Menu

104 أعوام على بلفور- كيف جرى تزوير تاريخ المنطقة...؟

نواف الزرو

حقائق لا تتقادم مع الزمن ولا تمحى من الذاكرة:

رغم زخم الأحداث والتطورات المتلاحقة في المشهد الفلسطيني العربي والشرق أوسطي، ورغم الأعباء الكبيرة التي يرزح تحتها الواقع الفلسطيني، ورغم النكبات المتصلة التي تنصب على رؤوس الفلسطينيين منذ عام 48، ورغم كل الهبات والانتفاضات والتضحيات اليومية للشعب الفلسطيني التي من شأنها ربما أن تشغل بال الجميع عما حصل في الماضي، إلا أننا لا يمكننا أن نغفل أساس الهولوكوست الفلسطيني المفتوح، ولا يمكننا أن نغفل ذلك الدور البلفوري البريطاني في صناعة الدولة الصهيونية والهولوكوست الفلسطيني..!

فهناك حقائق لا تتقادم مع الزمن ولا تمحى من الذاكرة، وحيث تحل في هذه الأيام الذكرى الرابعة بعد المائة لوعد بلفور، لعلنا نستحضر في هذا السياق أهم المعطيات المتعلقة بذلك الدور البريطاني، فنحن اليوم عمليًا أمام:

104 أعوام على وعد بلفور...!

84 عامًا على توصيات بيل...!

74 عامًا على قرار التقسيم ومنح اليهود الوطن القومي...!

65 عامًا على العدوان الثلاثي...!

54 على عدوان حزيران/67 وهزيمة العرب واحتلال ثلاثة أضعاف فلسطين المحتلة 48...!

ونحو ثمانية عشر عامًا على العدوان الأمريكي –البريطاني على العراق (2003).. تصوروا...!

وفي كل هذه المحطات الرئيسية الكبرى كان لبريطانيا دائمًا الدور المركزي في بناء وصناعة الأحداث والمشاريع والدول، ولعل إقامة "إسرائيل" على خراب فلسطين وتشريد أهلها في الشتات تبقى الكارثة الأكبر التي حلت بنا في ظل المؤامرة البريطانية – الصهيونية...!

لم تتوقف الحكومات البريطانية المتعاقبة على مدى أكثر من قرن من الزمن عن دعم وتعزيز المشروع الصهيوني والدولة الصهيونية، في الوقت الذي لم تتوقف فيه أبدًا عن حبك المؤامرات وصناعة الأحداث في المنطقة لصالح تلك الدولة وعلى حساب الأمة والعروبة؛ إنه نحو قرن كامل من الدعم البريطاني المطلق لـ "إسرائيل"..!

وتبدأ حكاية الغرام والعشق من قبل بريطانيا بالمشروع الصهيوني و"الوطن القومي لليهود" وب"إسرائيل" على نحو حميمي وعلى وجه الحصر في 1917، حينما أصدر وزير الخارجبة البريطاني جيمس آرثر بلفور يوم 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917 تصريحًا مكتوبًا وجهه باسم الحكومة البريطانية إلى اللورد ليونيل والتر روتشيلد (1868-1937)، يتعهد فيه بإنشاء "وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين".

المؤرخ البريطاني لورد أرنولد توينبي الذي كتب موسوعة قصة التاريخ، لم يملك -كما وثق لنا د. أسعد أبو شرخ وهو كاتب وأكاديمي فلسطيني- "سوى أن يجرم بلده بريطانيا على ما اقترفته بحق الشعب الفلسطيني وتسليم وطنهم لقمه سائغة للحركة الصهيونية". والسبب في تجريم بريطانيا واتهامها بصراحة ووضوح وعلانية؛ لأنها هي صاحبة تصريح بلفور الذي يتبرأ منه تمامًا مما جعله يشعر كمواطن إنجليزي "بالذنب وتبكيت الضمير على ما حل بالشعب الفلسطيني جراء هذا الوعد المشؤوم".

العنوان أعلاه يعبر تعبيرًا عميقًا عن جوهر ما جرى، فالباحث مأمون كيوان (ونحن نستعير منه هذه العبارة) وصف الوعد قائلًا: "إنه قصة 117 كلمة إنجليزية زورت تاريخ وجغرافيا الشرق الأوسط".

و"كان الوعد حاضرًا -كما وثق شفيق شقير في الجزيرة نت بعد ذلك في مؤتمر سان ريمو 1920 - الذي منح فيه الحلفاء بريطانيا حق الانتداب على فلسطين، وكان حاضرًا أيضًا في عصبة الأمم التي صادقت في يوليو/ تموز 1922 على صك إقرار الانتداب البريطاني؛ فالصك كان يتضمن في مقدمته نص تصريح وعد بلفور مع تخويل لبريطانيا بتنفيذ الوعد، كما كان الوعد حاضرًا في دستور فلسطين الذي أصدرته بريطانيا بعد أسبوعين من إقرار انتدابها أمميًا، حيث ضمنت مقدمته نص تصريح وعد بلفور أيضًا".

