توطئة
كل شيء يبدأ من القدس وينتهي إليها؛ الرواية والصراع والميثولوجيا والتاريخ، لكونها مدينة فريدة ولها تاريخ فريد ومشكلتها فريدة، خصوصاً ارتباطها بثلاث ديانات سماوية هي: اليهودية والمسيحية والإسلام. وخلال تاريخها الذي يقارب 40 قرناً، تعرّضت المدينة إلى الحصار 20 مرّة، وإلى التدمير 17 مرّة، وتناوب على حكمها أقوام وأعراق ومِللٌ ونِحلٌ، ومجموعات مختلفة زادت على 25 "دزينة"، وتنازعت عليها قوى وجهات ومصالح دولية مختلفة؛ ولكنها كانت تنهض مثل طائر الفينيق كالعنقاء لتجدّد نفسها، وتنبعث من جديد.
وعلى الرغم من الصراع والاحتراب والغزو الخارجي الذي عانته المدينة، إلاّ أنها عاشت نوعاً من التسامح، وخصوصاً بعد الفتح الإسلامي لها ودخول الخليفة الثاني الفاروق عمر بن الخطاب إليها، بصحبة البطريرك صفرونيوس، في العام 15 للهجرة، وصادف أن كان الخليفة عمر في كنيسة القيامة، وحان موعد الصلاة، فدعاه البطريرك للصلاة فيها، إلاّ أنه اعتذر بحكمةٍ وبُعد نظر تحسباً لمن سيأتي من بعده ويقول أنها أرض المسلمين لأن خليفتهم صلّى فيها، وقام وصلّى بالقرب منها، حيث تمّ بناء جامع باسمه لاحقاً، وعمل الخليفة عمر بن عبد العزيز المعروف بـ "الخليفة العادل" على توسعة جامع عمر الكبير، وما يزال إلى اليوم دليلاً على التسامح والتعايش الذي عرفته المدينة في تاريخها، حتى بعد حروب الفرنجة، وقد تحرّرت القدس على يد القائد صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين في العام 1187.
رياح العنصرية
عانت المدينة المتعايشة والمتسامحة من موجة عنصرية منذ ثلاثة أرباع قرن من الزمن، حيث تعرّضت فيها لاستلاب واحتلال واستيطان وظلم، وظلت هدفاً للحركة الصهيونية تسعى للهيمنة عليها.
ومنذ قيام "إسرائيل" في 15 أيار/مايو 1948 قال بن غوريون، رئيس أول حكومة: "لا إسرائيل من دون القدس، ولا قدس من دون الهيكل". وفي العام 1967 ترجم الجنرال موشي دايان، كلام بن غوريون ليحتل القسم الشرقي من القدس بعد أن استولت "إسرائيل" على قسمها الغربي، ليبدأ مسلسل الضم والإلحاق والاستيلاء والإجلاء، الذي توّج بقرار "الكنيست" في العام 1980، تنفيذاً للرواية "الإسرائيلية" التي تقول: "إن حائط المبكى "حائط البراق" هو الأثر الوحيد المتبقي من هيكل سليمان". وهي ادعاءات أسقطتها "منظمة اليونسكو" حين قرّرت اعتباره جزءًا من التاريخ العربي والسيادة العربية بقرارها رقم 211 في 15 إبريل/نيسان 2021، مؤكدةً على أن جميع الإجراءات الرامية إلى تغيير طابع المدينة المقدسة ووضعها القانوني باطلة ولاغية.
ففي القدس ولد وعاش ومات السيد المسيح، وفيها القبر المقدس وكنيسة المهد وحديقة الجتسمانية وجبل الزيتون وفيها 38 كنيسة. كما أنها مكان مقدس للمسلمين، فهي أولى القِبلتين وثالث الحرمين وتأتي مكانتها بعد مكة والمدينة، وفيها مسجد الصخرة، ومنها عرّج الرسول محمد إلى السماء في رحلة المعراج. وفيها 34 مسجداً وجامعاً (27 منها في المدينة القديمة والبقية خارج أسوارها).
في الوجدان
لا يمكن الحديث عن فلسطين من دون الحديث عن قلبها القدس الشريف كما أسماها الشاعر محمود درويش وهو يكتب إعلان استقلال فلسطين في الجزائر في مؤتمر المجلس الوطني الفلسطيني العام 1988، ولا يمكن الحديث عن القدس من دون فلسطين، فهما في ترابط عضوي لا يمكن فصمه.
اليوم وبعد 73 عاماً على النكبة، وعلى الرغم من كل ما حصل من تشريد للشعب العربي الفلسطيني، وتقطيع أوصاله وبناء جدار عنصري، فإن فلسطين تعود مجدداً إلى الخريطة موحّدة واقعية وليست متخيّلة، بمعناها الراهني والمنظور وليس بمعناها التاريخي المعروف، وبصفتها المعيشة وليس بصفتها المقروءة في الكتب، وهي أقرب إلى الحضور منها إلى الغياب وذلك بفعل انتفاضة حي الشيخ جراح.
بطلان قرار الضم
كان مجلس الأمن الدولي قد أصدر قراراً برقم 476 في 30 يونيو/حزيران 1980 يعلن فيه بطلان الإجراءات "الإسرائيلية" لتغيير طابع مدينة القدس، كما أصدر القرار 478 في 29 أغسطس/آب 1980 تضمّن عدم الاعتراف بالقانون "الإسرائيلي" بشأن القدس، ودعا الدول إلى سحب بعثاتها الدبلوماسية من المدينة.
وعلى الرغم من ذلك فإن "إسرائيل" مضت من دون اكتراث إلى تهيئة المستلزمات لإعلانها "عاصمةً موحّدةً" لها، بفعل دعم الولايات المتحدة وتشجيعها. وكان الكونغرس الأميركي قد أصدر قراراً في العام 1995 يقضي بالاعتراف بالقدس الموحّدة عاصمة لدولة "إسرائيل" والعمل على نقل السفارة الأمريكية إليها، وهو القرار الذي ظل مؤجلاً في عهد الرؤساء بيل كلينتون وبوش (الإبن) وباراك أوباما، ولكن الرئيس دونالد ترامب أقدم على تنفيذه باندفاع شديد وحماسة كبيرة، في إطار ما عُرِف بـ "صفقة القرن" التي روّج لها، داعياً العرب للانضمام إليها.
وقد باشر سيّد البيت الأبيض عملياً بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة في 6 ديسمبر/كانون الأول 2017 من دون مراعاة أو اعتبار لمشاعر مئات الملايين من البشر، مسلمين كانوا أم مسيحيين، أم غيرهم، وسار الرئيس جو بايدن على خطى سلفه بشأن موضوع السفارة الأمريكية.
حي الجرّاح والوحدة الفلسطينية
أكّدت أحداث "حي الجرّاح" والالتفاف الشعبي من مختلف أنحاء فلسطين على الحيوية الفائقة للشعب الفلسطيني وقدرته على بلورة مطالبه وابتداع أساليب كفاحية جديدة للفت النظر إلى قضيته العادلة والمشروعة عالمياً، لأن قضية فلسطين عموماً وقضية القدس خصوصاً هي قضية الحرية والتحرّر وحق تقرير المصير في كل مكان من العالم.
لم يعد "الخط الأخضر" وبقية خطوط التقسيم وجميع خطوط الضم والإلحاق والترسيم قائمة، ولم تنفع محاولات التهويد و"الأسرلة"، ولا دعوات التطبيع ممكنة، لا سيّما حين ظهر الداخل الفلسطيني وعرب الـ 48 سكان البلاد الأصليين وهم يستوعبون الخارج الفلسطيني في تكامل وتواصل وترابط، وظهر الشتات متفاعلاً ومكمّلاً للوطن بتضاريسه البهية والملوّنة في هارموني متّسق وجديد يؤشر إلى فلسطين المستقبلية، فلسطين الحقيقية كقضية حق وعدل وإنسانية.
