تجلس إسراء كل ليلة وكأس حزنها المفضل بين يديها المحترقتان، تطفئ الأضواء، وتشعل القلب والعقل بكاز الغصّة، وتلقي قصديتها السرمدية على حروقها:
الليلة شتاء ..شتاء ...
مطر يعاتب الفقدان..
وهواء يقاتل الاصفاد..
الزنزانة تصارع الحرية ..
البوسطة تخاصم الأجساد..
هنا القيد..
سجان يحبس إنسانيته خارج القضبان..
لا مدفأة .. لا حطب .. لا نار .. لا ماء..
محاكم تعشق الطغيان..
قانون يغازل الجنون..
وقاضي يشرب الدموع..
هنا الحروق..
قلم يفقد الأصابع..
وضوء يفقد العينان..
وحذاء يفقد الأقدام..
وإنسان يفقد الجسد..
هنا الحروق..
سيزول المسخ..
سيزول السرطان..
ويبقى وجه معتصم..
ويبقى الأمل..
يبقى الوطن..
تبقى فلسطين..
نعم تبقى فلسطين، ومن أجل فلسطين نكتب اليوم عن إسراء، عن هذه المرأة التي رفضت أن تُهزم كإنسان، وأن تنتهي كقضية، لنقرأ لا لنبكي، بل لنشعر بإنسانيتنا:
بعد نجاح الحملة التي أطلقها نشطاء فلسطينيون تطالب بإطلاق سراح الأسيرة "أنهار الديك" انطلقت مؤخراً حملة مشابهة لدعم ومساندة الأسيرة إسراء جعابيص في محاولة منهم لضغط على المجتمع الدولي ومؤسسات حقوق الإنسان لتحريك المياه الراكدة في ملف الأسيرة جعابيص، ولكن جاءت عملية نفق الحرية لتأخذ وهج هذه الحملة وتتوجه الأضواء مباشرة لمتابعة تفاصيل العملية المثيرة.
إسراء جعابيص أسيرة فلسطينية وجه لها الاحتلال الصهيوني تهمة محاولة تنفيذ عملية بالقرب من حاجز "زعيم" بتاريخ 11 أكتوبر 2015 ، "كانت الأسيرة بحسب الرواية الفلسطينية متوجهة من مدينة أريحا إلى مكان عملها في مدينة القدس والتي تذهب إليها يومياً، وكانت في ذلك اليوم تقوم بنقل الكثير من الأغراض إلى مكان سكنها الجديد القريب من مكان عملها، وفي داخل السيارة كان يوجد جهاز تلفاز وأنبوبة غاز والأخيرة بسبب تماس كهربائي داخل المركبة انفجرت ولينفجر أيضاً بالون السيارة الموجود بجانب مقود السيارة والذي يعرف أنه يقلل من مضاعفات حوادث السير".
قفزت إسراء من السيارة بعد اشتعال النيران بداخل السيارة وتوجهت إلى جنود الاحتلال المتواجدين على مقربة من مكان الحادث، صارخة تطلب الإسعاف، ولكن جنود الاحتلال قرروا أن يقتلوا إسراء ليس من أجل شيء فقط من أجل القتل ذاته، لم يستجب أفراد الشرطة لصراخ إسراء ومباشرة أغلقوا المكان وتم استعداء قوة من الجيش.
أعلنت الشرطة الصهيونية في البداية أنه ما حدث هو حادث سير ذاتي، ثم ما لبث الإعلام العبري أن تراجع عن الخبر وأعلن أن ما حصل عملية لاستهداف الجنود الإسرائيليين، واكتشف المحققين وجود التلفاز مع أنبوبة الغاز الفارغة، وانفجار بالون السيارة وليس أنبوبة الغاز، وعلموا أن تشغيل المكيف منع انفجار زجاج السيارة، لكن المخابرات الإسرائيلية ادعت أن إسراء كانت في طريقها لتنفيذ عملية.
بعد مد وجزر داخل محاكم الاحتلال؛ غير الشرعية حكم عليها بالسجن لمدة 11 عاماً، وغرامة مالية مقدارها 50 ألف شيكل، وكانت المداولات قبل الحكم قد استمرت لمدة عام، وصدر الحكم في 7 أكتوبر 2016. كانت فترة التنقل إلى المحاكم صعبة جداً، حيث تعاني إسراء من حروق تصنف ضمن الدرجة الأولى والثانية والثالثة في معظم أنحاء جسدها تصل حد 60%، هذه الحروق كانت ألم مضاعف بجانب ألم البوسطة التي يتم نقل فيها إسراء إلى أروقة المحاكم اللاإنسانية، وألم الجو الحار جدا داخل سجن "هشارون" والذي لا يحتمل خلال فصل الصيف، والرطوبة فيه مرتفعة جدًا بفعل قربه من البحر.