وها هو ينقضي اليوم مائة وأربعة أعوام على التصريح/الوعد ولا تزال تداعياته النكبوية تلاحقنا، ذلك أن "الوطن القومي لليهود" و "المشروع الصهيوني الاستيطاني الاحلالي"؛ يشهد في هذه الأيام في ظل صفقة القرن وترامب البلفوري ذروة تمدده السرطاني وذروة سطوه على الوطن الفلسطيني من نهره إلى بحره.

ولنتذكر أيضًا أنه: بعد تسعين عامًا على الوعد، وبعد اثنين وستين عامًا تقريبًا على النكبة واغتصاب فلسطين جاء وزير الخارجية البريطاني لشؤون الشرق الأوسط في حكومة طوني بلير السابقة "كيم هاويلز" ليتخذ موقفًا بريطانيًا جديدًا يواصل فيه خطى جريمة وعد بلفور للصهاينة حينما أعلن قائلًا:

"أن حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى أماكن إقامة أجدادهم "غير منطقي/ الخليج: 24/7/2007"، مضيفًا في مؤتمر صحافي عقده في عمان: "من الصعب جداً أن نحل مشكلة اللاجئين التي تراكمت منذ 60 عامًا، ويجب تقبل أن التاريخ يسير، وأنها أصبحت جزءًا من إسرائيل، ولن نرى عودة للعائلات بعد الاحتلال وهذا الحال حدث في العديد من الصراعات حول العالم". فهل هناك جريمة أبشع من هكذا جريمة بريطانية...؟!

فبعد أن تسببت وأنتجت تلك الدولة الاستعمارية النكبة وقضية اللاجئين، يأتي وزير خارجيتها وبعد أكثر من ستين عامًا (التصريح عام/2007) من النكبة ليعيد إنتاج المشهد والدور.. فيا لها من جريمة لا تغتفر...!

ونحن بدورنا لا نبالغ بالتثبيت وبالعنوان الكبير ونحن أمام الذكرى الرابعة بعد المائة "لوعد بلفور" المشؤوم؛ أن زخم الهجوم الأمريكي - الإسرائيلي المسعور على شطب حق العودة لملايين اللاجئين الفلسطينيين من كل الأجندات التفاوضية والسياسية الإقليمية والدولية يبلغ ذروة هستيرية لم يسبق لها مثيل في تاريخ الصراع على الإطلاق.

فلسطينيًا- كان الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان (1905-1941)؛ خاطب المُستعمرِين الإنجليز وما تسببوا به من ويلات وكوارث ألمت بفلسطين والعرب قائلًا:

منذ احتللتم وشؤم العيش يرهقنا فقرًا وجوعًا وإتعاسًا وإفسادًا

بفضلكم قد طغى طوفانُ هجرتهم وكان وعدًا تلقيناه إيعادًا

ولكن الشاعر الفلسطيني الشهيد عبد الرحيم محمود يعاتب الفلسطينيين والعرب معًا قائلًا:

بلفور ما بلفور ماذا وعده لو لم يكن أفعالنا الإبرام

إنا بأيدينا جرحنا قلبنا وبنا إلينا جاءت الآلام

ونقول بدورنا:

لم يكن "وعد بلفور" ليرى النور ويطبق على أرض الواقع في فلسطين لو تحملت الأمة والدول والأنظمة العربية حينئذ مسؤولياتها القومية والتاريخية.. ولم تكن فلسطين لتضيع وتغتصب وتهوّد لو تصدى العرب للمشروع الصهيوني كما يجب، ولم تكن فلسطين لتتحول إلى "وطن قومي لليهود" لو ارتقى العرب إلى مستوى "الوعد والحدث".

وما بين بلفور آنذاك وما يجري اليوم في فلسطين نقول: بينما تجري عملية اغتيال الوطن الفلسطيني والحقوق الفلسطينية المشروعة الراسخة، ومقومات الاستقلال الفلسطيني، في ظل؛ إما الصمت العربي الرهيب والفرجة العربية المذهلة، أو في ظل التهافت التطبيعي العربي الخياني، فإن فلسطين تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى تحشيد الطاقات والامكانات العربية، وإلى أن تتحمل القوى والأحزاب والشعوب العربية المسؤولية القومية والتاريخية على نحو جاد أكثر من أي وقت مضى.