وهو الأمر الذي تم التفاعل معه من جميع أنحاء فلسطين، يافا وحيفا واللدّ والخليل والنقب وأريحا و غزة التي انضمت لنصرة القدس، وهو ما أثار ردود فعل دولية، خصوصاً حين شنّت "إسرائيل" عدواناً في إطار حرب شاملة وقصف وتدمير أثار استنكاراً دولياً كبيراً على المستوى الشعبي، وهو الذي يذكّر بعدواناتها السابقة، الرصاص المصبوب 2008، وعامود السحاب 2012، والجرف الصامد 2014.
خمسة قضايا مهمة تلفت الانتباه حصلت خلال أحداث "حي الجرّاح" وبُعَيده، وهي التي ينبغي أن توضع في صلب الدبلوماسية الفلسطينية والعربية كجزء من القوة الناعمة:
أولها - إرسال 191 منظمة حقوقية دولية رسالة إلى المدعية العامة لدى المحكمة الجنائية الدولية تطالبها بشمول تحقيقاتها الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولا سيّما تلك الواقعة في "حي الجرّاح"، على خلفية توجّه ممثلين عن 500 لاجىء فلسطيني برسالة تواصل اجتماعي في 22 إبريل/نيسان 2021.
وثانيها - توقيع 185 مثقفاً وفناناً وكاتباً "إسرائيلياً" بمن فيهم جنرالات سابقين في الجيش، مذكّرة موجّهة إلى المحكمة الجنائية الدولية يطالبون فيها بالتدخل للتحقيق في جرائم الحرب "الإسرائيلية"، وفي ذلك إشارة صريحة إلى عدم حيادية القضاء "الإسرائيلي" وعدم نزاهته، ومثل هذا التطوّر الجنيني يؤكّد أن شرعية نظام الأبرتايد Apartheid، بدأت تهتز، حتى داخل "إسرائيل" ومن قِبَلِ "إسرائيليين" وهو الأمر الذي لا بدّ من العمل على تطويره وتفعيله وتوسيعه ليشمل يهوداً خارج "إسرائيل" وفي شتّى بلدان العالم.
وثالثها - التقرير الذي أصدرته منظمة هيومن رايتس ووتش، وهي منظمة حقوقية أمريكية، بخصوص الانتهاكات "الإسرائيلية" الصارخة لحقوق الإنسان، وذلك عشية أحداث "حي الجرّاح"، تساوقاً مع تقارير منظّمات حقوقية دولية وقرارات سبق للأمم المتحدة أن اتخذتها، بما فيها لجان تقصّي الحقائق.
ورابعها - اتخاذ حزب العمال البريطاني قراراً مهماً يدين ممارسات "إسرائيل" العنصرية، وقد صوَت عليه بأغلبية وازنة وذلك في مؤتمره السنوي المنعقد في مدينة برايتن الساحلية (أيلول/ سبتمبر 2021) علماً بأن قيادة حزب العمال ظلّت مرتهنةً للّوبي الصهيوني المسيطر على هذا الحزب والذي قاد إلى فصل النائب جورج غالاوي وإبعاد النائب جيرمي كوربن عن رئاسته ، لكن ثمة تطور مهم قد حصل على صعيد قواعد هذا الحزب والرأي العام البريطاني بشكل عام، وخصوصاً المجتمع الأكاديمي الذي سبق له أن اتخذ قرارات لمقاطعة بعض الجامعات العنصرية "الإسرائيلية" وحظر التعامل معها.
وخامسها -اتخاذ مجلس نوّاب ولاية كاليفورنيا (أكبر الولايات الأمريكية وأكثرها ثراء) قراراً بإدانة الممارسات العنصرية "الإسرائيلية" وتدريس القضية الفلسطينية.
ولعلّ هذه التطورات التي أعقبت أحداث حي الجرّاح مهمة للغاية في تعزيز التضامن مع الشعب العربي الفلسطيني، وفي تأكيد حقوقه العادلة والمشروعة في نقض الرواية "الإسرائيلية" أساساً، وهو ما يمكن استخدامه في ظل دبلوماسية القوة الناعمة ذات البعد الثقافي والحضاري، خصوصاً على المستوى الدولي.
والمطلوب تفعيل ذلك حقوقياً، لا سيّما من جانب المنظمات والهيئات الحقوقية، وهو ما ينبغي أن يوضع في أجندة المنظمات الحقوقية العربية بدعوة المنظمات الدولية الكبيرة مثل: منظمة العفو الدولية (أمنتسي)، وهيومن رايتس ووتش (منظمة مراقبة حقوق الإنسان)، والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان FIDH، ومنظمة المادة 19 "Article 19" الخاصة بحرية التعبير. لكي تتخذ مواقف ضاغطة على "إسرائيل" لوقف انتهاكاتها ومطالبة المجتمع الدولي تمكين الشعب العربي الفلسطيني من حقه في تقرير مصيره وهو حق أساسي وجماعي يتعلق بوجوده ومستقبله ويشكّل ركناً مركزياً من أركان قواعد القانون الدولي المعاصر، والقانون الإنساني الدولي.
وكانت الرابطة العربية للقانون الدولي التي أتشرّف بكوني أمينها العام أن دعت إلى عقد اجتماع في جنيف، وفي مقر المنظمة الدولية (الأمم المتحدة) لمخاطبتها لتحمّل مسؤوليتها، وذلك في الذكرى الـ 100 للانتداب البريطاني على فلسطين (1922)، الذي أُقر في مؤتمر سان ريمو (1920)، لبحث السبل الممكنة للاعتذار عمّا أصاب الشعب العربي الفلسطيني من غبن وأضرار من جهة، ومن جهة أخرى تعويضه بتمكينه من تقرير مصيره وعلى أرض وطنه، بإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، فضلاً عن معاقبة المعتدي وذلك بإعلاء قيم التضامن الدولي وقيم العدالة الدولية.
ولعلّ هذه التطوّرات في الداخل الفلسطيني تضع على عاتق المثقفين مسؤوليات جديدة في إطار الدبلوماسية الشعبية على المستوى الدولي، وهذه تحتاج إلى استراتيجيات جديدة وجهد مشترك لاستنهاض التضامن الدولي لدعم الصمود الفلسطيني من جهة، ومن جهة أخرى تعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، وبتوجهات واضحة بعد فشل جميع مشاريع التسوية والسياسات التي اعتمدت على أساسها طيلة العقود المنصرمة.
إذا كانت القضية الفلسطينية كقضية معقدة وتاريخية وجزء من حركة التحرّر الوطني ولها خصوصيتها، فثمة خصوصيات فيها أيضاً، منها: حق العودة كحق قانوني وتاريخي، بموجب القرار 194 الصادر عن الأمم المتحدة، وحق "إقامة الدولة" والحق في التعويض، فإن القدس تبقى قضية "القضية" التي لا يمكن الحديث عن فلسطين من دونها، وليس الأمر لكونها القضية الأكثر عاطفية ورمزية، بل لأنها الأرسخ تجذراً في الوجدان العربي والإنساني، ليس لفلسطين وحدها، بل هي قضية دمشق والقاهرة وبغداد وبيروت وعمّان والرباط وتونس ونواكشوط والرياض و الكويت والخرطوم وغيرها، كقضية حق وعدل وحرية.
الدبلوماسية والثقافة
أود أن أؤكد هنا على ثلاث جوانب مهمة في التعامل مع "قضية القدس" أحدها دبلوماسي قانوني دولي له علاقة بالتحرّك في المحافل الدولية، سواء الحكومية أم غير الحكومية، بما فيها بعض المؤتمرات الدولية، وثانيها ثقافي له امتداد دولي حكومي وغير حكومي بما فيه الدور الذي يمكن أن تلعبه منظمات المجتمع المدني. وثالثها إعلامي يخص مخاطبة العقل الآخر أي الدور العربي في الإعلام الدولي، وتعتبر الحلقات الدبلوماسية والثقافية والإعلامية مترابطة ومتكاملة كجزء من حركة مقاومة سلمية مدنية ضرورية لاستكمال سبل المواجهة الأخرى، خصوصاً باستخدام "القوة الناعمة" لصالح الحق في مواجهة الباطل.
