Menu

حبات البلوط والثلج... حكاية الطفل الشهيد محمد دعدس

ثائر أبو عياش

مع قدوم الشتاء تتزاحم الأسئلة في رأس محمد تبدأ تلك الأسئلة بسؤال والدته متى تقوم بتبديل الملابس الشتوية بدلاً من الصيفية؟ تلك المرحلة الفاصلة بين الفصليين لأن محمد يحب جاكيته الاسود الشتوي، ويسأل أيضاً عن موعد سقوط الثلج، لأن الثلج فرحة للأطفال في فلسطين في ظل سرقة الاحتلال لكل أنواع الفرح، يطرح محمد هذه الأسئلة كل عام، ولكنه هذا العام بات يشعر ربما أنه أصبح أكبر بقليل من العام الماضي، وهذا يعطيه مساحة للمراوغة للعب أكثر، ولذلك كان مستعداً لقدوم فصل الشتاء هذا العام ويحمل بداخله الفرح والشغف للزائر الأبيض الذي سيغطي الأرض كما سيغطي القماش الأبيض جسده.

بحنان يحمل معه قساوة الشتاء تقوم أم محمد بإيقاظه "قوم يما قووم شوف الدنيا كيف صارت يا محمد!"، يركض محمد إلى النوافذ لرؤية الثلج غير مصدق لأن بعض الأعوام لا يأتي فيها الثلج بسبب الصراع المناخي الجشع. في سريره كان يعيش بين اليقظة والنوم في انتظار الثلوج، كان يحب رؤية الثلج وهو يتساقط أكثر من رؤيته على الأرض تلك متعته ويصرخ بفرح ويقول: "الأرض بيضه الأرض بيضه يا الله محلاها"، يدرك محمد أن الثلج يحمل فرحتين جميلتين وهم يعني لا مدرسة في اليوم التالي، واللعب والمشاكسة في الشوارع برشق كرات الثلج وكثيراً ما كان محمد يضع الحجارة الصغيرة داخل الكرات خصوصاً لضرب خصومه، أنه اليوم الذي سيلعب فيه محمد حتى ساعات الظهيرة قبل أن يعود للبيت ويشرب السحلب ويأكل شوربة العدس التي صنعتها والدته.

بجانب مدفأة الحطب يجلس محمد محاولاً الحصول على كمية أكبر من الدفء، لأنه يعلم أن الحطب المحترق الآن هو أفضل وسيلة للتدفئة في الشتاء أو كما كان يسميها الكاتب العربي عبد الرحمن منيف "فاكهة الشتاء"، ربما كان يحلم أيضاً بالعائلة التي سيكونها عندما يكبر وأن أطفاله يجب ألا يشعروا بالبرد وسيفعل مثل والده ويشتري الحطب من أجل التدفئة، وربما أيضاً كان يفكر بسؤال يحمل معه جوهر الصراع الفلسطيني الصهيوني: هل سنلعب بالثلج العام القادم داخل أزقه المخيم أو سنكون قد عدنا إلى حيفا وهناك نفرح مرتين مرة بالحرية ومرة أخرى بالثلج وهنا يصبح اللعب يفرق عن العام الماضي؟

يأكل محمد حبات البلوط التي وضعها داخل المدفأة بدلاً من الكستنة وهو يتذكر كيف حصل على هذه الحبات هو وصديقه وهم يلهوا في جبال نابلس، كان السؤال برأسه كيف تكون هذه الشجرة دائمة الخضار طوال العام؟ وربما عندما شاهد تلك الخضار على شجرة البلوط سأل نفسه كيف يقول الاحتلال أن هذه الأرض له على الرغم أن الشجرة خضراء ما قبل عام 1948؟

رصاصة واحدة اخترقت بطن محمد لتخترق حكاية الثلج والبلوط وتتبدل الحكاية، هذه الرصاصة لم تتوقف عند هذا الحد، بل اخترقت ذلك المشهد الذي سيكون فيه محمد مع بداية العام الدراسي يجلس على الكرسي ويجلد كتاب الحساب والعلوم... قتلت الفرح باليوم الدراسي الأول وكرسيه المفضل في الصف المدرسي وهو لم يهتم إذا كان بشعبه ج أو ب المهم أن يكون بجانب أصدقائه.

يوم الجمعة الموافق 5 نوفمبر 2021 أصبح محمد شهيد، بعد أن توقف قلبه وعجز الأطباء عن إنقاذه. وضع جسده داخل القبر وما زالت أجساد الكثير من الشهداء بدون قبور، ولكن القضية ليست قضية قبر، ليست بالأزهار والزينة، ربما هذه لا تهم محمد، لا يهم إذا كان حجمه كبير أم صغير، القضية أن وجود هذه القبور التي تحوي بداخلها أجساد الأطفال يعني فشل العالم بالحفاظ على الطفولة، أن ما يحدث جريمة بحق احلام محمد وبحق دفتر التاريخ الذي كتب عليه أول كلماته الرومانسية لفتاة لا يعرفها، ولكن كان يعرف شعور الحب لأنه شعور إنساني.

