هذا الذي جرى ويجري من فتن وحروب داخلية عربية في أكبر وأهم الأوطان والحضارات العربية ليس عبثًا، فهو حلقة متّصلة بسلسلة الصراع العربي/الصهيوني على مدار أكثر من مئة عام، فمنذ مؤتمر لندن الصهيوني عام 1840 الذي تبنى مشروع "إقامة وطن لليهود في فلسطين"، وتبنى شعار "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وبعد ذلك جاء المؤتمر الصهيوني الأول 1897، ثم مؤتمر كامبل بنرمان الاستعماري الذي عقد في عام 1907، وبعده اتفاقية سايكس-بيكو 1916، ثم وعد بلفور 1917، تسربت وتراكمت النوايا الاستعمارية الرامية إلى تحطيم وتفكيك الأمة العربية إلى أجزاء، فلم يكن ممكنًا تنفيذ "وعد بلفور" بإقامة "وطن لليهود في فلسطين"، دون تمزيق الجسم العربي والأرض العربية، من خلال المؤامرة البريطانية/الفرنسية المعروفة باسم "سايكس- بيكو" والتي مزقت الجسم العربي الموحد إلى اجزاء، وخلقت كياناتٍ عربية متصارعة فيما بينها على الحدود، ما مهد الأرض والمناخات لإقامة الكيان الصهيوني، وإنتاج النكبة الفلسطينية المفتوحة.
وليس من شك أن ما يجري اليوم في معظم الدول العربية ومنها التطبيع العربي على نحو خاص، إنما هو تتويجٌ لكل تلك المؤامرات الاستعمارية الصهيونية، التي تسعى إلى تثبيت شرعية الكيان الصهيوني في فلسطين، الأمر الذي لم يحصل في ظل كيانات سايكس-بيكو، فجاءت مرحلة التفتيت الطائفي والمذهبي وبأدوات عربية داخلية وتحت شعارات دينية وإقليمية وجهادية مضللة.
ولذلك يجب أن لا يغيب عن البال والوعي أن هناك خططا ونشاطات صهيونية لم تتوقف منذ إقامة ذلك الكيان، تهدف إلى تحطيم وتفتيت الدول والأوطان وتحويلها إلى "دويلات" طائفية وإثنية -سنية وشيعية ودرزية وعلوية ومارونية وقبطية وكردية ونوبية وأمازيغية-...الخ!
كما أن هذا الذي جرى ويجري من خراب وتخريب وتفكيك في بلاد العرب، من فلسطين إلى العراق إلى سوريا إلى مصر، فاليمن فليبيا والحبل على الجرار، مقروء منذ سنوات، فالمخططات والمشاريع الصهيونية دائما حاضرة في المشهد العربي، فهم يعملون ويستثمرون أدوات عربية داخلية من أجل تحطيم وتدمير وتفكيك أوطاننا ومجتمعاتنا العربية، وأمضى الأسلحة التي يستخدمونها في هذه المرحلة هي الإقليمية والطائفية والمذهبية، والتكفير والإرهاب، إ مخططات شيطانية لتفتيت الأمة، فالمشهد العربي وصل إلى اسوأ حالاته، و"الأيادي الشريرة الخفية الاستعمارية الصهيونية تعبث بالأمن العربي"، والواضح تمامًا اليوم "أن مشروع الشرق الأوسط الجديد-الامريكي الصهيوني- إنما هو سطو مسلح على دولنا وأوطاننا وحضارتنا وتراثنا"، و"أن إسرائيل لم تكن لتتوغل في سياستها وجرائمها لو لم تكن تتمتع بحصانة دولية وحماية غربية".
لقد وصل هذا السطو المسلح إلى أقصى درجات العربدة المطلقة على بلادنا وأوطاننا في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق بوش، ولم تتوقف أو تتراجع في عهد الرئيس أوباما، ووصلت إلى ذروة إجرامية مرعبة في عهد الرئيس الجديد ترامب، الذي أعلنها صباح مساء أنه مع "إسرائيل" وأمنها ومع استمرار الاستيطان، بل إنه يقترح نقل الشعب الفليسطيني إلى بورتوريكو الأمريكية، والواضح أن الرئيس بايدن يواصل نفس السياسات الأمريكية في الجوهر.
كان الجنرال موشيه يعلون وزير الحرب الإسرائيلي سابقا أطلق في لقاء أجرته معه صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية صاروخًا استراتيجيًا إعلاميًا مدججًا بالنشوة والغطرسة والتشفي أكد فيه: "إنه لم يعد هناك عالم عربي، ولم نعد نتكلم عن عالم عربي، ولا يوجد شيء اسمه تحالف وتضامن عربي، بل هناك لاعبون عرب لكل منهم مصلحته الخاصة، والذي يريد مصلحته عليه أن يكون مرتبطًا بالولايات المتحدة القطب الأوحد الذي يتحكم بالعالم".