ولأن الأمر يحتاج إلى استراتيجية تكاملية تتجاوز ما هو طارئ ومؤقت إلى ما هو مستمر وبعيد المدى، فلا بدّ من توظيف الدبلوماسية والثقافة والإعلام بالوسائل المتاحة في خدمة الأهداف العامة التي يسعى للوصول إليها الشعب العربي الفلسطيني، سواء ما يتعلق الأمر بالقدس أم بعموم القضية الفلسطينية بمفرداتها المختلفة انطلاقاً من مبدأ حق تقرير المصير.
وحين أتحدّث في عمان أقول "لا يُفتى ومالك في المدينة" فقد كان سمو الأمير الحسن بن طلال، قد انشغل بهذا الملف منذ عشرات السنين، على نحو استثنائي بحثاً وتحليلاً، نظرياً وعملياً. وأستذكر كتاب سموّه الرصين بخصوص القدس والموسوم "القدس- دراسة قانونية" (1979) الذي كان تأصيلاً نظرياً وفكرياً ومعرفياً بالاستناد إلى قواعد القانون الدولي بتأكيد عدم شرعية "إسرائيل" في احتلالها للقدس ومحاولة تغيير تركيبتها الديموغرافية وإجلاء سكانها، وقد أعقب هذا الكتاب بكتاب آخر مثّل نظرة ثاقبة ومستقبلية إزاء حقوق شعب فلسطين العادلة والمشروعة والذي كان بعنوان "حق الفلسطينيين في تقرير المصير" (1981)، ويعتبر هذان الكتابان مرجعين قانونيين وفكريين مهمّين بشأن القضية الفلسطينية عموماً والقدس خصوصاً.
وإذا كانت السياسة بمعناها العام صراعاً واتفاقاً في المصالح، فإنها والحالة هذه تتجلّى بصورة أكثر وضوحاً في المجالين الدبلوماسي والثقافي والإعلامي، باستخدام وسائل القوة الناعمة للتأثير على الطرف الآخر، فالحرب حسب المفكر النمساوي كلاوزفيتز، هي سياسة لكن بوسائل أخرى.
لقد تمثّلت المعارك السياسية والعسكرية طيلة قرن من الزمن بغياب أو ضعف الحلقة الدبلوماسية من الصراع العربي -الإسرائيلي وظلّت وجهتها القانونية بعيدة عن الاهتمام المطلوب، منذ وعد بلفور العام 1917 وقبله اتفاقية سايكس - بيكو السرية العام 1916 بين بريطانيا وفرنسا لتقسيم المنطقة إلى كيانات، وفي الالتفاف على مشروع "الثورة العربية" بقيادة الشريف حسين، وفيما بعد حروب "إسرائيل" العدوانية منذ قيامها في العام 1948.
كما لم تولَ الحلقة الثقافية، هي الأخرى، الأهمية التي تستحقها، وظلّت القوى المعادية للعرب تسعى لتنميط الإسلام، سواء عن قصد أو عن جهل، فهي لا تفرق بين الإسلام والمسلمين وبين المسلم العربي والعربي غير المسلم ولا بين المسلم العربي والمسيحي العربي ولا بين المسلمين بطوائفهم المختلفة ومدارسهم الإجتهادية وبين انحدارهم من قوميات وأمم مختلفة ، ناهيك عن المسلم الحداثي والمسلم الماضوي وكل ذلك يريد وضع المسلمين في كفة ميزان واحدة والتعامل معهم باعتبار دينهم يحضّ على العنف والإرهاب وبالتالي يقوم على التعصب والتطرف وهدف ذلك نمذجة الإرهاب وربطه الإسلام.
وحسب إدوارد سعيد فليس من المعقول أن تكون جوديت ميلر وصاموئيل هنتنغتون ومارتن كرايمر وبرنارد لويس ودانيال بايس وستيفن إمرسون، إضافة إلى مجموعة من الأكاديميين "الإسرائيليين" لا يعرفون الفرق بين المصطلحات لكنهم يريدون إبقاء الإسلام نصب العين ملصقين ممارسات العنف والإرهاب به.
أما الحلقة الإعلامية فتبقى الأكثر تأثيراً فالصورة والوثيقة خبرٌ أيضاً، ولعلها في ظل الثورة العلمية التقنية وتكنولوجيا المعلومات والإعلام في ظل الطور الرابع للثورة الصناعية وهي أهم بكثير من المقالة والتحليل والمعلومة، فالعالم أصبح قرية كونية ويدار عبر شركات ومؤسسات وجهات إعلامية لها تأثير كبير في إحداث التغيير في العالم. ولعل المتتبع أيضاً سيصطدم بحقيقة ساطعة ومريرة هو أن ما فعلته "إسرائيل" منذ تأسيسها في العام 1948 وما شنته ضد البلدان العربية من حروب وإرهاب جماعي وفردي وأعمال عدوان، وما ارتكبته من جرائم وما أقدمت عليه من مجازر لا يكاد يكون موثقاً.
الدبلوماسية والثقافة تمثل جانباً حضارياً وسلمياً كجزء من "دبلوماسية القوة الناعمة" بوسائلها المتنوعة، لاسيما الثقافية والإعلامية، التي على العرب ومناصريهم استخدامها حيثما أمكن، لأنها كانت ولا تزال شرطاً لا غنى عنه لخوض معركة ناجحة وبوسائل متنوّعة وأساليب متعدّدة وحديثة ومقنعة، فضلاً عن ذلك فإن تأثيرها سيكون فعّالاً إذا أُحسِن استخدامها، لما له من انعكاسات على الجوانب الاقتصادية والتجارية، بما فيها الموارد الأولية كالنفط والغاز مثلاً، واستخداماتهما التي يمكن أن تكون حيوية في إطار توازن المصالح وتبادل المنافع والمشترك الإنساني.
أولاً- في الدبلوماسية الدولية
"إن أي نقاش أو تصويت أو قرار لن يغيّر من الحقيقة التاريخية، وهي إن القدس عاصمة الشعب اليهودي وعاصمة إسرائيل". بهذه اللغة الاستعلائية والاستفزازية واجه داني دانون مندوب "إسرائيل" في الأمم المتحدة قرار الجمعية العامة الصادر في 21 ديسمبر (كانون الأول) 2017، الخاص برفض قرار الإدارة الأمريكية بنقل سفارة واشنطن إلى القدس المحتلة. وأكثر من ذلك أنه اعتبر الفلسطينيين يواصلون تضليل المجتمع الدولي والاختباء خلف مداولات فارغة المضمون، بدلاً من الجلوس حول طاولة المفاوضات. فكيف يمكن النظر إلى القرار الأممي من زاويتنا كعرب ومعنيين بالفكر القانوني والحقوقي والدولي وفي إطار دبلوماسية القوة الناعمة؟
الملاحظة الأولى الجدل الفقهي والقانوني والسياسي الواسع الذي أثاره القرار المذكور نظراً لأهميته وتأثيره، ناهيكم عن إمكانية تطبيقه في الحال أو في المستقبل، لاسيّما لإصدار قرارات أخرى استناداً إليه لمنع الإدارة الأمريكية من تنفيذ قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بشأن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، وهو القرار الذي سبق للكونغرس الأمريكي أن اتّخذه العام 1995. وكان الرؤساء الثلاثة بيل كلينتون وجورج دبليو بوش وباراك أوباما قد أجّلوا تنفيذه خلال عقدين ونيّف من الزمن. وسار الرئيس جو بايدن على خطى سلفه ترامب بشأن موضوع نقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
الملاحظة الثانية، شبه الإجماع الدولي الذي حظي به القرار بما له من دلالة وعمق ومعنى حيث نال تصويت 128 دولة داعمة له، مقابل تسعة أصوات رافضة وامتناع 35 دولة عن التصويت وانسحاب دولتين. ولعلّه من القرارات المهمة التي صدرت عن الجمعية العامة بهذا القدر من الانحياز الأقرب إلى التضامن مع الشعب العربي الفلسطيني.
