يُواجهُ لبنانُ تحدياتٍ وجوديّةً تُهدّدُ حكمَهُ ونظامَهُ وكيانَه، لذلك يمرّ لبنانُ بمرحلةِ انتظارٍ انتقاليّةٍ مرتبطةٍ بتحوّلاتٍ إقليميّةٍ ودوليّةٍ نتيجةَ المفاوضات والتسويات الجارية بين الولايات المتّحدة ومعها أوروبا من جهة، ومن جهةٍ ثانيةٍ إيران ومعها محور المقاومة، ومن جهةٍ ثالثةٍ دول الخليج؛ فضلًا عن روسيا والصين. وقد وصلت هذه التحوّلات إلى مرحلةٍ حاسمةٍ تلزم الكيان الصهيوني بتسريع عملية ترسيم الحدود مع لبنان، الذي وصل إلى لحظة خياراتٍ مصيريّةٍ تتقاطع مع انتخاباتٍ نيابيّةٍ ورئاسيّة، وتتزامن مع أزمةٍ اقتصاديّةٍ ماليّةٍ اجتماعيّةٍ خانقة. في هذه الظروف المعقّدة تسرع واشنطن في تدخّلها لفرض حلٍّ على لبنان المأزوم، من أجل دعم الكيان الإسرائيلي وحمايته، المحتاجِ إلى استخراج الغاز الذي تحتاج إليه دولٌ عدّة.
في هذا السياق جاءت زيارةُ الموفد الأميركي آموس هوكشتاين إلى بيروت وتل أبيب، من أجل إجراء مشاوراتٍ الساعات الأخيرة قبل فرض الحلّ النهائي، من أجل تأمين التزاماتٍ عدّةٍ مرتبطةٍ بمعالجة مجموعة الإشكاليات التي تسببت بها المفاوضات المتعثّرة لجهة تزويد الدول الأوروبيّة بالغاز الروسي الناجمة من تداعيات أزمة أوكرانيا، والمخاوف من أيّ عملٍ عسكريٍّ روسيٍّ يستهدفها، ويمكن أن يؤدي إلى تعليق إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا في حال اضطرّت أوروبا إلى فرض عقوباتٍ على موسكو.
تسارعت في الفترة الأخيرة التطوّرات على خريطة الغاز في آسيا وأوروبا والشرق الأوسط بشكلٍ مثير، من أهمّها:
1- انفتح النزاعُ النائمُ بين روسيا والولايات المتّحدة في أوكرانيا، الدولة التي تُعدّ أحد الممرّات الاضطراريّة لنقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى أوروبا الغربيّة. وقد تمَّ إنجاز خطّ الأنابيب "نورد ستريم 2 " لنقل الغاز الروسيّ إلى ألمانيا، لكنّه لم يعمل حتّى اليوم. وتخشى الدول الغربيّة أن تعمد موسكو إلى خفض إمدادات الطاقة عمومًا إليها، ما يؤدّي إلى حدوثِ أزماتٍ حادّةٍ في كثيرٍ منها.
2 - في القمّة الروسيّة - الصينيّة الأخيرة، عقد الرئيس فلاديمير بوتين اتّفاقًا هو الأوّل من نوعِهِ مع الصين، يقضي بتزويدها بالغاز الطبيعي الروسي، بحجم 10 مليارات متر مكعّب سنويًّا. وهذا الاتّفاق سيفتح نافذةً تحتاجها روسيا بشدّةٍ تجاهَ الشرق، وتعوّضها الخسائر التي تلحق بها غربًا، نتيجةَ التأزّم في أوكرانيا، وتشابك الطموحات والمصالح في أوروبا وحوض المتوسّط.
3 - يسعى الأميركيّون إلى تأمين بديلٍ للغاز الروسي في أوروبا، إذا اندلعت الحرب نتيجةَ هجومٍ روسيٍّ على أوكرانيا ولهذه الغاية، استقبلَ الرئيس جو بايدن أمير قطر الشيخ تميم بن حمد الذي تمتلك بلادُهُ احتياطيًّا هائلًا من الغاز، وتُصنَّف بلادُهُ أوّلَ مُصِّدرٍ عالميٍّ للغاز الطبيعي المسال.
