Menu

نــوبــل بــيـــن مــحــفـــوظ وأيــتــمــاتـــوف 

د. أحمد الخميسي

في 13 أكتوبر 1988 أُعلن فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل. في ذلك الوقت كنت أدرس بجامعة موسكو في الاتحاد السوفييتي. ما زلت أذكر الفرحة التي عمت المغتربين هناك، مصريين وعرب، فرحة فاقت كل الحدود. لم تتوقف أجراس الهواتف لثلاثة أيام بين المصريين الدارسين والعاملين في موسكو يتبادلون التهاني مقرونة بالدهشة والشعور بالفخر، أما أصدقاؤنا الروس فلقد فتحوا لنا بسخاء أكبر كمية من زجاجات الشمبانيا احتفالًا بالحدث، فقد احتفلوا بنا وفتحوا لنا زجاجات الشمبانيا الفاخرة كأنما نحن تحديدًا من فاز بها وليس محفوظ. وفي واقع الأمر كانت الجائزة تكريمًا شخصيًا لكل مصري وعربي، كأنما رد إليه اعتباره، غير أنها كانت بالطبع اعترافًا بدولة الأدب العربي الحديث على خارطة الأدب العالمي. ومن شدة فرحي قررت أن أعكف على جمع كل أو معظم ما كتبه المستشرقون السوفييت عن نجيب محفوظ، ورسائل الدكتوراه التي حصل عليها الدارسون الروس في أعماله، والمقالات الأدبية، ومقالات كبار المستشرقين، وردود أفعال الصحف السوفيتية. وبفضل الأستاذ محمود أمين العالم صدر الكتاب في القاهرة بعنوان" نجيب محفوظ في مرآة الاستشراق السوفييتي". وأرسل الأستاذ نجيب رسالة رقيقة للعالم يعرب له فيها عن تقديره للكتاب. 
بعد ثلاثة أعوام اختفى الاتحاد السوفييتي وأمسى ذلك الكتاب شهادة لا يمكن أن تتكرر، لأنها من أدبيات دولة لم تعد موجودة. وثار في حينه لغط أن جزءًا من الجائزة جاء بسبب موقف نجيب محفوظ من موضوع "السلام"، وقد عبر محفوظ عن موقفه ذلك وفهمه لهذه المسألة بوضوح في كتاب مع رجاء النقاش، وكتابين مع محمد سلماوي، ولم يخفِ موقفه، وهذا حقه، وكان لنا أن نلومه لو أنه تاجر بموقفه أو تربح منه أو ساقه إلى الآخرين ليفوز بشيء، لكنه لم يفعل ذلك قط، بل إنه في رسالته إلى الأكاديمية السويدية أشار بقوة إلى حقوق الشعب الفلسطيني. 
على أي حال، لم تكن سعادتي بالجائزة حينذاك السبب الوحيد وراء حماسي واهتمامي بإصدار الكتاب، ففي تلك السنوات كان جنكيز أيتماتوف أشهر الروائيين السوفييت قاطبة وراجت أعماله وترجمت إلى كل اللغات تقريبًا، وقد التقيت بأيتماتوف عام 1987، قبل عام من فوز محفوظ بنوبل لاجراء حوار صحفي معه، ووجدته مقتضبًا متجهمًا كأنما كنت أقتطع الدقائق من لحمه، لكني أرجعت ذلك إلى أنه من " قرغيزيا " وهي بلد جبلي ذي طبيعة قاسية دخلها الإسلام أوائل القرن الثامن ميلادي، ونشأت ثقافتها وآدابها وتطورت تحت تأثير الثقافتين العربية والتركية، لهذا كان من الطبيعي أن أسأله عن تأثير الثقافة العربية في أدبه، وعما إن كان قد قرأ شيئًا من الأدب العربي؟ وأجابني باقتضاب: "عندما يكون لديكم أديب بقامة جابريل جارسيا ماركيز فسوف نقرأه "! واصلت الحوار معه، أو تظاهرت بذلك، لكني لم أنشره قط رغم إلحاح الجريدة على نشره. بعد عام واحد فقط من ذلك اللقاء فاز محفوظ بنوبل، وتذكرت لقائي بأيتماتوف وشعرت كأنما ردت إلي روحي بهذه الجائزة، وقلت لنفسي: "نعم يا سيدي لدينا أدباء بقامة أي أديب عالمي". 
لم يسع نجيب محفوظ إلى نوبل، لكنها سعت إليه، أما أيتماتوف فقد بذل كل جهد ممكن للحصول على الجائزة من دون جدوى، رغم أنه أصبح مستشارا للرئيس جورباتشوف عام 1989، ورغم أنه راح وفق الموضة حينذاك يتحدث عن "الأخطاء الاستعمارية للاتحاد السوفييتي"، ثم زين له البعض أن زيارة إسرائيل ستفتح له الطريق إلى الجائزة، فقام بزيارتها والتقى برئيس الحكومة اسحق شامير وقدم له مؤلفاته مصحوبة بإهداء حار، ورغم ذلك لم يفز بالجائزة. أما محفوظ الذي لم ينكر يومًا رأيه في ضرورة السلام حسبما يفهم هو السلام، فإنه لم يتاجر قط بهذا الرأي، ولم يقم ببيع موقفه في سبيل الحصول على جائزة، ورأيه في تلك القضية قديم، يشترك فيه بعض المفكرين من أبناء جيله، ومن حقه وحق أي إنسان أن يكون له رأي "آخر"، المهم ألا يكون ذلك الرأي ذريعة للتربح والتكسب، وهو ما لم يقم به محفوظ قط، ولا لحظة. تحية له في ذكرى فوزه بالجائزة والاعتراف العالمي بإسهامه الأدبي، وهو اعتراف في الوقت ذاته بدولة الأدب العربي وبزعمائها وقادتها وهم كثيرون.