الملاحظة الثالثة، عقدت الجمعية العامة جلسة استثنائية لتصدر هذا القرار التاريخي وهي الجلسة العاشرة الاستثنائية في تاريخ تأسيس المنظمة الدولية منذ العام 1945 وحتى الآن، ولم يكن ذلك بمعزل عن معركة دبلوماسية دولية ينبغي على العرب مواصلتها، وعدم الانكفاء بشأنها كما حصل عند إلغاء القرار 3379 الذي ساوى الصهيونية بالعنصرية، والذي صدر في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) العام 1975 في عهد الأمين العام الأسبق كورت فالدهايم، وتم إلغاؤه في 16 ديسمبر (كانون الأول) العام 1991، بسبب تراجع الحدّ الأدنى من التضامن العربي بعد غزو الكويت العام 1990، واختلال موازين القوى على المستوى الدولي، إثر انهيار وتفكّك الكتلة الاشتراكية.
الملاحظة الرابعة، تتعلّق بمضمون القرار الذي جاء واضحاً ويصبّ في قرارات دولية سابقة، من المهم التذكير بها، وذلك برفضه أية إجراءات تهدف إلى تغيير الوضع القانوني لمدينة القدس المحتلّة واعتبار تلك الإجراءات ملغاة وباطلة، كما دعا إلى تكثيف الجهود لتحقيق السلام الشامل والعادل والدائم في الشرق الأوسط.
جدير بالذكر أن القدس تتمتّع بوضع خاص بموجب القرار الأممي المعروف باسم قرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947 والذي أنشئت وفقاً له دولة "إسرائيل" في 15 مايو (أيار) 1948.
كما أن قرار الجمعية العامة ينسجم مع العديد من القرارات التي اتّخذتها الأمم المتحدة، لاسيّما القرار رقم 478 الصادر عن مجلس الأمن الدولي بتاريخ 20 أغسطس (آب) 1980 بخصوص عدم الاعتراف بقرار الكنيست بضم القدس إلى "إسرائيل" بالضد من الشرعية الدولية، وذلك بعد احتلالها العام 1967. والقرار 478 هو واحد من سبع قرارات أدانت ضم القدس من جانب "إسرائيل" واعتبارها عاصمة لها.
يُذكر أن "إسرائيل" ضمّت القدس الشرقية إليها العام 1980 بعد احتلالها العام 1967 وأعلنتها عاصمة موحدة لها ولم يعترف المجتمع الدولي بذلك. وكان قرار المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر العام 1988 قد اعتبر القدس عاصمة للدولة الفلسطينية التي يعترف بها العالم، وكان مثل هذا التطوّر حصل باعتراف الأمم المتحدة بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل عن الشعب العربي الفلسطيني العام 1974 ثم قبولها كعضو العام 2012 في الأمم المتحدة، وكذلك في العديد من المنظمات الدولية.
وعلى الرغم من ردّة الفعل الواسعة الشعبية والرسمية، العربية والإسلامية والدولية، بشأن قرار الرئيس ترامب، فإن مشروع القرار المقدّم إلى مجلس الأمن الدولي من جانب مصر نيابة عن فلسطين، تحاشى الإشارة إلى الولايات المتحدة بالاسم، ولكنه دعا الدول لعدم الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة "إسرائيل"، وطالبها بعدم نقل سفاراتها وبعثاتها الدبلوماسية إليها، ومع ذلك فإن الولايات المتحدة استخدمت "حق الفيتو" لمنع إصدار مثل هذا القرار.
وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد ذهب أبعد من ذلك حين هدّد بمعاقبة الدول التي تصوّت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، خصوصاً تلك التي تتلقّى مساعدات مالية من الولايات المتحدة، كما أعلنت نيكي هيلي عن إصرار بلادها المضي في هذا الطريق قائلة: إنه حقها كدولة ذات سيادة وأن قرار واشنطن يعكس رغبة الشعب الأمريكي.
ثانياً- في الدبلوماسية الثقافية
من أهداف الدبلوماسية الثقافية واللّوبي الثقافي نفي الرواية "الإسرائيلية" ودحض مزاعمها وفضح ديماغوجيّتها، خصوصاً بالاستناد إلى قرارات منظمات دولية حقوقية وثقافية، وبوسائل القوة الناعمة التي تستخدم الفن والأدب وكل ما له علاقة بوسائل التأثير المباشرة وغير المباشرة، للتأثير على الرأي العام لإقناعه أكثر فأكثر بالحق العربي وصدقيّته، سواء في القدس أم في فلسطين عموماً.
1- فلسطين والدبلوماسية الثقافية
في مدينة كراكوف التاريخية (بولونيا) اتّخذت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو)، ومقرّها في باريس، قراراً تاريخياً بتسجيل مدينة الخليل (الفلسطينية) والتي لا تزال تحت الاحتلال "الإسرائيلي" على لائحة التراث الإنساني العالمي الذي يجب الحفاظ عليه وحمايته، وذلك يوم 7 يوليو (تموز) 2017.
واتُّخذ القرار في أعقاب تصويت سرّي حيث أثار جدلاً واسعاً ونقاشاً متواصلاً على المستوى الدولي، ولاسيّما ردود الفعل " الإسرائيلية" الحادّة، وذلك لما للقرار من رمزية تتخطّى الجانب التاريخي على أهميته، وتذهب إلى أبعد من ذلك، بالتشكيك بمجمل الرواية "الإسرائيلية" بشأن " أرض الميعاد". ولا شكّ أن الصراع هو قديم وجديد في الآن، بل إنه يتجدّد في كل لحظة، وهو لا يتعلّق بالآثار التاريخية فحسب، بل بمجمل الحقوق الوطنية الفلسطينية، وخصوصاً "حق تقرير المصير".
وصوّتت لصالح القرار 12 دولة عضواً في لجنة التراث العالمي، مقابل 3 دول صوّتت ضده، وامتنعت 6 دول عن التصويت. ويشمل ملف التسجيل: البلدة القديمة لمدينة الخليل والحرم الإبراهيمي العتيق الذي يطلق عليه اليهود "كهف البطاركة"، على قائمة المواقع "المهدّدة". ويعتبر من المقدسات الدينية، حيث دفن فيه الأنبياء ابراهيم واسحاق ويعقوب. وكانت مدينة الخليل، لعقود سابقة، مسرحاً للصراعات بين المستوطنين اليهود الذين يعيشون في جيوب استيطانية بينما يحيط بهم سكان المدينة الفلسطينيين البالغ عددهم نحو 200 ألف نسمة.
ويأتي هذا القرار امتداداً لطائفة من القرارات التي تمّ اتخاذها في وقت سابق، منها قراران مهمّان تم اتخاذهما في العام 2016؛
الأول اتخذته " اليونسكو" في 18 أكتوبر (تشرين الأول) 2016 يقضي باعتبار الأماكن المقدسة في القدس من تراث العرب والمسلمين.
والثاني اتخذه مجلس الأمن الدولي في 23 ديسمبر (كانون الأول) 2016 برقم 2334 بخصوص وقف الاستيطان "الإسرائيلي" في الأراضي العربية المحتلة، علماً بأن الاستيطان وإجلاء السكان بالإكراه يعتبر " جريمة دولية".
وكانت الأسكوا "لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا" في وقت لاحق قد أصدرت تقريراً يدين الأبرتايد (الفصل العنصري) إزاء الشعب العربي الفلسطيني، وذلك في 15 مارس/ آذار2017.
ولعلّ من دلالات قرار اليونسكو الأخير بخصوص الخليل اعترافه بأنها "مدينة محتلّة"، وبالطبع فلا يحق لسلطة الاحتلال تغيير معالمها أو تركيبها السكاني أو نظام علاقاتها، طبقاً لاتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها: الأول الخاص بحماية ضحايا النزاعات المسلحة الدولية، والثاني الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية، الصادران عن المؤتمر الدبلوماسي في جنيف (1973-1977). كما أنه يعيد تأكيد حقوق عرب فلسطين في أرضهم وتراثهم وفي حقهم الدولي غير القابل للتصرّف ونعني به "حق تقرير المصير".
والقرار من زاوية أخرى يعدّ نصراً لكلّ القوى التحررّية وهزيمة للصهيونية وحماتها، ولذلك فإن السفير "الإسرائيلي" كارمل شاما هاكوهين لدى منظمة اليونسكو شنّ حملة قاسية ضد اليونسكو ذاتها واعتبرها منحازة للفلسطينيين وإن قراراتها مسيّسة، والسبب أنها انتصرت للعدالة وللتاريخ والثقافة والحقيقة، حين أكدت "فلسطينية" مدينة الخليل وتراثها الثقافي.