الرصاص لم يتوقف ولن يتوقف طالما وجد الاحتلال، إن هذا الرصاص هو نفسه الذي قتل أحلام الطفل الشهيد أمجد أو سلطان من بيت لحم، والذي ما زال جثمانه محتجز لدى الاحتلال، هذه الرصاص أيضاً قتل فرحة أمجد بالحصول على دراجة هوائية من أجل الذهاب عليها إلى المدرسة.

لو عاد هؤلاء الأطفال وسألتهم عن الصراع وشرحت لهم كل أبعاده التاريخية والسياسية والاقتصادية... سيقولون لك نحن لا نفهم ما تقول، ماذا يعني مفهوم البطولة الذي تتحدث عنه، إنه من الإجحاف أن تقول عنا أبطال ونحن أطفال، نحن لا نفهم أيضاً قصدك بمصطلح الصراع، هذه مصطلحات لا تهم أحلامنا، ربما كنت تقصد بالصراع صراعنا حول ألعابنا وحقنا بالحصول عليها وحقنا بالحصول على مساحة لا يوجد بها رصاص وقنابل الغاز لنلعب بها بأمان.

سيقولون لك: نحن لا نفهم إلا سبايدرمان الذي كان مرسوماً على غطاء الفرشة، هل هذا ما تقصده عن مفهوم الأبطال؟ ربما يقولون لك دعنا نقول بكل وضوح: كل ما نفهمه حول هذه القضية التي تتحدث عنها وسردك الفلسفي هو لا يوجد مبرر إنساني وحيد لقتل طفل كان يقاتل والده الفقير في سبيل الحصول على دراجة هوائية، ويأتي الاحتلال الذي تتحدث عنه ويقتل حق هذا الطفل بالحصول واللعب على هذه الدراجة، ربما نفهم شيء آخر أن هناك الاحتلال، نقصد احتلال من نوع أخر نحن لا نعرف اسمه هو سبب في عدم قدرة الآباء على شراء دراجة هوائية.

سيقولون لك: الاحتلال الذي تحدثنا عنه لقد حرمنا من اكتشاف السر الذي يخفيه علينا المجتمع خلف الأبواب المغلقة، وحرمنا أيضاً أن نفهم الموت ويقولون لك أيضاً: عليك أن تتخيل أننا عشنا الموت في وقت كان يجب علينا أن نكتشف الحب أو أن نخافه على الأقل، يصرخون عليك ويقولون: الاحتلال الذي تحدثنا عنه جعلنا نواجه هذه المعضلة التاريخية قبل أن نتعلم البكاء، قبل أن نعرف عندما يُقبل فنان فنانة في فيلم هل هي قبلة حقيقية أم كاذبة؟ إننا عشنا الموت كتجربة، هذه هي القضية بحسب مفهومنا.

وعلينا نحن بدورنا أن نسأل أنفسنا أمام هذ العالم "كيف استطاع هذا الجسد لطفل صغير أن يقاوم رصاصة تحمل كل حقد وثقل العالم بداخلها، والأهم أن هذا الجسد الذي يحمل هذه الروح البريئة الطفولية قد انتصر؟".

علينا أن نسأل أنفسنا أيضاً هل يعودوا هؤلاء الأطفال أم نذهب نحن إليهم لنغني لهم في جنازاتهم نشيد الموتى لمارسيل خليفة، لعلنا نجد إجابة إنسانية واحدة ع الأقل تشفي قليلا مما داخل صدورنا؟

عودوا أنى كنتم غرباء كما كنتم

فقراء كما كنتم

يا أحبابي الموتى عودوا

حتى لو كنتم قد متم

صمتاً صمتاً من هذا الطارق أبواب الموتى

يا هذا الطارق من أنت

أيكون العالم.. أيكون العالم.. أيكون العالم.. أيكون العالم..

لم يبق لدينا ما نعطيه أعطيناه دمنا

أعطيناه حتى أعظمنا وجماجمنا

ومضينا مقهورين

لا نملك إلا بعض تراب لم نعطيه

يا هذا الطارق أبواب الموتى

ضوضائك تفزعنا

وتقض مضاجعنا

فأرجع لا تفجعنا

لا تحرمنا النسيان

يا أحبابي الفقراء

يا أحبابي الغرباء

كنتم أبداً عظماء.. كنتم أبداً عظماء

يدعونا كي نرجع

لم يبق لدينا أرجل

لكنا سوف نسير ومياه النهر تسير

وشموس الأفق تسير وتراب الأرض يسير

ونظل نسير نسير..