4- توحي مواقفُ الأتراك والإسرائيليّين أنّهم على وشك الانطلاق في مشاوراتٍ تؤدّي إلى تزويد تركيا بالغاز الإسرائيليّ من خلال خطّ أنابيبَ يَعبر العراق، حيث أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنّ بلاده ستتمكن من تصدير هذا الغاز إلى أوروبا. وفي هذا المناخ، يُنتظر أن يقوم الرئيس الإسرائيليّ إسحق هرتزوغ بزيارة أنقرة منتصف آذار المقبل.
5- بالتوازي مع سعيهم إلى إبرام اتّفاقٍ حولَ تقاسم الغاز بين لبنان وإسرائيل في الناقورة، يعمل الأميركيّون لتشغيل خط الغاز المصري عبرَ سوريا تجاهَ لبنان، وهذا الاتّفاق لا يمكن فصلُهُ عن مجمل الحراك الجاري في الشرق الأوسط حولَ الغاز. وللتذكير، مصر رفعت من مقادير الغاز الطبيعي الذي تستورده من الكيان الإسرائيليّ ويُستدّل من هذا الاستنفار الكبير إلى وجودِ مؤشّرين بارزين:
أوّلًا: النزاع في آسيا والشرق الأوسط سيتخذ طابعًا اقتصاديًّا بشكلٍ أساسيّ، ويتعلّق خصوصًا بمصادرِ الطاقة (الغاز، المياه، النفط)
ثانيًا: الغاز الطبيعي سيكتسب أهميّةً خاصّةً في المرحلة المقبلة، لكونه الطاقة النظيفة الأكثر توافرًا والأشد فاعليّةً والأدنى تكلفةً قياسًا إلى هذه الفاعليّة. ومن هنا أهميّة مخزونات الغاز التي تملكها دولُ شرق المتوسط كافة.
العلامةُ الأساسيّة في هذا المجال، هي أنّ الكيان الإسرائيليّ تمكّن من التقدّم خطواتٍ في السباق الاستراتيجيّ على مصادر الغاز الطبيعي وقنوات تصديره، وهي تطمح إلى المزيد. ونجحت في جعل نفسها حلقةَ التقاطع والنواة في سوق الغاز الإقليميّة. وقد استفادت خصوصًا من ضعف مصر و الأردن اقتصاديًّا، ومن غرق سوريا في الحرب، ومن انهيار لبنان بسبب فساد منظومة السلطة.
وبدءًا من العام 2018، أبرم إسرائيليّون اتّفاقاتٍ مع قبرص واليونان وإيطاليا وفرنسا لتزويدها بالغاز من خلال الخطّ البحري عبرَ المتوسّط، وهم يقومون بتفعيل التعاون مع مصر والأردن في هذا المجال، بعدما صارت السوق المصرية - الأردنيّة للطاقة سوقًا شرق أوسطيّة في الواقع، وركيزتها التطبيع مع "إسرائيل".
وفي أواخر تشرين الثاني الفائت، تمّ في القاهرة توقيعُ اتّفاقاتٍ حيويّةٍ بين أركان منتدى غاز شرق المتوسط بحضور ممثلين من الاتّحاد الأوروبيّ والولايات المتّحدة والبنك الدولي. والأبرز هو استيرادُ مصر كميّاتٍ إضافيّةٍ من الغاز الطبيعي الإسرائيليّ، والتخطيط لمدّ أنابيبَ جديدةٍ عبرَ المتوسّط بين 2024 و2025.
ومن هنا يمكن فهم لماذا أصرّ الأميركيّون على أن ينخرط لبنان في شبكة الغاز والكهرباء الواردة من مصر والأردن، فالمطلوبُ من لبنان أن يفتح الطريق لعبور الغاز، وألا يكون حجرَ عثرة. وفي تقديرهم أن ذلك سيسهّل التحاقه بالمسار التطبيعي الذي يبدأ اقتصاديًّا وينتهي سياسيًّا. وكذلك، يُفهم تمامًا ما يريده الإسرائيليون من المفاوضات الجارية في الناقورة، فمن مصلحة "إسرائيل" حسم الخلاف على الحدود البحريّة في جنوب لبنان لسببين:
أوّلًا: لأنّ ذلك يتيح لها أن تباشر استخراج الغاز من المخزونات المحاذية للحدود اللبنانيّة.