وكانت حكومة بنيامين نتنياهو قد فشلت في محاولاتها لمنع صدور القرار، وحاولت تقديم دلائل باطلة مفادها أن تراث مدينة الخليل، يهودي بالأصل، وأن المدينة ترتبط باليهود منذ آلاف السنين، وهي مكان ميلاد مملكة داوود، وتعتبر من أقدم المواقع الأثرية اليهودية.
إن القرار الأممي الذي اتخذته اليونسكو يعكس درجة التفّهم الدولي لشرعية وعدالة القضية الفلسطينية، ويُعدّ وباقة القرارات الدولية التي تم اتخاذها مؤخراً، تطوراً مهماً وتراكماً إيجابياً أخذت وتيرته تزداد وزخمه يتعاظم منذ أن قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 14 اكتوبر (تشرين الأول) 1974 الاعتراف بـ "منظمة التحرير الفلسطينية" كممثل شرعي ووحيد للشعب العربي الفلسطيني.
ومثل هذا التطوّر الكمّي التدرّجي، لا بدّ أن يتحوّل إلى تغيير نوعي بالتراكم، يمكن للفلسطينيين والعرب توظيفه بالاتجاه الصحيح، إذا ما استطاعوا خوض المعركة الثقافية بنجاح، بموازاة المعركة الدبلوماسية السياسية والقانونية، عبر حشد كل الإمكانات والطاقات لاستعادة الحقوق.
وبقدر ما تعكس قرارات المجتمع الدولي تطوراً إيجابياً للقضية الفلسطينية، فإنها بالقدر نفسه تعكس انحسار المشروع "الإسرائيلي" وتراجعه وانكشاف مدى اللّاعدالة واللّاشرعية التي قام عليها، إضافة إلى استمرار الاحتلال والاستيطان والعدوان خلافاً لجميع قرارات الأمم المتحدة.
ولعلّ كل نجاح فلسطيني دولي يعني فشلاً "إسرائيلياً"، وتلك فرضية ينبغي اعتمادها باستمرار كمؤشر في الصعود الفلسطيني والهبوط "الإسرائيلي"، الأمر الذي ينبغي إيلاء اهتمام أكبر بالدبلوماسية الثقافية، ليس على المستوى الفلسطيني فحسب، بل على المستوى العربي، وهناك الكثير من الشواهد والأدلة، على أننا نحتاج إلى مزيد من العمل والمثابرة والمعرفة والدبلوماسية، لاقتحام هذا الميدان المهم الذي تركنا جزءًا كبيراً منه "لإسرائيل" في العقود السبعة الماضية، وآن الأوان لكي نُحسن التعامل معه لتحقيق اختراقات جديدة للمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، وذلك بإضافة أبعاد جديدة إلى حقوقنا العادلة والمشروعة.
2- اليونسكو و"نظريّة" الهيكل
أعلنت اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة) عدم أحقية "إسرائيل" في امتلاك الأماكن التاريخية في القدس، ورفضت وصفها بأسمائها اليهودية، وقالت في قرار اتخذته لجنة فرعية بالمنظمة يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول 2016: إنها إرث تاريخي خاص بالتاريخ الفلسطيني، مثل المسجد الأقصى والحرم القدسي الشريف وحائط البراق، وذلك بالأسماء العربية، وليس بالتسمية اليهودية "جبل المعبد".
وقد صوَّتت لصالح القرار 24 دولة، ورفضته 6 دول، هي: (المملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وأستونيا وهولندا ولتوانيا)، وامتنعت بعض الدول عن التصويت مثل: فرنسا وألبانيا واليونان والأرجنتين واليابان وعدد من الدول الإفريقية، وغابت عن جلسة التصويت صربيا وتركمانستان.
أثار قرار اليونسكو ردود فعل حادّة لدى دولة "إسرائيل" وسخطاً شديداً وغير مسبوق ضد اليونسكو، لم يظهر مثله في تاريخها، باستثناء مرتين:
الأولى – حين صدر قرار الأمم المتحدة 3379 في 10 نوفمبر /تشرين الثاني عام 1975 والخاص باعتبار" الصهيونية شكلٌ من أشكال العنصرية والتمييز العنصري"، حيث ثار حاييم هيرستوغ ممثل "إسرائيل" في الأمم المتحدة حينها، فقام ومزّق القرار من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، بل أنه تباهى بصهيونيته، واصفاً القرار بأنه مدعاة للاشمئزاز. وكانت رئيسة وزراء "إسرائيل" السابقة، غولدا مائير، قد قالت بتحدٍّ: علينا أن نعلّق الباجات على صدورنا ونكتب عليها "أنا صهيوني".
وحين تولى هيرستوغ رئاسة الدولة في "إسرائيل" (1986) أقسم: ألاّ تنتهي مدّة رئاسته (1990) إلاّ ويكون القرار 3379 قد أعدم. وفعلاً بُعيد ذلك بقليل تم إلغاء القرار الأممي التاريخي، في سابقة خطرة في 16 ديسمبر /كانون الأول العام 1991.
الثانية – قرار نحو 3000 منظمة مجتمع مدني إدانة الممارسات "الإسرائيلية" ودمغها بالعنصرية، وذلك في مؤتمر ديربن (جنوب إفريقيا) العام 2001، وحينها هدّدت الولايات المتحدة وكندا بالانسحاب من المؤتمر(الحكومي)، وعملتا على تعويم القرار، وخصوصاً بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) الإرهابية الإجرامية. كما سعت "إسرائيل" و"حُماتها" إلى العمل على تسويف قرارات مؤتمر ديربن، وهي المحاولات التي ظلت مستمرة منذ ديربن 1 و2 و3 وصولاً إلى ديربن 4 (22 سبتمبر/ أيلول 2021 ) الذي انعقد في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، الأمر الذي يقتضي مواصلة الكفاح الدبلوماسي لكسب أوسع تأييد للقضية الفلسطينية بشكل عام وقضية القدس بشكل خاص.
وفي المرتين حصل العرب على نصر سهل وكبير كان ينبغي إستثماره بشنّ هجوم دبلوماسي سلمي واسع، لكن ذلك لم يحصل للأسف، في حين كان نصف الهزيمة التي منبت بها "إسرائيل" حافزاً ويقظة لها في المحافل الدولية للقيام بكل ما من شأنه دعم وجودها واستمرارها وتبرير احتلالها وعدوانها القائمين.
من هذا المنظور نقرأ ردود الفعل "الإسرائيلية" حول قرار "اليونسكو"، فقد قال عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: إنه قرار سخيف واليونسكو تمثّل مسرحاً للهزل، فيما علّق رئيس الدولة، رؤوفين ريفلين، عليه بقوله: إن "من يُقدم على فعلة إنكار علاقة اليهود بالقدس، فإنه يهين نفسه"، وقال رئيس الكنيست يولي أدلشطاين: إن "القرار دليل عدم وجود المنظمتين (ويقصد اليونسكو والأمم المتحدة)، ناسياً أن "إسرائيل" تأسست بقرار الأمم المتحدة 181 لعام 1947، ووصف وزير الداخلية الحاخام إرييه درعي، اليونسكو، بأنها "عار يلطّخ الأمم المتحدة"، بينما جاءت التعليقات وردود الفعل من قبيل أن القرار "دعم للإرهاب" وهو "معاد للسامية"، وغير ذلك.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: إذا كانت "إسرائيل" لا تكترث بالقرارات الدولية، فلماذا أقامت الدنيا ولم تقعدها لصدور قرار من اليونسكو بشأن مسألة تاريخية؟ إن الجواب يعود إلى موقفها من موضوع سحب الشرعية القانونية عنها، لا سيّما بممارستها العنصرية، ويصبّ في هذا الاتجاه قرار مؤتمر ديربن وتقرير غولدستون حول الممارسات "الإسرائيلية" العنصرية. أما قرار اليونسكو، فإنه يسحب الشرعية التاريخية التي تحاول "إسرائيل" التعكّز عليها بادعاء احتلال المناطق الفلسطينية المقدسة.
