كاتبٌ سياسيّ/ فلسطين
من الواضح أنّ ما تمرّ به الحركةُ الأسيرةُ الفلسطينيّةُ من انقساماتٍ وتراجعٍ في دورها، وبهتان مؤسّساتها الاعتقاليّة، والتراجع في عمليّات التوعية والتثقيف الأمنيّ والتنظيميّ والسياسيّ والاعتقاليّ، ليس بمعزلٍ عمّا يجري خارجَ جدران السجن، حيث الحالةُ الفلسطينيّةُ متشظّيةٌ ومنقسمةٌ على نفسها، وهذا عكسَ نفسَهُ بشكلٍ كبيرٍ على حالة الحركة الأسيرة الفلسطينيّة، تلك الحركةُ التي يشكّل أبناؤها ومناضلوها خطَّ الصدام الأوّل مع المحتلّ، من إدارات سجونٍ قمعيّةٍ وأجهزةِ مخابراتٍ ووحدات قمع ، وهي تضمّ خيرةَ أبناء هذا الشعب وصفوته... وكان التراجعُ في دور الحركة الأسيرة وهيبتها، قد بدأ بعدَ اتّفاق أوسلو أيلول/1993، ولكنّ التطوّر المهمّ في هذا التراجع جاء بعد الهزيمة، التي جرت لأوّل مرّةٍ في الإضرابات المفتوحة عن الطعام، التي لم تشهد هزيمةً واحدةً فيها قبلَ اتّفاق أوسلو الكارثيّ، وهي هزيمة إضراب آب/2004، فتحت الطريق أمام إدارات مصلحة السجون الإسرائيليّة وأجهزة أمنها؛ لكي "تتغوّل" و"تتوحّش" على الحركة الأسيرة لجهة الحقوق والإنجازات والمكتسبات، وكذلك لجهة وحدة الحركة الأسيرة، قيادة اعتقاليّة موحّده، موجّه عام، وحدة الأداة التنظيميّة الوطنيّة العامّة...إلخ. الاحتلال بعد فشل إضراب آب /2004، وما تبع ذلك من انقسامٍ فلسطينيّ – فلسطينيّ في حزيران/2006، عمد إلى فصل أسرى حركة حماس عن بقيّة الأسرى، بوضعهم في أقسامٍ خاصّة، ومنذ ذلك التاريخ فقدت الحركةُ الأسيرةُ وحدةَ تمثيلها الاعتقالي ومؤسّساتها الاعتقاليّة، وأصبحت إدارةُ السجون وأجهزتُها الأمنيّة، تتعاملُ مع القوى السياسيّة عبرَ ممثّلين لها، بحيث يتمّ طرحُ مطالبهم عليها دون المطالب العامة، والتطوّر الخطر في تاريخ الحركة الأسيرة وواقعها، هو أنّ الإضراباتِ المفتوحةَ عن الطعام، أصبحت تجري بشكلٍ فرديٍّ أو فصائليّ، على سبيل المثال، اضراباتُ الأسرى الإداريّين، كانت تنفّذ بشكلٍ فرديّ، ثمّ جرت اضراباتٌ فصائليّة، والشيء الخطر هنا، ليس تفكّك الحركة الأسيرة وترهّلها، بحيث بدأنا نلمسُ ونجدُ أنّه داخل السجن الواحد، بل وداخل القسم الواحد غرفٌ لأسرى مضربين عن الطعام، وأخرى غيرُ مضربين عن الطعام، وليسوا متضامنين مع إخوانهم أو رفاقهم في المطالب المقدّمة لإدارة السجن. هذا الوضعُ قاد إلى أنّ إدارة مصلحة السجون وأجهزة مخابراتها، أصبحت أكثرَ تعنّتًا وتشدّدًا في الاستجابة لمطالب الأسرى، ناهيك عن أنّ فعاليات التضامن معهم، أصبحت لا تأخذُ المنحى الشعبيّ، بل أضحت فئويّةً وفصائليّة، وهذا عكس نفسه في حجم المشاركة والفعاليات نصرة للأسرى المضربين عن الطعام في تحقيق مطالبهم. وكذلك علينا القول: إنّ هناك حالةً من عدم الثقة باتت تتولّد بين أوساط الحركة الأسيرة من أحزابها وتنظيماتها، ومدى جديّتها وتعاطيها في مسألة تحريرهم من سجون الاحتلال، بحيث أن هناك 94 أسيرًا في سجون الاحتلال قضوا في الأسر 20 عامًا فما فوق، والمأساةُ أن يقضي 14 أسيرًا، ثلاثين عامًا فما فوق، دون أي أفقٍ لتحرّرهم من الأسر، وليصلَ الأمرُ بهم، كما صرخ به الأسير صالح أبو مخ، الذي خرج من السجن بعد قضاء محكوميّته البالغة 35 عامًا، وليقول "أنا لست بالأسير المحرّر، فلم يحرّرني أحد، وخرجت بعد انقضاء مدّة محكوميّتي"، هي عبارةٌ فيها الكثيرُ من الألم والقسوة، ولكنّها تعبيرٌ صادقٌ عمّا يعيشه الأسرى من ألم، وحالة غضبٍ على السلطة والقوى والأحزاب. نحن نثقُ بأنّ الحركةَ الأسيرةَ التي تمكّن ستةٌ من أبنائها، أن يحرّروا أنفسهم ذاتيًّا من سجون الاحتلال، ومن أكثرِ سجونه أمنًا وتحصينًا، سجن جلبوع الملقّب بـ "الحزنة"، ورغم إعادة اعتقالهم، لكن هذا شكّل ضربةً قويّةً لهيبةِ أمن دولة الاحتلال ومنظومته، التي يتباهى بها العدوّ، في قدراتها وتفوّقها، والرسالة واضحة، لن تجعلوا من سجونكم مقابرَ لنا.
