Menu

دريفُوسُ الفِلَسْطِيْنِيُّ والسَّيْفُ الإله

عبد الرحمن بسيسو

نشر هذا المقال في العدد 35 من مجلة الهدف الإلكترونية

اسْتُهْلِكَ كثيرٌ من حِبْرِ الكتابَة، وضِعْفُ أضعافِ قَدْرِهِ من أَثيرِ الكلام، على تَعدُّدِ ألوانِ أوَّلهما، وتَغايُرِ نبراتِ ثانيهما، وتباينِ منظوراتِ الرُّؤيَةِ الحاكِمَةِ كليهما، لتعريف مُصْطلَح: "المُثّقَّف"، ولاقتناص صفاتٍ ونُعُوتٍ تُضَافُ إليه، فَتَحُدُّدُه، وتُفْصِحُ عنْ جَوهَرِ ما يُرادُ لَهُ أنْ يكتنزهُ، موحِيًا بِه أو مُفْصِحًا بِجلاءٍ عَنه، من مُنطَوياتِ مفهوميَّةٍ تستجيبُ لِمُكَوِّناتِ وعيِ هذا المُتَبَصِّر، أو ذاكَ، وتُبَلِّور رُؤْيَته لِذاتِهِ، ومجتَمعه، والعالم، بِوصْفِهِ مُثَقَّفًا ذا ماهِيَّةٍ، وهُويَّةٍ، ومهَمَّاتٍ اجتماعِيَّة، وأدوارٍ إنسانيَّة، حَيَاتيَّةٍ ووُجُوديَّةٍ، مُتَمايزةٍ ومُمَيَّزة.

ولئن كانت الكلمةُ: "مُثَقَّف"، في أصل نشأتِها واستعمالها وعلى تَعدُّد ردائفها في الثَّقافات الإنسانيَّة المُتنوِّعة، "صِفَةً" تُلْحَقُ باسمِ كائنٍ بشِريٍّ أدرك بِذْرةَ إنسانيَّتِهِ وشرعَ في تنميتِها إذْ شَرعَ في إِعمالِ عقْلِهِ على نَحوٍ استجابَ لِفِطْرَتِه ومقتضياتِ إنسانيَّتِه الكابِحَةِ؛ الانقياد البشَريّ الشَّرطيّ لفَورانِ الغرائزِ البشريَّة الحيوانيَّة؛ فَقدْ كانَ لصيرورةِ هذا الإعمالِ أنْ تُؤَهِّلَ هذا الكَائنَ للشُّروع في وعيِ ذاتِه عبرَ إنتاجِهِ ثَقافَةً مَعْرِفيَّةً، ووسائلَ إنتاجٍ عَمَليَّةٍ، تُمَكِّنُهُ من إثراءِ حياتِهِ، ونُشدانِ تَحَقُّقِهِ الوجوديِّ، ومِنَ السَّعي اللَّاهبِ لإدراكِ هذا التَّحقُّقِ كإنْسَانٍ شَرعَ لِتَوِّهِ في الانفصالِ عن الطَّبيعَة وكائناتِها الحيوانيَّة والنَّباتيَّة والجامدة، وفي تمييزِ نَفْسِهِ عنْ غيره من الكائناتِ البشريَّةِ الَّتي لَمَّا تُدرك بِذرةَ إنسانيَّتِها بَعْدُ، أو الَّتي أَعْمَلَتْ عقلَهَا البَشَريَّ على نَحْوٍ غرائزيٍّ جَشِعٍ يُجافي فِطرةَ العقل الإنسانيِّ، ومنطِقَهُ، ومقتصياتِ إعمالِه؛ فلا يُفْضِي إِعْمَالُهُ من قِبلها على هذا النَّحوِ إلى تسخيرهِ، بِخُبْثٍ وخِسَّةٍ، لملاحقةِ إشباعِ غرائزَ بشريَّةٍ حيوانيَّةٍ مُتفاقِمَةِ الجشِع، ويُجافيهَا العقلُ الإنسانيُّ الوقَّادُ، ويَعْملُ بدأبٍ على كَبْحِها، فَحَسبُ، وإنَّما إلى إثارة فورانِ هذه الغرائز العدوانيَّة الفاتِكَةِ على نحوٍ مُتواترٍ ومتصاعِدٍ يُحِيْلُ الكائنَ البشريَّ المأخُوذَ بِها إلى مَحْضِ وحْشٍ بشريٍّ يَتأبَّى الحيوانُ الطَّبيعيُّ، بِفِطْرتِه، أنْ يَكونَهُ، اللَّهُم إلَّا فيما ندرَ، وتَحْتَ وطأةِ الجُوعِ المُهْلِكِ وانعدام القُوتِ، وتهديد الحياةِ بالموتِ وتعديم الوجود، فحسب!

