وضغط الدم، وأجريت له عملية قلب مفتوح، ويتلقى العلاج لسرطان البروستاتا ولديه جهاز بخار".
يمتلك جابر الكثير من الحيل في التعامل مع الاحتلال، ويتزود بالعزيمة التي تساعده على الرغم من الشيخوخة في مقارعه الاحتلال الذي يخاف الأخير حتى من كلماته، ولكن عجز الاحتلال عن قتل المعنويات المرتفعة داخل أقبية عقل جابر، على الرغم أن الأخير كان وما زال وسيبقى يدرك أن الطريق صعبة مع الاحتلال، وكان يتوقع دائماً الأسوأ عبر هذه الطريق، ولكنه مقتنع تماما بما قاله إرنست همينغوي: "لا تفكر أيها العجوز. امض في طريقك.. فليكن ما يكون"، وهذا ما جعل سلوكه ضد الاحتلال يسير على صراط مقولة رفيقه جورج حبش "إن النضال ضد المشروع الصهيوني قد يستمر مائة عام وأكثر، فعلى قصيري النفس أن يتنحوا جانباً".
يقول إرنست همينغوي في روايته العجوز والبحر: "الشيخوخة هي ساعتي المنبهة، ولعلك لا تعرف لماذا لا يستيقظ العجائز مبكرين.. ليجعلوا أيامهم الباقية أطول من أيام الناس"، لذلك يصحو جابر باكراً ليبدأ نشاطه اليومي ليس ليعتبر يومه أطول من أيام الناس فقط، بل ليستقبل كل من له مشكلة ويتابع الشأن السياسي سواء مع الاحتلال، والشأن السياسي الداخلي الفلسطيني فهو لا يدخر جهداً في انتقاد سلوك السلطة الذي يعتبره لا ينسجم مع أهداف الشعب الفلسطيني، فكان من أوائل الذين اعتبروا اتفاق أوسلو هو مشروع لإجهاض القضية الفلسطينية والخروج بها إلى مربع البدائل وعدم ابقائها تحت شعار: إما الانتحار الإيثاري بالثورة أو الدولة الكاملة.
يعيش هذا العجوز حاملاً الضوء داخل النفق من أجل شعبه الواقع تحت الاحتلال فهو يؤمن أن النفق لا ضوء فيه وكثيرون يحاولون سرقة النفق، وفي داخل النفق أيضا يحمل أحلام الشيخوخة، بالإضافة إلى الضوء والأحلام، يحمل جابر إنسانيته، وفي هذا الصدد تقول عميرة هاس: في الاعتقال الأخير أخبرته بيسان ابنته أنها وخطيبها ينويان تأجيل زفافهما الذي كان مخطط له في 18 آب، إلى حين إطلاق سراحه: "ولا بأي حال من الأحوال"، قال لها: “سأغضب منكما إذا قمتما بتأجيل الزفاف وسمحتم لهذا بالتشويش على برامجكم. إن نضالنا هو من أجل الحياة، كله من أجل أن نستطيع أن نحيا".
يدلل هذا الموقف الأخير على أن حياتنا عليها أن تستمر بالرغم من وجود الاحتلال لأننا نقاتل من أجل هذه الحياة، فالاحتلال لم يمنع جابر من أن ينجب سبعة أبناء بينهم من جاء على الدنيا والعجوز في السجن، واعتقل عدد منهم بينهم مجد وغسان عدة مرات، ويدلل أيضا هذا الموقف أن علينا أن ننبش البعد النفسي لهذا الرجل وننقب عن أحلامه بزوجته وبيته وعائلته، وننبش لحظات غضبه وحزنة وفرحه، ماذا يحب ويكره... وليس علينا الاكتفاء بالحديث عن البعد الوطني له فقط، بل علينا أيضا أن نفكر ولو قليلا في عذابات هذا الرجل وتضحياته التي يقوم بإخفائها ليثبت لنا أنه قوي، وعلينا أن نستخرج الكنز من داخله، ويجب أن نشاطره تلك الفكاهة التي يمارسها في حياته، ففي أثناء تجهيز ابنته بيسان مكتبها كمحامية قال لها ممازحا: "أريد منك في المرة القادمة أن تكوني محاميتي".
يعلم جابر جيداً تلك المعادلة العجيبة هو أن الشعب الفلسطيني يمتلك في قرارة ذاته الرقة الجميلة، ويواجه هذا الشعب احتلال قاسي، هذه المعادلة جعلته يدرك تماما أنه جزء من الجسد وأن خيانة الجسد تعني اهتزاز الشعب وفقدانه لتوازنه، لذلك لا تكفي هذه الكمات في الحديث عن تاريخ هذا العجوز، ونحتاج للجلوس معه وتسجيل كل محطات حياته لأن في دهاليز هذا التاريخ يختبئ تاريخ المنتصر، وعندما نقول المنتصر فهو بالرغم من أنه عجوز لم يفقد سلاح الإيمان بعدالة قضيته، ويدرك جيداً أن الشعب الفلسطيني عليه أن يدق المسمار في الخشب بكل قوة دون أن يدقه في يده.
يقول جابر: من يمتلك مبدأ ويعمل عكسه هو شخص مهزوزو من الداخل، لذلك ما زال هذا العجوز متمسك بمبدأ فلسطين كل فلسطين التاريخية، وهو يعلم أن الاحتلال يسير وفق خطة مرسومة، ولذلك على الشعب الفلسطيني أن يمتلك خطة أكثر براعة في مواجهة هذا الوحش الجاثم على الأرض، وأن هناك قضايا تستحق النضال لأجلها إلى حد يكاد لا يصدق، ويدرك إلى جانب ذلك أن الشعب الفلسطيني لم يخلق للهزيمة.
ربما علينا أن نجيب غسان كنفاني عندما سأل في روايته عبر عنوانها الرئيسي ما تبقى لكم؟ أن ما تبقى لنا بدران جابر وتضحيات أمثاله، وتبقى أيضا لنا صوته وهو يحتضن حفيده ويلقي عليه نهاية قصيدة نعم مولاي تراب لشاعر مظفر النواب:
وعاودني
أني أسمع نوم الطفل
دخيلك يا الله يشب له وطن
فأنا عشت بلا وطن
وتقيّءُ لي بين النهرين تـراباً
أرقد فيه قريرَ العينِ
نعم مولاي تراب
تلك النهاية التي يجب أن تكون البداية لنا.