وثانيًا: لأنّ تعيين "إسرائيل" نقاط الحدود البحريّة مع لبنان، يسمح لها بتمرير خطّ الأنابيب بين المتوسط والشواطئ الأوروبيّة من دون افتعال أزمات.
تتسارع الأحداثُ العالميّةُ المتعلّقةُ بموضوع النقص الحاد في إمدادات الغاز لعددٍ كبيرٍ من الدول، خصوصًا دول الاتّحاد الأوروبيّ، وما قصّة "نورد ستريم 2 " أو "السيل الشمالي 2" الذي يربط روسيا بألمانيا التي تسعى إلى إلغاء الاعتماد على الخطوط التي كانت تمرُّ عبرَ أوكرانيا، إلا بدايةً لصراعٍ عالميٍّ جعل منشآت التخزين في الاتّحاد الأوروبيّ شبه فارغة.
من هذا المنطلق، يرى بعض الخبراء أنّ التطوّر الأبرز هو توقيعُ روسيا مع الصين اتّفاقًا لتوريد 10 مليارات متر مكعب من الغاز مدّةَ 30 سنّة، واللافت في الأمر أن كلفتها ستغطى باليورو بدل الدولار، بما سيعّرض أوروبا لخطرٍ استراتيجيٍّ في موضوع الطاقة التي قفزت أسعارها 600% قبل شهرين. وهذا ما دعا إلى مسارعة أميركا إلى طلب المساندة العالميّة من اليابان وقطر لسدّ الفجوة التي تبلغ نحو 40 % من واردات أوروبا من الغاز الروسي، لكن هذا ما لا يمكن أن يتحقّق بسبب التزام الدول المنتجة للغاز بعقودٍ مستقبليّةٍ وبسبب النقص العالمي.
ولكن لا بديل عن الغاز الروسي للسوق الأوروبيّة؛ بسبب رخص أسعاره وكميّة الإمداد التي لدى روسيا القادرة على تأمينها، ولكن أميركا تشترط الإبقاء على خطوط الإمداد الحاليّة التي تمرّ عبرَ أوكرانيا التي يمرُّ فيها ثلث الغاز الروسي، التي تضرّ بالاقتصاد الأوكراني في حال قطعها ملحقة خسائر تصل إلى 3 مليارات دولار تجنيها من رسوم العبور.
يرى بعض الخبراء أن الروس لن يتراجعوا عن وضع "خط نورد ستريم 2 " قيد التشغيل بعد حلّ المشاكل القانونيّة مع ألمانيا، الذي يمتدّ تحت البحر، ويستطيع نقل 55 مليار متر مكعب تكفي حاجات السوق الأوروبيّة من أصل 120 مليار متر مكعب هي حاجات أوروبا السنويّة، وينهي مشاكل الترانزيت والأزمات الجيوسياسيّة، ويبعد ثرواتها عن ضغوطٍ مستقبليّةٍ من الدول العظمى التي تعارض هذا الخطّ بشراسةٍ لإبطاء النموّ الاقتصاديّ الروسيّ.
وبالإشارةِ إلى ملفِّ ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان و"إسرائيل"، يقول خبيرٌ اقتصاديٌّ: "هذه المرّة ستتّسم المفاوضاتُ بجديّةٍ أكبرَ مع وجود نتائجَ ملموسة، وسيعود ملف ترسيم الحدود بقوّة، وستتحرك المفاوضات بأقصى سرعةٍ على وقع طبول الحرب في أوكرانيا؛ الممرّ الاستراتيجي للغاز الروسي نحو أوروبا، وتفعيل ملف "نورد ستريم 2 " ومفاجأة اتّفاق "غاز بروم" مع الصين بكميّاتٍ سوف تُلحقُ الضرر بالحصّة الأوروبيّة، بما يعجّل التوقيع على ترسيم الحدود النفطيّة بين لبنان و"إسرائيل" بسبب حاجة الأسواق العالميّة إلى الغاز من مصادرَ مختلفة، خصوصًا مع اشتداد الطلب عالميًّا على النفط الأزرق. لهذهِ الأسباب يمرُّ لبنان بمرحلةٍ خطيرةٍ ومصيريّة، مدخلُها ترسيم الحدود البحريّة في جنوبه كمدخلٍ لحلِّ مشاكلِهِ الاقتصاديّةِ والسياسيّة، والأشهر المقبلة تقرّر مستقبلَ بلادِ الأرز.