ومع أنَّ تَحوُّل الكلمةِ الصِّفَة: "المُثَقَّفِ" إلى "اسمٍ"، أو إلى "مُصْطَلَحٍ مفهوميٍّ"، لم يتحقَّق، على مستوى البلورةِ والتَّداول والشُّيوعِ في اللُّغة والمجتمع والثَّقافة التي ابْتُدِعَ في نطاق تَفَاعُلِ مُكَوِّناتها المفتوح، لينتقلَ، من ثَمَّ، إلى مجتمعات العالم ولُغاتِهِ وثقافاتِهِ الأُخرى، التي أوجبَ تصَدِّيها الفَعَّالُ للتَّحَدِّياتِ الحياتيَّة والوجوديَّة التي تُواجهها أنْ تستلْهِمهُ وتوظِّفَهُ في إنهاضِ وعيها الإنسانيِّ وإطلاقِ نضالها الجمعيِّ، إلَّا في زَمنٍ قريبٍ يَقْتَرنُ بتطوّراتٍ أنتجتها النَّهضَةُ الأوروبيَّة، وحركة الإصلاح الدِّيني، وبمبادئَ وقيمٍ أرساها "عَصْرُ الأنوار"، فقد ظلَّت ردائِفُها اللُّغَويَّةُ والاصطلاحيَّةُ التَّاريخيَّةُ القديمة، تلكَ المُتنوِّعَة، والمُتَعدِّدة المنطويات المفهوميَّة وأشكال الصَّوغ، والمُتحَوِّلِةُ على نحوٍ يستجيبُ لمنطقِ تطوّر المجتمعات وصيرورة الثَّقافَة، وتنامي المعرفة، وتنوُّع المهنِ وتعدُّدها وتوالي انبثاقاتِها، قَائِمةً ومتداولَةً في الكتب على تَنوُّعِ مجالاتِها المعرفيَّة والإبداعيَّة، وفي حَيَوات النَّاسِ على تغايُر الشُّروطِ الاجتماعيَّة والتَّاريخيَّة الحاكمة مجتمعاتِهم، حَتَّى يومنا هذا.

وجليٌّ أنَّ منطِق الصَّيرورة والتَّحَوُّل قد أَوجبَ التَّعَمّق في فَهم المنطويات المفهوميَّة، وإدراكِ الشُّروط الاجتماعيَّة التَّاريخيَّة، وتَعرُّف المعطيات الثَّقافيَّة والمُحَدِّدات اللُّغَويَة، لقديم الأسماء والنُّعوت والصِّفات والمُحَدِّدات الموازيَة، بُغْيَةَ ضَفرِ مُكَوناتِها الجوهريَّة في الاسم الاصطلاحي الجديد: "المُثَقَّف" الذي أراد لَهُ بَعضٌ من أبرزِ المُفكِّرينَ الذي أسهموا، على تَنوُّع مجالاتِ إنتاجهم المعرفيِّ وتوجُّهاتِهم الفكريَّة وأنشطتهم الإبداعيَّة في صَوغِه، أنْ يكتنزَ جوهرًا كُلِّيًّا؛ هُوَ جَوْهَرُ "الإنسانِ الإنسانِ العَارفِ والفَعَّال"، وأنْ يَكونَ مُعَولَمًا على نَحوٍ يِتأسَّسُ على عَولَمةِ منظومَةِ المبادئ والقيم الإنسانيَّة الجَامِعَة التي تُؤسِّسُ ماهيةَ "المُثَقَّف" المُسَمَّى بِه، وتمنحَه مُكوّنات هُوِيَّتِه، وتُحَدِّدُ وظائِفَهُ الصَّميميَّةَ واجبَةَ الأداءِ مِنْ قِبَلِه إزاءَ ذاتِه، ومُجتَمعِهِ: أفرادًا وجماعاتٍ، وإزاءَ عالَمِه المُتَعَدِّدِ الأعراق، والمجتمعاتِ، والثَّقافاتِ، واللُّغاتِ، وأنماطِ الوعْيِ، وأساليب الحياة، والرُّؤى، والخِيَارات.

