Menu

المناوراتُ العسكريّةُ الإسرائيليّةُ بينَ الإيهامِ والإبهام

محمد أبو شريفة

نشر هذا المقال في العدد 32 من مجلة الهدف الإلكترونية

كثّفَ جيشُ الاحتلالِ الإسرائيليّ طيلةَ الأشهرِ الأخيرةِ من إجراءِ مناوراتٍ عسكريّةٍ بريّةٍ وبحريّةٍ وجويّةٍ؛ تحاكي تطبيقَ خططٍ وسيناريوهاتِ حربٍ على أربعِ جبهاتٍ مختلفة، وركّزت المناوراتُ على التدريباتِ الدفاعيّةِ؛ وذلك لتحصينِ الجبهةِ الداخليّة. ووَفْقًا لمصادرَ إعلاميّةٍ؛ فهي تعدُّ المرةَ الأولى التي يفكّر فيها الكيانُ الصهيونيّ في الدفاع عن نفسِهِ من خلالِ التدريبِ والاستعدادِ لمواجهةِ الطائراتِ المسيّرة، وإطلاقِ القذائفِ والصواريخِ الموجّهةِ التي ستضربُ معسكراتِ الجيشِ وقواعدَه؛ البريّةَ والجويّةَ والمؤسساتِ الحكوميّةَ ومختلِفَ البُنى التحتيّة، والاختراقات "السيبرانيّة". ويترافقُ ذلك مع ممارسةِ سيناريوهاتِ عرقلةِ عملِ الشرطةِ في حالِ اندلاعِ اشتباكاتٍ وأعمالِ عنفٍ بين فلسطينيي 48 واليهود في الداخل المحتلّ.

ومع أنّ لكلِّ جبهةٍ من الجبهاتِ الأربعِ خصوصيَّتها  وموقعَها الجغرافيَّ إلّا أنّهم جميعًا على أُهبةِ الاستعدادِ في أيِّ مواجهةٍ قادمةٍ مع العدوِّ الإسرائيليّ، ولا يغفلُ قادةُ جيشِ الاحتلالِ  تحالفَ الجبهاتِ بعضها بعضًا، ويأخذون في الحسبان أنّ المعركةَ القادمةَ لن تكون على جبهةٍ دون الأخرى، خصوصًا بعد جولةِ معركةِ سيف القدس ، التي أرست قواعدَ اشتباكٍ جديدةً تحت مظلّةِ وحدةِ المعركةِ العسكريّة على كاملِ الترابِ الفلسطينيّ، وكشفت النقابَ عن مأزقِ العقلِ الإسرائيليّ الأمنيّ في استيعابِ الفشلِ وتفهّمه لتغييراتِ الواقع، وبرز التناقضُ واضحًا في تصريحات المستويات الأمنيّة والسياسيّة والعسكريّة الإسرائيليّة ومواقفها.

  وقد أشارت دراسةٌ أجراها معهدُ دراسات الأمن القومي في تل أبيب، إلى أنّ 53% من الإسرائيليّين قد تضاءلَ شعورُهم بالأمن الشخصيّ بعد معركةِ سيف القدس. فالمعركةُ إذا ما وقعت في الجنوب سيصلُ مداها إلى الشمال مرورًا بمدن الداخل المحتلّ، واندلاع الاشتباكات العنيفة في الضفّة الفلسطينيّة. وهذا ما يثيرُ قلقَ جنرالات الاحتلال ومخاوفهم، الذين صرّح بعضُهم بأنّ: "الجيشَ الإسرائيليّ غيرُ مستعدٍّ للحرب القادمة، التي ستكونُ على أكثرَ من جبهة، وستكونُ خسائرُها على الجبهة الداخليّة الإسرائيليّة كبيرةً".

وبالرغمِ من وجود اختلافاتٍ لوجستيّةٍ بين الجبهات الأربع، إلّا أنّها جميعًا متماثلاتٌ ومتجانساتٌ من حيثُ المضمونُ والهدفُ، ولا يقل أهميّةً دورُ جبهةٍ عن الأخرى في حجمِ تشكيلِ الخطر على أمن الكيان الصهيونيّ واستقراره، فجبهةُ الجنوب المتمثّلة بقطاع غزّة، التي أربكت الاحتلالَ بصمودِها وإطلاقِ آلاف الصواريخ والقذائف أثناءَ معركة "سيف القدس"؛ لا تختلفُ جوهريًّا عن جبهة الشمال؛ حيث المواجهةُ مع المقاومة اللبنانيّة على الحدود، وللتقديرات الأمنيّة والعسكريّة الإسرائيليّة بياناتٌ مقلقةٌ عن قدرات حزب الله، وإمكانيّة اقتحام الحدود الشماليّة، ولا يستبعدُ قادةُ أركانِ جيشِ العدوّ أن تطالَ صواريخُ حزب الله كاملَ الأرضِ الفلسطينيّة، ما يعني انكشاف الجبهة الداخليّة برمّتها. كما أكّد ذلكَ الجنرالُ إسحاق بريك، قائدُ الكليّات العسكريّة، بأنّ "الحرب المقبلة ستشهدُ إطلاقَ آلاف الصواريخ والطائرات دون طيار، تجاهَ الجبهةِ الداخليّة الإسرائيليّة، التي ستتكبّدُ خسائرَ هائلةً، وأنّ ما عاشه المستوطنون في الحروب السابقة، لن يكون مشابهًا لما سيحدثُ في حال اندلعت الحربُ على أكثرَ من جبهة".

