Menu

طـه حـسـيــن.. صــور مــتــجــددة

د. أحمد الخميسي

رحل طه حسين عن عالمنا في 28 أكتوبر 1973، وبعد نحو نصف قرن يتجدد في نفسي أنه في طه حسين تحديدًا، وليس في غيره من رواد التنوير؛ امتزجت الرسالة الفكرية بالنبرة الإنسانية، وفي شخصه الفريد تطابق وجه الإنسان السمح مع رسالته لأجل التقدم والتطور، وكان نزار القباني محقًا عندما رثاه بقصيدة يقول فيها: "ارمِ نظارتيكَ ما أنتَ أعمى.. إنما نحن جوقةُ العميانِ". أما د. لويس عوض فأوجز رحلة ذلك المفكر العظيم بقول: "تعلمنا منه أن أعمدة التقدم ثلاثة هي؛ العقل والحرية والولاء للمعذبين في الأرض".

وفي ذكرى رحيل العميد تحضرني صور العميد من عدة زوايا تبرز فضله ودوره وعلمه وإنسانيته. الصورة الأولى للكاتب الذي لا يغريه منصب حكومي مهما كان عظيمًا، ذلك أنه عام 1950 استدعى مصطفى النحاس العميد وعرض عليه منصب وزير المعارف؛ فرفض طه حسين إلا إذا أقرت الحكومة برنامجه في التعليم المجاني وتعهدت بتنفيذه، فوافق النحاس، ولأول مرة أمسى التعليم الثانوي والفني بفضل العميد متاحًا بالمجان لأبناء الشعب. وكان ذلك الموقف متسقًا مع ما كتبه طه حسين من أن: "التعليم مستقر الثقافة"، ولا ثقافة من دون إتاحة التعليم للجميع. الصورة الثانية تجسد موقف العميد المدهش من قضية الطائفية؛ فقد كتب في "مستقبل الثقافة في مصر" يقول: "لعل الاختلاف بين المسلمين والأقباط في الدين أن يكون أشبه بهذا الاختلاف الذي يكون بين الأنغام الموسيقية، فهو لا يفسد وحدة اللحن، وإنما يقويها ويزكيها ويمنحها بهجة وجمالا". وهنا يرى العميد أنه لا تعارض بين جوهر الديانات السماوية، وربما يرى الكثيرون ذلك أيضاً، لكن أحدًا لن يمضي إلى الأمام أبعد وأجمل مما مضى العميد، حين يقرر أن الديانات تكتسب بهجةً وجمالًا بتجاورها وحياتها المشتركة. ويضيف إلى ذلك قوله: "عندما يمنح الله العدالة للناس، فإنه لا يمنحها للمسيحيين فقط أو المسلمين فقط، وإنما لجميع الناس".

الموقف من التعليم؛ من الطائفية؛ من المناصب؛ من مراجعة الفكر المتحجر.. كل ذلك يصبح رسالة مقبولة ومؤثرة بنبرة طه حسين التي تقدم الود على الخصومة، والمحبة على النفور، وفي شخصه تحديدًا، وليس في شخص أي مفكر آخر من رواد التنوير أمسى المغني والأغنية شيئًا واحدًا، وتطابقت في العميد وامتزجت إنسانية المفكر بأهمية الرسالة، وبذلك الصدد في عز خلافات طه حسين العلنية والخفية مع العقاد؛ فإن العميد يكتب له إهداء على روايته دعاء الكروان 1934، يقول له فيه: "أنت أقمت للكروان ديوانًا فخمًا في الشعر العربي، فهل تأذن في أن أتخذ له عشًا متواضعًا في النثر العربي الحديث؟". بهذا التواضع وهذه العذوبة يقدم طه حسين مودة قلبه على كل شيء، هذه المودة التي جعلت عباس العقاد يقول عنه: "رجل جريء العقل مفطور على المناجزة والتحدي".

وتتضح معالم إنسانية العميد في علاقته بأهل بيته، ولاحظ هنا أن طه حسين؛ أزهري، قادم من أعماق الصعيد، لكنه يرتقي إلى ذرى بعيدة في علاقته مع زوجته الفرنسية سوزان، التي سجلت في كتابها "معك" أنه كان يكتب لها وقد تجاوز الخامسة والستين، فيقول: "ضعي رأسك على كتفي، ودعي قلبك يصغي إلى قلبي".

نقول في ذكرى رحيل المغني والأغنية ما قاله عنه توفيق الحكيم: "سوف ينطق اللسان العربي إلى آخر الدهر باسم طه حسين وفضله على لغة العرب".