لذلك، نلاحظ الغضب والتوتر على سلوك وتصرفات القادة "الإسرائيليين"، عند سماعهم خبر نفي علاقة اليهود بالمسجد الأقصى. وهو ما عبّر عنه نتنياهو بسخرية حين اعتبر عدم وجود علاقة لـ"إسرائيل" بالأماكن المقدسة، هو مثل نفي علاقة الصين بسور الصين أو مصر بالأهرام.
إن قرار اليونسكو ذا الأهمية الاستثنائية ينسف نظرية الهيكل "دولياً" ويفضح زيفها علمياً، ولهذا لا بدّ من العمل على دعمه وتعميمه واستخدامه في الصراع الدبلوماسي والقانوني والتاريخي والثقافي، المدني والسلمي، ضد "إسرائيل"، خصوصاً بحشد دول ومنظمات دولية أخذت تدرك أكثر فأكثر، حقيقة عدوانية "إسرائيل" والدور التخريبي الذي تقوم به في المنطقة وعلى النطاق العالمي بتهديد السلم والأمن الدوليين.
ويعدّ القرار انتصاراً للحق العربي التاريخي في فلسطين، حيث لم تستطع الحفريات التي امتدت لعشرات السنين إثبات العكس، ومثل هذا القرار بالتالي يفقد أي مبرّرات أخرى سواء بضم القدس، فضلاً عن اعتبارها عاصمة أبدية "لإسرائيل".
مدينة الأديان
وإذا كانت القدس مدينة الأديان السماوية الثلاث، فهي مدينة مفتوحة في الإدارة الفلسطينية السابقة يوم كانت ضمن الدولة العثمانية وحتى الانتداب البريطاني على فلسطين، وتقسيم البلاد العربية وفقاً لاتفاقية سايكس – بيكو العام 1916، مثلما كانت ملتقى لأتباع الديانات الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام)، فإنها يمكن أن تكون كذلك، خصوصاً برفع يد الاحتلال عنها، وتمكين الشعب العربي الفلسطيني من تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
وإذا كان القرار خطوة إيجابية في الطريق الصحيح، فالأمر بحاجة إلى تعزيز وتعميق واستخدام جميع الوسائل المشروعة للضغط والإقناع لدعم هذا القرار والاستناد إليه بإصدار قرارات لاحقة. فهذا المكسب الذي تحقّق على المستوى الدولي ينبغي ألاّ يضيع في غمرة الأحداث وازدحام الأجندات، ولا بدّ من إلفات النظر لمحاولة التراجع والنكوص عنه، وإلى الضغوط التي سيتعرّض لها البعض، وكانت مديرة عام اليونسكو السابقة السيدة ايرينا بوكوفا قد صرّحت بعدم رضاها على القرار، وقالت إن القيمة العالمية للمدينة ترجع إلى التركيب المترابط الذي يجب أن يشجّع على الحوار وليس المواجهة، بحسبها.
وينبغي ألاّ ننسَى أن الولايات المتحدة قد أوقفت دعمها لليونسكو البالغ 80 مليون دولار سنوياً في العام 2011 بعد قبول عضوية دولة فلسطين. ويمكن توقع إجراءات أخرى مماثلة بعد سلسلة من القرارات التي أصدرتها اليونسكو.
ثالثاً- في الدبلوماسية الإعلامية
لا أحد يستطيع أن ينكر مدى تأثير وسائل الإعلام على حياتنا اليومية بكل تفاصيلها بما فيها المأكل والملبس وطريقة العيش والأفكار، فالمتلقي أيّاً كان عمره ومستوى تعليمه وثقافته، لا بدّ له أن يتأثر بالإعلام، لاسيّما الضخ المعلوماتي والقدرة على التعبئة، التي تستطيع في نهاية المطاف تكوين رأي عام حول قضية ما أو موضوع ما أو ذوق ما أو حدث ما. وإذا كانت ثمة مؤثّرات أخرى لصياغة وبلورة الرأي العام حول مسألة معينة، سلباً أو إيجاباً، فإن الإعلام سيكون له دوره المؤثر والحاسم أحياناً في ذلك، سواءً كانت تلك القضية داخلية أم خارجية، سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية أم دينية أم ثقافية أم غيرها.
ولعلّ الإعلام مثل المدفعية الثقيلة باستعارة اللغة الحربية، فإذا أُحسِنَ استخدامه وتحدد هدفه واضحاً، ستكون إصابته دقيقة، أما إذا أسيئ استخدامه أو كان هدفه غير واضح فإن نتائجه ستكون سلبية، ومقابل الحقيقة التي ينبغي أن تكون هدف الاعلام الصادق وغايته، فإن وظيفة الاعلام المُضلّل ستكون ديماغوجية أو مشوّهة وإغراضية، إلاّ أننا لا نستطيع أن ننكر أن للإعلام القدرة على تشكيل الوعي المعرفي للمجتمع كلاًّ أو جزءًا منه أو في التأثير على فئات معينة، وذلك لكونه مصدراً هاماً من مصادر المعرفة.
ويكاد لا يخلو هذا الأمر من خطورة لما ينطوي عليه من قدرة على التضليل والتشويش واستحضار أشكال جديدة من وسائل التأثير بالحرف والصوت والصورة، أي بالإعلام المكتوب أو المسموع أو المشاهد (المرئي) على مستويات التفكير والمعتقد والتقاليد، ومثل هذه العملية المعقّدة تتداخل فيها عدّة عوامل ومستجدّات، تجعل من الإعلام شريكاً فاعلاً يسهم بقدر كبير في عملية التنشئة الاجتماعية سلباً أو إيجاباً، بفاعليته وحيويته ومقدرته على التحرك والتأثير، لاسيما وهو يخاطب جمهوراً واسعاً، من النخبة إلى قاع المجتمع، مثلما يجمع بين المثقف وغير المثقف، بين الكبير والصغير، والمرأة والرجل.
ويشكّل الإعلام محركاً رئيسياً في العملية التنموية، لاسيما بصور قبوله أو رفضه، وبقدر ما يستطيع أن يتحرّك على مساحة الوطن ويعلي من شأن المواطنة ويقنع قطاعات واسعة من الناس، أخباراً ونقداً وتحقيقاً ورأياً، نستطيع القول أن الإعلام بخير وإنه جزء فاعل ومواكب لمسيرة التنمية، ويرسم صورة الحاضر، بكل تضاريسه صعوداً ونزولاً، مثلما يحدد ملامح المستقبل ومتطلباته.
وإذا كان الإقرار بدور وأهمية الإعلام قد ازداد منذ ما يزيد على قرن من الزمان، حين اعتبرت الصحافة السلطة الرابعة، بإضافتها إلى السلطات الثلاث: التنفيذية (الحكومة) والتشريعية (البرلمان ومجالس الشيوخ) والقضائية (المحاكم)، فإن مثل هذا الدور أصبح حقيقة كبرى من حقائق عصرنا، حيث يشكّل الإعلام وتكنولوجياته وما يرتبط بهما إحدى أكبر الثورات الهائلة، بحضورها الفاعل والمؤثر، لاسيّما في صناعة الرأي العام والتأثير فيه، ولا يمكن تصوّر وجود إعلام مؤثر وقادر على كسب صدقية أمام الرأي العام دون توفّر حريات، وخاصة حرية التعبير، إذْ سيكون من العسير على الإعلامي، القيام بمهماته دون تمكّنه من حق الوصول إلى المعلومة أو دون تعاون الأجهزة الرسمية (الحكومية) معه بتسهيل مهمته للوصول إليها، وتمكينه من الاطلاع على برامج الحكومات وخططها ومشاريعها، بحيث يكون تدفق وانسيابية المعلومات إلى المواطن أمراً يسيراً دون قيود أو إجراءات تؤدي إلى حجب أو حرمان الإعلامي من القيام بدوره المهني، بحثاً عن الحقيقة التي يسعى لوضعها بيد المواطن، والإنسان أينما كان!
وفي عصر أصبحت فيه الدعاية والحرب النفسية والآيديولوجية وسيلة للتضليل والتلاعب بالعقول والرأي العام كجزء من القوة الناعمة، فإن الإعلام العربي يواجه تحديات كبرى عديدة داخلية وخارجية في مختلف المجالات وعليه تقديم إجابات مقنعة بشأن التساؤلات الحادة.