وعن النويا والأهداف التفكيكية الأمريكية –الصهيونية التي تخرج في هذه الأيام سافرة إلى العلن هناك، نتناولها من خلال أهم ثلاث وثائق أميركية - صهيونية:
أ - الوثيقة الصهيونية لتفتيت الأمة العربية- ففي عام 1982 نشرت مجلة كيفونيم العربية التي تصدرها المنظمة الصهيونية العالمية وثيقة أعدت لتفتيت الأمة العربية جاء فيها:
"إن تفتيت مصر إلى أقاليم جغرافية منفصلة هو هدف إسرائيلي على جبهتها الغربية، كما أن تفتيت لبنان وسوريا إلى أقاليم قومية ودينية وطائفية منفصلة عن بعضها البعض هو هدف إسرائيل الرسمي في الجبهة الشرقية". غير أن الوثيقة شددت من جهة أخرى على "أن تفتيت العراق أهم بكثير في المدى القريب".
ب - مخطط تشيني الرهيب- ولعل ذلك "المخطط الرهيب" الذي أعده ديك تشيني نائب الرئىس الأميركي بوش في عهده يعزز المضامين الواردة في الوثيقة الصهيونية أعلاه، حيث كشف مايكل أوهلان خبير الشؤون العسكرية والاستراتيجية في "معهد بروكينجز" عن تفاصيل وأبعاد المخطط وعلاقته بالدولة الصهيونية والحروب المعدة سلفًا لصالحها ضد العراق وسوريا والعرب، مشيرًا إلى: "تطورات وتغيرات طرأت على مكتب نائب الرئىس الأميركي تدل على تقاربه الشديد من حكومة شارون، حيث انتقل ديفيد ويرمز من مكتب جون بلوتون رجل العداء الأول لعدالة القضية الفلسطينية ورأس الحملة الشرسة التي شنت وما تزال تشن على سوريا، إلى دائرة مستشاري نائب رئىس الأمن القومي الضيقة.. "ويرمز" هو أحد محرري وثيقة "الكسر النظيف" التي شكلت أرضية لمبدأ "القرن الأميركي الجديد" للإجهاز على المنطقة وفرض السلام الإسرائيلي على أرضية ميزان القوى المختل لصالح إسرائيل بشكل كبير.
ج - خريطة طريق خاصة بسوريا- وقد أعدت الإدارة الأميركية خريطة طريق خاصة بسوريا، في حين قدمت الحكومة الإسرائيلية لها "لائحة كاملة بالمطالب والأهداف المتعلقة بسوريا"، وأكد تقرير أميركي "أن صقور الإرادة الأميركية وأصدقاء إسرائيل يخططون لتنفيذ خريطة طريق تهدف إلى إحكام الحصار وتضييق الخناق على سوريا ومحاصرتها اقتصاديا وتكنولوجيا وصولًا إلى فرض الشروط الإسرائيلية المتعلقة بالتسوية عليها".
فلم تكذب الأحداث والوقائع خبرًا أو وثيقة من الوثائق المشار إليها أو غيرها، فحصل العدوان على العراق وتم غزوه، بينما يواصل بلدوزر الإرهاب الصهيوني حربه العدوانية التدميرية الاقتلاعية التركيعية الشاملة على الشعب الفلسطيني، في الوقت الذي أخذت تصعد فيه الإدارتان الأميركية والصهيونية حملات التحريض ضد سوريا، وكل ذلك يأتي بالتناغم والتساوق مع "الوثيقة الصهيونية" ومع "مخطط تشيني" وغيره.
وهكذا تتطور الأحداث على الأرض من وجهة نظر إسرائيلية استراتيجية: "حيث قام الجيش الأميركي بالعمل كجيش انقاذ لصالح إسرائيل، فقام بتفكيك التهديدات العسكرية – العراقية العربية لها، وقدم لها ركيزة استراتيجية ليس لها مثيل في السابق"، كما "قامت وتقوم المجموعات-التنظيمات الجهادية في سوريا باستكمال المهمة بتحطيم وتفتيت سوريا الوطن والجيش والمجتمع"، وكما كتب المحلل الاستراتيجي الإسرائيلي الوف بن في صحيفة هآرتس: "إن جيش الانقاذ الأميركي وتفكك العرب يمنحان إسرائيل فرصة تاريخية لتعزيز وضعها في المنطقة".
فالواضح اليوم في ضوء كل ذلك، أن الأمة العربية في مواجهة المؤامرات والمخططات الأميركية - الصهيونية الموثقة المبيتة التي أخذت تخرج تباعًا إلى حيز التنفيذ وببالغ الإرهاب والإجرامية في فلسطين والعراق وسوريا -وبأدوات عربية- وعلى امتداد الخريطة العربية..!
كان المفكر والمحلل العربي الكبير محمد حسنين هيكل قد حذر من مغبة التفكك والانهيار العربي منذ مطلع الثمانينيات قائلًا: إن الأحداث في المنطقة تجري وفق الأجندة الإسرائيلية إذا لم يستفق العرب ويتداركوا الأحداث...!
ونحن اليوم إذ ننبش هذه الوثائق والحقائق، فذلك على أمل أن تتحرك كافة القوى الوطنية العروبية الحية وتتوحد وتستجمع طاقاتها وحضورها تحت هذه العناوين المناهضة للإقليمية والطائفية والمذهبية والتكفير والإرهاب، وتبقى الأمة العربية حية قوية في مواجهة هذه الحروب الاستعمارية-الصهيونية الشرسة.