والواقعُ أنّ الحديثَ عن وحدة المعركة العسكريّة بين جبهتي الشمال (جنوب لبنان) والجنوب - قطاع غزة - ستشعلُ الجبهة الوسطى المتمثّلة بالضفّة الفلسطينيّة؛ لأنّه وَفْقًا لمعطياتِ الواقع ثمّةَ علاقةٌ وجدانيّةٌ وثيقةٌ للشارع في الضفّة، والجبهتين الشماليّة والجنوبيّة، فجبهةُ الضفّة الغربيّة قادرةٌ على تغيير موازين المعركة، وإلحاق أشدّ الأذى في الأمن الإسرائيليّ، ولذلك يأخذ الإسرائيليّون في الحسبان تحالفَ الجبهتين الشماليّة والجنوبيّة، ومدى تأثيرهما على الجبهة الوسطى.

ويبدو أنّ المناوراتِ العسكريّةَ الإسرائيليّةَ لم تسقط من حسبانها أن يعمدَ أصحابُ الجبهات الثلاث على فتح الجبهة الرابعة المتمثّلة بجبهة "المدن والمناطق المختلطة" التي تمتدُّ من الشمال إلى الجنوب، وقد أجرى العدوُّ الإسرائيليُّ مناوراتٍ تحاكي  تجدّدَ العنف والاشتباكات الداخليّة، وتعطّل المجالات الاقتصاديّة، والمرافق الحيويّة، وقطع الطرق، إضافةً إلى الكثير من المفاجآت غير المتوقّعة أمنيًّا وعسكريًّا، وفي هذا السياق توقّع الجنرالُ ساجي باروخ، قائدُ الفرع الجنوبي في القيادة الشماليّة، "أنّ الفصائلَ الفلسطينيّةَ في قطاع غزة تريد أن تتحدّى إسرائيل، في مواجهةٍ قريبةٍ قادمة، إلى جانب التعقيدات في المدن المختلطة".

وبالإضافة إلى الجبهات الأربع المذكورة، كانت إيرانُ مستهدفةً في المناورات العسكريّة الاسرائيليّة حسبَ أنباءٍ تمَّ تداولُها؛ بأنّه يجري الإعدادُ لهجومٍ إسرائيليّ – أميركيّ على إيران، وقد توتّرت الأجواءُ بين الطرفين في الأسابيع الماضية؛ بسبب تبادلِ اتّهاماتٍ باستهداف سفن الشحن وناقلات النفط لكليهما، وأيضًا بسبب "عسكرة الفضاء الإلكتروني" بينهما، حيث صعّدت إسرائيلُ من هجماتِها السيبرانيّة ضدَّ إيران، وشنّت هجومًا على شبكة المترو في طهران أدّى إلى تعطّلها، وتعرّضت محطّاتُ الوقود أواخرَ شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي إلى هجومٍ سيبرانيٍّ تسبّب بإيقاف نحو 4 آلاف محطّةِ وقود، وتعطيلِ نظام شراء البنزين في معظم المدن الإيرانيّة. وصنّفت إسرائيلُ، إيرانَ عام 2017، من بين الدول الأكثر نشاطًا في المجال السيبراني، وتسعى إسرائيلُ إلى إيقاف البرنامج النوويّ الإيرانيّ من خلال الحرب السيبرانيّة على إيران، إلّا أنّ المحلّلين العسكريّين الإسرائيليّين يرون أنّ الهجمات الإلكترونيّة الإسرائيليّة لن تؤدّي إلى إيقاف أو إلغاء البرنامج النوويّ، وقال المراقبُ العام في الكيان الصهيونيّ متنياهو انغلمان في مقابلةٍ مع صحيفة "معاريف" إنّ إسرائيلَ توجّهُ ضرباتٍ قد تكون أكثرَ فتكًا تجاهَ الأهدافِ الإيرانيّة، إلّا أنّ ثمّةَ "خشيةً إسرائيليّةً من أن تتسبّب الهجماتُ الإيرانيّةُ بإحداثِ شللٍ كبيرٍ في المقدّرات الاقتصاديّة والتقنيّة الإسرائيليّة، سواءً المصارف أو المشافي أو المؤسّسات التجاريّة والبُنى التحتيّة".