وإذا ما عرفنا أن هذه الإشكاليات معقدة ومتداخلة خارجياً وداخلياً، دولياً ومحلياً، يضاف إليها حجم التحدي التكنولوجي الكبير جداً، ناهيكم عن غياب إرادة سياسية في الكثير من الأحيان، مع عدم إعطاء الدور الذي تستحقه الجوانب التقنية والمهنية، فإن المستقبل بمثل هذه الصورة سيكون محفوفاً بالمخاطر إنْ لم يكن غامضاً ومبهماً، الأمر الذي يحتاج إلى إعادة نظر بالكثير من الأسس والتوجّهات التي يقوم عليها الاعلام العربي، لمواجهة مشكلات مثل الاحتلال والاستيطان والنزاعات والإرهاب والعنف والفقر والأمية والتخلف وشحّ الحريات وضعف المواطنة واستشراء الطائفية والانقسامات الفئوية والدينية، والموقف من المرأة والتنوّع الثقافي، وهي قضايا حيوية وديناميكية لأي مجتمع.
ويتطلّب ذلك تجاوز حالة السكون والتقليدية والمواقف المسبقة، من خلال دراسة الواقع بكل تضاريسه الجغرافية وعقده ومشاكله، وذلك لوضع استراتيجية طويلة الأمد وحشد كل الإمكانات لمواجهة الهجمات المغرضة لوسائل الإعلام العالمية وخاصة الغربية منها ضد الإسلام والمسلمين والعرب، وضد القضية الفلسطينية التي يجري تشويهها والاحتيال عليها، في محاولة مغرضة لربط المقاومة العادلة والمشروعة بقضايا الارهاب الدولي، فضلاً عن محاولات تفريغ المنطقة من المسيحيين بممارسة العنف ضدهم والضغط عليهم لإجلائهم وترحيلهم وهو ما يحصل في "إسرائيل" كسياسة ثابتة ونهج رسمي، مثلما هو حاصل في العراق ولبنان ومصر ومناطق أخرى كممارسات لقوى متطرفة ومتعصّبة، ناهيكم عن وجود بعض الجوانب السلبية مثل القوانين المقيّدة للحريات والتشريعات الإعلامية العربية الخاصة بالبث التلفزيوني، والرقابة، والحد من حرية الصحافة، والتدخلات في شؤون القنوات الفضائية وإشكالية الإنتاج الإعلامي، والموقف من حقوق الإنسان.
كل ذلك يجري في ظل ازدواجية المعايير والانتقائية السياسية والتوظيف الآيديولوجي، الأمر الذي يحتاج إلى فرز ألوان لتمييز الأبيض عن الأسود، حيث تستمر الصور النمطية والتضليل والتزييف الذي تحاول بعض وسائل الإعلام الخارجية مواجهة العرب به، فضلاً عن سلبية بعض وسائل الاعلام العربية التي تعمل على بثّ روح الفرقة والانقسام والطائفية والمذهبية بحجج شتى، متجاوزة الاعتراف بالآخر وحقوقه. إن وجود الكثير من القيود القانونية وغير القانونية التي لا تزال مفروضة على الإعلام والإعلاميين، يضع أعباء جديدة على مهنة المتاعب والمخاطر، فالصحافي على حد تعبير ألبير كامو هو "مؤرخ اللحظة " والصحافة "صاحبة الجلالة " هي السلطة الرابعة كما يقال، ولا يمكن له أو لها القيام بدوره المنشود في ظل قيود قانونية واجتماعية ودينية وغيرها، وقد سقط المئات من الصحافيين وهم يؤدون دورهم في نقل الحقيقة، ففي العراق وحده كان هناك أكثر من 290 ضحية من العائلة الاعلامية.
لقد شهد العالم تقدماً علمياً وتقنياً ملحوظاً ومتسارعاً في صناعة الاعلام وتكنولوجياته، فضلاً عن التطور الهائل في حقل وسائل الاتصال والمواصلات على المستوى العالمي وفي ظل العولمة، الاّ أن حصّة العالم العربي ما تزال شحيحة، لاسيما في ظل أوضاع التخلف والفقر والأمية والقيود والكوابح الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية، فضلاً عن نهج الهيمنة ومحاولات إملاء الإرادة خارجياً، حيث ظلّت الهوة سحيقة مع الاعلام العربي ولا تتناسب مع حجم الإمكانات المادية المرصودة له، وخصوصاً في المؤسسات الإعلامية الرسمية منها.
وإذا كانت أربع جهات إعلامية عملاقة مهيمنة على الاعلام العالمي حتى نهاية الثمانينيات ، هي الاسوشتيد بريس ورويتر وفرانس بريس ويونايتد بريس، على الرغم من الصراع الآيديولوجي، ووجود إعلام خصم قوي ومؤثر، فما بالك بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وتفكك الإتحاد السوفيتي وضعف القوى الممانعة على المستوى العالمي، لاسيّما دول عدم الانحياز وقوى التحرر الوطني، والذي خلّف اختلالاً كبيراً في موازين القوى ازداد اتساعاً وشمولاً، ولذلك فإن العديد من وسائل الإعلام العربية، وبسبب محدودية مواردها المالية، تعتمد على خدمات إعلامية جاهزة، غربية المصدر في الغالب دون إمكانية التأكّد من صحتها أو عدمه، مما يحدث التسرّب ونشر الإشاعات واستخدام الكثير من المفردات والمصطلحات التي لا تتفق مع طموحات العرب والمسلمين وشعوب البلدان النامية، لأنها تصبح سائدة بحكم الفيض الإعلامي وكثرة الاستخدام.
إن المهنية تقتضي التعامل مع الخبر المستند إلى مصدر موثوق، ولا تثريب من البناء عليه فيما بعد، طالما أن مصدره واضح وله صدقية مشهودة، كما تقتضي المهنية أيضا، نقل رأي أي شخص له علاقة بالحدث أكان موالياً أم معارضاً للوسيلة الإعلامية، شريطة نقل رأي الطرف الآخر بكل شفافية، وذلك حفاظاً على التوازن في العملية الإعلامية. من هنا كان لا بدّ من بذل الجهد لتحرير الطاقات والمهارات والإبداعات والإمكانيات المادية والبشرية لإرساء قواعد ومستلزمات صناعة إعلامية متطورة رشيدة وفعالة وقوية تستطيع أن تنافس وأن تقنع وأن تسوّق الأفكار والقيم الإنسانية، خصوصاً إذا اتسمت بالشفافية والصدق والنقد الذاتي، ولا يمكن تحقيق ذلك دون مهنية عالية وحرفية سليمة، وفي ظلّ التنوّع والتعدد الثقافي والديني والسياسي، والاعتراف بالآخر وتأكيد الحق في الاختلاف والتعددية واحترام الخصوصيات.
وفي ظل الطور الرابع للثورة الصناعية والذكاء الاصطناعي واقتصاد المعرفة فإن تأثير وسائل الإعلام والتكنولوجيا اليوم أصبح ظاهرة خطيرة وبارزة ولها دورها الفّعال في تغيير المجتمعات على اختلافها كماً وكيفا، ويعتبر الإعلام أحد أهم قنوات الاتصال في عالمنا المعاصر ويعكس هذه التطورات الكبيرة في منجزه السياسي، والثقافي، والاجتماعي، والاقتصادي، وغيره.. بحيث أصبح العالم كله مجالاً للتأثير بالتواصل والتداخل، وهذا يتطلّب تأهيل وإعداد الإعلام العربي ليكون على درجة من الفاعلية في الاستيعاب والتفاعل مع المتغيرات والمستجدّات التي تطال العالم أجمع دون استثناء، لا لمواكبتها فحسب، بل للتأثير فيها وتقديم ما يسند الحقوق العربية.