في روايتها عن الأسيرة إسراء جعابيص تقول الأسيرة المحررة حلوة حمامرة: "كثيرًا ما كانت تتألم وما زالت حتى الآن من ظهرها، ويديها، وتشعر بحرقة في العين، والاحساس الدائم بالدوار، وكلما ذهبت للعيادة وطالبت بإجراء عملية تجميل لها، يردون عليها باستهزاء بأنها لن تعود كالسابق حتى لو أجريت لها عملية، وتواجه إسراء صعوبة في تحريك يديها، وعندما تريد القيام بأي عمل يتطلب جهدا ولو بسيطا كانت تجرح يدها، وكانت تواجه صعوبة في النوم، وتشعر بقلق شديد".
وتضيف حمامرة: كان من الصعب عليها أن تأكل أو تشرب بشكل طبيعي بعد أن ذوبت الحروق شفتها السفلى، وكان الأكل يتساقط منها، بالتالي كانت تحتاج لكأس مزودة بأنبوب صغير تستطيع الشرب منها بأريحيّة، وإلى بدلات خاصة، حصلت عليهما بعد أشهر طويلة من الطلب والإلحاح".
الاحتلال الإسرائيلي الذي كان شريكا في الحادث مع النيران التي اشتعلت في جسد إسراء، بعد اشتعالها في سيارتها، وقف أيضاً كشريك مع الألم المستمر؛ بأن تعيش إسراء بهذه الحالة دون علاج وهي تحتاج إلى أكثر من ثمانية عمليات حتى تستطيع ممارسة حياتها بشكل شبه طبيعي، ولم يتوقف الاحتلال عند حد التوغل في جسد إسراء المحترق وسيكولوجيتها، بل سكب الزيت على النار عندما رفض إنقاذ إسراء – فهو مهمته قتل وإرهاب وقمع وسجن حرية الشعب الفلسطيني - وعلى الرغم من ذلك عندما وضع رأس إسراء على المقصلة؛ صرخت بمليء حنجرتها المشتعلة بحشرجة الدموع "الحرية".
يقول الكاتب عبد الرحمن منيف في روايته شرق متوسط: لا تصدقوا. أن أكبر قوة على الأرض، لا يمكنها ارغام إنسان على الاعتراف، أقصد إذا أراد الانسان. بعض الناس يموت ولا يعترف. القضية متوقفة على الإرادة، وعلى البداية إذا قرر الإنسان أن لا يعترف، إذا صمم، وتحمل لحظات العذاب الأولى، يصبح كل شيء بعد ذلك سهلاً. الإرادة.. كنت أتصور أن بعض الكلمات لا تعني شيئاً أبداً، ولكن لجعابيص كانت الإرادة أكسير الحياة، بالرغم من الحروق كانت تصنع الدمى والهدايا لعائلتها، وتمارس دور المهرج بكتابة السيناريو وتمثيله، وتتعلم مسك القلم بين أصابعها المحترقة، تلك الأصابع التي تنهمر منهم أجمل كلمات الأمل.
ولم تتوقف حدود الإرادة عن هذا الحد، بل كانت أقوى من الجسد المشتعل الذي وصلت رائحته إلى كل أنف، كتبت إسراء الرسائل التي تحوي نار القلب على طفلها معتصم، وفي كل رسالة كانت النار المشتعلة بحرارة القلم أقوى من النار المشتعلة في جسدها، نار الصباح الذي فقدت فيه إيقاظ معتصم وصناعة الفطور له وتقبيله بعد أن ارتدى أجمل الملابس إلى المدرسة، نار الحضن الذي أصبح غير محايد هو الآخر بعد العودة من المدرسة، وأيضا نار الابتسامة التي بقرار من قبل الاحتلال بعدم زيارة معتصم لها داخل السجون، بالإضافة إلى النار التي تذكرت عند اشتعالها أنها صرخت بوجه معتصم وكادت أن تصفعه لأنه رفض تناول طعامه ليلهو ويلعب. هي حكاية إسراء التي تحمل بين حروقها محاولة ترميم ما تبقى في رأسها من أفكار، تلك الأفكار التي لم تحترق رغم كل شيء، بهذه الأفكار تعرج إلى الحياة، تفتح أبواب السماء وتعلن ولادة عالم جديد، لا حروق فيه، ولا قيود، ولا سجان، تحارب البقاء بالبقاء، تستقبل الأسيرات بابتسامة تشبه شمس الصباح تلك الشمس التي تراها إسراء عند كل غروب وشروق منبعثة من النافذة تتمسك وتحتضن هذا الضوء وكأنه أملها الوحيد بالتحرر من السجن ونسيم الهواء يداعب وجهها المحترق للحرية، وتزرع إسراء أشجار الزيتون لتثمر قوة، وتعلن عندما تخاطب وجهها أمام المرآة أن اليأس هو الموت، وأن الجمال الفلسطيني منتصر كوردة بيضاء على الرماد، ويبقى هذا الاحتلال هو الحروق التي لا تشفى إلا بالمقاومة... وتبقى إسراء، الموناليزا التي لا تقدر بثمن لأنها موناليزا الحرية، موناليزا فلسطين، وتبقى فلسطين عنوانًا للحرية.