وتَكرارُ الحديثِ عن الهجوم الإسرائيليّ أو الأميركيّ ضدّ طهران ليس جديدًا، فهو متداولٌ ومطروحٌ منذ حرب احتلال العراق عام 2003، والمروّج لها ليس كمن يخوضُها؛ لأنّها في حال وقعت ستكون حربًا صعبةً، ويرى محلّلون أنّ لكلّ طرفٍ أسبابَهُ وتداعياتِه، فقد تقرّر إيرانُ الدخولَ بحربٍ مباشرةٍ مع إسرائيل لتحويل الأنظار عن أزماتها الداخليّة، وربّما تعتقدُ أنّ مواجهةً سريعةً وخاطفةً ضدّ تل أبيب قد يحقّق لها مكاسبَ سياسيّةً في المنطقة، تفوق المخاطرَ المترتّبةَ على الحرب. وفي المقابل، ترى إسرائيلُ أنّ حربًا قصيرةً ومدمّرةً قد تساعدُ في زعزعة استقرار إيران ومكانتها والحدّ من نفوذها في المنطقة. وخاصةً أنّها ترى بأنّ الحربَ مع إيران لا تشكّلُ خطرًا وجوديًّا بالنسبة لإسرائيل، ورغم ذلك، فإنّ قلقَ إسرائيلَ يتصاعدُ حيالَ إيران، وما زالت عواملُ الحرب قائمةً ضمنَ تلك الأجواء الأمنيّة، التي لا يمكن توقّعُ ما ستتمخضُ عنه في حال اشتعال فتيل المواجهة العسكريّة.

فهل إسرائيلُ مستعدةٌ لحربٍ على جميعِ الجبهات؟ وهل هي على جاهزيّةٍ كافيةٍ للخوض في مغامرةٍ قد تكلّفها التضحيّةَ بمستقبلِها وبهيبتِها العسكريّة؟

لقد طغت نبرةُ الاستعراض الخطابيّ الإسرائيليّ بإطلاق التهديدات والتصعيد تجاهَ خوضِ حربٍ جديدةٍ، وتظهير حسابات الربح والخسارة في الميدان من خلال مناوراتها الأخيرة؛ وذلك بهدفِ إخافةِ العدوّ وتجنّب المواجهة قدر المستطاع، ما يعني أنّها تبني مواقفَها العسكريّةَ على إيهامٍ وتخيّلاتٍ سياسيّة، ففي الوقت الذي يحتاجُ فيه القرارُ السياسيُّ والعسكريُّ إلى إمعانٍ في دراسة المعلومات وموازين القوى وتحليلها قبلَ اتّخاذ القرار؛ نلحظ أنّ الخيالَ الإسرائيليّ يجمح ويحلّق بعيدًا عن الإمكانات المتاحة، متناسيةً أنّ بعضَ التجارِب السياسيّة والعسكريّة أظهرت أنّ المغامرات طالما قادت إلى كوارثَ، ورغمَ ما تمتلكه من قوّةٍ عدوانيّةٍ إلا  أنّ القوّةَ لها حدود، والطرفُ المقابلُ سيواجهُ العدوانَ بلا حدود.

ومن الأهميّة الإشارةُ إلى أنّ الصخبَ الإعلاميّ المرافقَ لتلك المناورات العسكريّة الإسرائيليّة لا يعدو كونه قراءةً ذاتيّةً يقدّمُها العقلُ الصهيونيُّ لذاته المتغطرسة، و"أناه" المتضخّمة، ويدورُ حولَها لإقناعِ الذات بأنّ المواجهةَ مع الآخر تُقرُّ بلغةِ الأرقامِ والحساباتِ ولغةِ القوّةِ التي يمتلكُ فيها فائضًا كبيرًا تجعله مقتنعًا بكلّ ما يجريه من مناوراتٍ أو مخطّطات، في حين يرى الفلسطينيُّ نفسَهُ في مواجهةٍ مفتوحةٍ مع عدوٍّ غاشمٍ يمتلكُ العدّةَ والعتاد، ومع هذا فإنَّ رؤيتَهُ للمواجهة معه تستمدُّ قوّتَها من الحقّ، ومن الصراعِ المفتوحِ مع الاحتلال، الذي سيصلُ إلى نهايتِهِ؛ قَصُرَ الزمانُ أو طال.