وتعتبر وسائل الإعلام من المصادر الأساسية للمعلومة التي يبني عليها الفرد مواقفه، وتقوم عليها اتجاهاته حيال ما يجري في العالم قبولاً أو رفضاً، نتيجة للدور الإعلامي الموجّه للجمهور والذي يسعى لتشكيل موقف مطلوب تجاه أية قضية من القضايا المطروحة على الساحة المحلية والدولية. ولا يتوقف تغيير الاتجاه والموقف على القضايا العامّة أو الأحداث المثارة، بل يمتد إلى القيم وأنماط السلوك، فقد يحدث أن يتقبّل المجتمع قيماً كانت مرفوضة قبل أن تحملها الرسالة الإعلامية، أو يرفض قيماً كانت سائدة ومقبولة مستبدلاً بها قيماً جديدة.
فهل من إستراتيجية إعلامية عربية لمواجهة التحدّيات المختلفة التي يطرحها الإعلام والثورة المعلوماتية والاتصالية؟ بكل تواضع نقول أن الأمر غير مطروح على بساط البحث، وهذا لا يشمل القضايا الكبرى فحسب، بل من أصغرها حتى أعقدها، باستثناء بضع لقاءات واجتماعات ووثائق تثير هي الأخرى اشكالات بخصوص التنفيذ، ناهيكم عن التناول، فضلاً عن التوجه، ولا بدّ هنا من وقفة للمراجعة والنقد بروح الشعور بالمسؤولية الوطنية والقومية، وعلى نحو موضوعي دون محاولة فئوية أو إغراضية باستهداف هذا أو ذاك، ولكن بكل تأكيد للفرز بين الخطأ والصواب وتقويم ما هو قائم واستشراف ما هو مستقبلي وينسجم مع روح العصر وتطوراته السريعة ومع مصالح الشعب والوطن.
باختصار إن العرب بحاجة إلى تفعيل النظام الإعلامي أكثر من أي وقت مضى ورسم إستراتيجية إعلامية عربية واضحة الرؤية والمعالم من خلال اعتماد آليات ومنهجية ووسائل إدارية تخرجه من دروبه الضيقة إلى الأوسع والأرحب لمواجهة التحديات الكبرى والتي من أهمها حماية وصيانة الهوية الثقافية والحضارية للأمة العربية وتطلعاتها العادلة والمشروعة لمواجهة الذوبان في ثقافة القطب الأكبر التي تفرض هيمنتها في الرأي العام عابرة للحدود والجنسيات والأوطان والأديان والقيم والحقوق، لتحقيق أغراضها الانانية الضيقة، وبالضد مما تفرضه اللوائح الدولية لحقوق الإنسان.
وإذا كان هذا الواقع مريراً ومؤلماً، فإنه بحاجة إلى استراتيجية بديلة لعولمة الحقوق والحريات واحترام الخصوصيات والهويات بقدر الانتماء إلى حضارة انسانية على أساس المشترك الانساني، والمصالح والمنافع المتبادلة، واحترام قواعد القانون الدولي المعاصر. إن واقعاً سليماً ومعافى يحتاج إلى إرادة سياسية حازمة وإلى مزيد من الحريات لحشد الطاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لمواجهة القهر والاملاء ووسائل الدعاية الحربية والضغوط المالية الهائلة التي تحاول تشويه صورة الآخر وشيطنته.
لا يكتفي العالم المعاصر اليوم بالحديث في العموميات عن جرائم وارتكابات، بل هو بحاجة إلى وثائق وصور وأفلام ومعلومات وشهادات والكثير من الأدلّة والأسانيد لتساعد في إقناعه. وليس بحاجة إلى نوع من الدعاية السياسية، أو إظهار صور العدو بتبشيعه وإبراز قسوته ولكن دون ملموسات تذكر.
أعتقد أن صورة مقتل محمد الدّرة وحدها كانت تساوي عشرات إن لم أقل مئات الآلاف من سيل المقالات التي تندّد بجرائم "إسرائيل". فقد أظهرت الصورة على ما فيها من مشهد واقعي، حقيقة تعامل "إسرائيل" مع المدنيين العزّل ومع الأطفال بقتلهم مع سبق الإصرار، ولذلك ظلّت "إسرائيل" تخشى وستظل تتحاشى هذه الصورة المؤثرة، التي هي خبر ووثيقة إدانة كافية لأن تجعل "إسرائيل" تتصرّف بانفعال إزاء هذا الاختراق الإعلامي.
ولعل ما واجه "إسرائيل" بعدها وبعد اتساع أعمال الإرهاب هو مطالبة العالم بتطبيق اتفاقيات جنيف لعام1949 وبخاصة الاتفاقية الرابعة وتوفير حماية دولية للفلسطينيين باعتبار "إسرائيل" سلطة احتلال وكذلك تطبيق البروتوكول الأول الملحق باتفاقيات جنيف والصادر عن المؤتمر الدبلوماسي الدولي في جنيف بين 1974-1977 والخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة.
أسرد هنا أمسية جمعتني مع مستشرقة تشيكيّة في بيروت، بحضور الأستاذ محمد فايق وزير الإعلام المصري الأسبق والأستاذ أحمد عبيدات رئيس وزراء الأردن الأسبق، والأستاذ سهيل شمّاس سفير لبنان لدى الأمم المتحدة، والمفاوض السابق باسم لبنان وعدد من الأصدقاء ولأن الجميع إعلاميين أو قريبين من العمل الإعلامي والدبلوماسي فإن ما ورد على لسان المستشرقة ماريا هافيدوفا وكانت رئيسة القسم العربي في هيئة الإذاعة التشيكوسلوفاكية حيث قالت: إنني أوروبية ومناصرة للحق العربي وبشكل خاص لحقوق الشعب العربي الفلسطيني وضد "إسرائيل " والصهيونية، إلّا أنني لا أجد الخبر العربي كي أقتنع به، فما أن يحصل حدث معيّن إلا وسارعت وكالات الأنباء بعد دقائق من نشره وإذاعته والتأثير على المتلقي الغربي.
ولا توجد أية قناة أو جهة إعلامية عربية مؤثرة كي تخاطب العقل الأوروبي وتقنعه بعدالة قضيّتها، خصوصاً وأن الخبر الذي تمت إذاعته وتوزيعه وتناقلته وعلّقت عليه الكثير من الجهات مخالفٌ للحقيقة، بل إنه قد يكون مختلقاً وملفقاً في بعض الأحيان أو مبالغ فيه. وأضافت هافيدوفا إن هناك "أغلبية صامتة" كما أسمتها من المثقفين ورجال العلم والسياسة والأعمال والأدباء والفنانين ممن لا تتوفر لديهم المعلومات ولا يتيح لهم الوقت للوصول إلى الحقيقة مما يضعف مواقع دفاعهم عن وجهات النظر العربية حتى وإن كانوا أصدقاء للعرب.
إذا كان هذا أمر مستشرقة مؤيدة للحق العربي، فما بالك برأي مواطن عادي، غير معني وغير مطلع على حقيقة الصراع العربي- الإسرائيلي ولا يهمه سوى سماع الأخبار بعد يوم عمل مضني، وليس البحث عن حقيقة صحة أو عدم صحة هذا الخير أو ذاك خصوصاً إذا كان منقولاً من مؤسسات مرموقة أحياناً لكنها موجهه مثل CNN و Sky News أو غيرها من وكالات الأنباء الأربعة المهيمنة على العالم مثل أسوشيتدبريس ورويتر وفرانس بريس ويونايتد بريس وغيرها.
أما إذا كان المتلقي أصلاً يقف على الحياد أو لديه مواقف مسبقة بشأن العرب والمسلمين فإنه سيأخذ الخبر الموجه الغربي أو " الإسرائيلي" طالما ينسجم مع توجهاته أو لا يوجد خبر آخر يصل إليه بالوقت المناسب ويقنعه. إن معركة اليوم هي معركة إعلامية اتصالية معلوماتية بامتياز يتم حسم نتيجتها مسبقا من يعرف كيف يستغل تكنولوجيا الإعلام والاتصال وصناعة المعرفة. وإذا ما أريد للإعلام العربي أن يواجه التحديات "الإسرائيلية" والغربية فلا بدّ له أن يكون بمهنية عالية وتقنية كفؤة وهوية واضحة.
* قدمت في ندوة مهرجان الأردن للإعلام العربي، الدورة الرابعة 3-5 تشرين الأول/أكتوبر 2021