ما تمرّ به الحركةُ الأسيرةُ من ظروفٍ وأوضاعٍ صعبة، نتاجٌ لما يسود من أوضاعٍ في الساحة الفلسطينيّة، وما دامت الوحدةُ الوطنيّةُ غيرُ متجسّدةٍ، والانقسام مستمرّ، فلا أعتقدُ أنّ هناك نقلةً نوعيّةً ستكون في أوضاع الحركة الأسيرة، ولكنّ قياداتِ الحركة الأسيرة، التي هي أغلبُها قياداتٌ لأحزابها وتنظيماتها؛ قادرةٌ على أن تأخذ المبادرة، نحو دفع الأمور تجاهَ توحّد الحركة الأسيرة، وإنهاء الانقسام والفصل بين أسراها، فإدارةُ مصلحة السجون وأجهزة مخابراتها، تستهدفُ مجموعَ الحركة الأسيرة لا فصيل دون غيره، وهي كذلك قادرةٌ على أن تؤدّي دورًا في التأثير في الحالة الفلسطينيّة العامّة، التي تزداد شرذمةً وانقسامًا.
إنّ صرخة الأسير صالح أبو مخ، هي رسالةٌ واضحةٌ ليس فقط لأبناء الحركة الأسيرة، بل لكلّ فصائلنا والسلطتين، بأنّ ما يحتاجه الأسرى، ليس فقط تحسين شروط حياتهم الاعتقاليّة وظروفهم، بل هم يريدون أن يشمّوا رائحةَ تراب بلادهم، ويسيرون في سهولها ووديانها، ويأكلون من صبرها وتينها وزعترها وبرتقالها، كما فعل أبطالُ عمليّة "نفق الحريّة" الستة، قبل أن يعاد اعتقالهم، ولذلك لا يعقلُ أن يترك أسرانا لمواجهة عسف السجن والسجّان وحدَهم، والذين كذلك جزءٌ ليس بالقليل منهم أضحت أجسادُهم مجمعَ للعديد من الأمراض المزمنة، ولا تقدّم لهم إدارةُ مصلحة السجون الإسرائيليّة العلاجَ المطلوب، وتجد أنّ العشراتِ منهم قد استُشهدوا نتيجةَ سياسة الإهمال الطبي، وآخرُهم الأسيرُ حسين مسالمة.
نحن نثقُ بأنّ حركتنا الأسيرة، سيكون هناك صدى لفعلها ودورها ونضالاتها وتضحياتها، هذهِ النضالاتُ والتضحياتُ التي عمّدت بالدماء والشهداء، هي من حقّقت الكثير من الإنجازات والمكاسب للحركة الأسيرة، وكذلك، هي من أسهمت في الحفاظ على جذوة النضال والكفاح متوقّدةً ومشتعلة، وهي من ترفع صوتها عاليًا في وجه كلّ من يحاول التفريط بحقوق شعبنا أو المقامرة بها. صحيحٌ أنّ الأوضاعَ مجافيةٌ وصعبة، ولكن الأصحّ أن تبادرَ الحركةُ الأسيرةُ إلى رفع راية المصالحة وإنهاء الانقسام، وهي قادرةٌ أن تفرضَ مواقفها ورؤيتها على صنّاع القرار الفلسطينيّ.
لن تكون صرخاتُ الحركة الأسيرة الفلسطينيّة، صرخةً في البريّة، بل سيكونُ هناك رجعُ للصّدى؛ رجعُ الصّدى هذا يحتاج إلى إراداتٍ وإلى قياداتٍ مخلصةٍ ومؤتمنة، تُغلّب الوطنيَّ على الفئويّ، وتصهر كلّ جهود الحركة الأسيرة في بوتقةٍ واضحة، تتحلّق حولَ مطالبها وتدافع عنها، وتمنع إدارة مصلحة السجون وأجهزة مخابراتها من الاستفراد بها، فما نشهده حاليًّا من استفرادٍ لمصلحة السجون الإسرائيليّة بأسرى حركة الجهاد الإسلاميّ من قمعٍ وتنكيلٍ وتفكيكٍ لوجودهم التنظيميّ، وتركهم وحيدين يخوضون معارك مواجهة كلّ آلة البطش والقمع الصهيونيّة ووحداتها الخاصّة، وعدم إسنادهم جدّيًّا في إضرابهم المفتوح عن الطعام، يفتحُ شهيّةَ المحتلّ من إدارة مصلحة السجون إلى أجهزتها الأمنيّة إلى المستويين؛ الأمنيّ والسياسيّ، لفرض المزيد من إجراءات القمع والتنكيل بالأسرى ومصادرة حقوقهم.
وأخيرًا نقولُ: إنّ حركتنا الأسيرة، تحتاج منا أن تصبحَ قضيّةَ المجموع والكلّ الفلسطينيّ، وإنّ لا تتحوّلَ أشكالُ التضامن الشعبيّ والرسميّ معها إلى مناشطاتٍ وفعالياتٍ موسميّةٍ أو احتفاليّة، يزولُ أثرُها بزوال الفعاليّة أو المناسبة، بحيث نصلُ إلى وضعٍ تصبحُ فيه قضيّةُ أسرانا، قضيّةَ كلِّ أبناء شعبنا؛ قضيّةَ كلّ بيتٍ فلسطيني. فالاحتلالُ في سبيل العثور على رفاة جنودهم، دفعوا الرُشى وملايين الدولارات، ونبشوا القبورَ في سوريا ولبنان للوصول إليها، ولنتعلم منهم في هذه القضيّة بالذّات.