***

وإنَّها لَمُفارَقَةٌ لافِتَةً، ودَالَّةٌ إلى حَدٍّ بَعيدٍ، أنْ يرتبطَ ظُهُور الاسم الاصطلاحي: "المُثَقَّف"؛ L’intellecuel؛ The Intellectual" في دلالتِه على الإنسانِ المُثَقَّفِ، ذكرًا كان أم أُنثى (مَع أنَّ صَوغ المُصطلحِ بالفرنسيّة قد اتَّسمَ بالذُّكوريَّة!)، باحتدام التَّوتّرات الاجتماعيَّة والمواجَهات الفكريَّة السياسيَّة التي سبَّبتْ حادثَةُ اعتقال الضَّابط الفرنسي، اليهوديِّ الدِّيانَة، البريء بَدْءًا ومُنْتَهَىً: "آلفريد دريفوس Alfred Dreyfuse"، وإدانته بتهمة خيانة الوطن والحكم بنفيه إلى "جزيرة الشَّيطان"، والتَّستُّر، بوسائلَ مُخادعةٍ شتَّى ولأسبابٍ تتعلّق بتماسك المؤسِّسة العسكريَّة عبر الحيلولة دون إدانة رؤوسها، على الخائن الفعلي المُقدَّم "إسترهازي"؛ قائد كتيبة المشاة، الذي تمَّت تبرئته في محاكمةٍ عسكريّةٍ صُوريّةٍ مَع أنَّه، بعلم من بَرَّؤوهُ، هو الخائنُ المشانُ، بالأدلَّة القاطعة، بتهمة الخيانة النَّاجمة عن ضُلوعه في التَّجَسُّس لصالح النَّازيَّة العنصريَّة الألمانيَّة، اندلاعها في فرنسا، ولا سيّما في عاصمتها باريس قُبيل، ومَع، وعُقبَ الرَّابع عشر في كانون الثاني (يناير) 1898 الذي هو يَوم صُدور البيان المُقتضب الذي نشرتْه مَجلَّةُ "الفجر l’aurore" بعد ثلاثة أيَّام من نشرها مقال إيميل زولا: "إنِّي أَتَّهم"، ودَعَتْهُ: "بيان المُثقَّفين"Le Menifeste des Intellectuls " وقَدَّمته ممهورًا بأسماء موقِّعيه الذين أعلنوا أنَّهم "يحتجُّون على انتهاك الأشكال القانونيَّة في محاكمة العام 1884، وعلى الألغاز التي أحاطت بقضيَّة "إسترهازي"، ويُصِرُّون على المُطالبة بالمراجَعة".

وقد جاء البيانُ ممهورًا بتواقيِع نُخْبَةٍ من "المُثقَّفين" الفرنسيّين، بالمفهوم الواسع للمثقَّف. وكان لِهذهِ النُّخبَة أنْ تُمَثِّلَ، وَفْقَ ما قد تَجَلَّى لاحقًا في أكثرَ من ثقافَةٍ وبلدٍ وسياق، نُواةً أُولى لِتشكُّلِ مجموعاتٍ نُخبويَّةٍ اجتماعيَّةٍ ثقافيَّةٍ تخترقُ جميع الطَّبقاتِ والبُلدان، وتتجاوز غايات تشكُّلِها، ومُحَفِّزاتِ انخراطها الحيويِّ في النِّضَال المجتمعيِّ والعالميِّ الثَّقافي والسياسي، مسألة الدِّفاع عن قضيَّةٍ فرديَّةٍ، أو مصالحَ فئويّةٍ أو طبقيَّةٍ أو وطنيَّةٍ مُعيَّنة، لتنهض بالدِّفاع عن حُرياتِ الإنسانِ الأساسيَّة وعن جميع حقوقه الَّتي تتضمَّن، بطبيعة الحال، حقوق الأفراد والشُّعوب والمجتمعات والثَّقافاتِ والأوطان، وحُرِّياتِهم، أي الحرّيات والحقوق المدنيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثَّقافيَّة وغيرها من حُقُوقٍ وحُرِّياتٍ إنسانيَّةٍ شاملِةٍ ومُتكامِلةٍ ومترابطة، وتتبادلُ التَّمرئي والتَّعزيزِ، وتتأبَّى على التجزئة والانتقاص، وتَفْقِدُ الوجود الكُلِّيَّ الفعليَّ إنِ انتهكَ، أو سُلِبَ، أو انْتُقِصَ، أو قُيِّدَ، أيّ حَقٍّ، أو حُريَّةٍ، منها. 

ولا تأتي المُفارقَةُ المُشار إليها من كَونِ أغلب أسلاف "المُثَقَّفين" الفرنسيّين الإنسانيّين المُتَنوِّرين الذين وقَّعوا البيانَ، وهَبُّوا مُنْخَرطينَ، مع غيرهم من إنسانِيِّ النَّاس، في حَراكٍ ثقافيٍّ سياسيٍّ عمليٍّ يُواجِهُ سُلطة الدَّولة: سياسيّة (الحكومة، مجلس الشيوخ)، وعسكريّة (وزارة الحرب، وهيئة أركان الجيش، والمجلس الحربي)، وقضائيَّة (القضاء العسكري)، وسلطة الكنيسة (رجال الدين، وأتباع حركة الجزويت اليسوعيَّة)، ومنظومات التَّعصّب العرقيّ والثيوقراطيّة (الأحزاب اليمينيَّة العنصريَّة الفاشيَّة)، للدفاع عن مواطنٍ فرنسيٍّ، يهوديِّ الدِّيانَة، أُدينَ وحُكِمَ عليه بلا ذنبٍ اقترفَهُ، أسلاف مُسيحيي الدِّيانَة، ومن المذهب الكاثوليكي؛ كما أنَّها لا تأتي من حقيقية أنَّ "الكنيسَة الكاثوليكية" كانت قد اعترفت، في زمنٍ سابِقٍ، بالدَّولة الفرنسيَّة الحديثة مُعتبرةً إيَّاها "ابنتها الكُبرى"، فيما ينصُّ الدستور الفرنسي الحديث، نقيضًا لذلك، على أنَّها دولةٌ علمانيَّةُ الجَوهرِ، ولا تقوم أُسُسُ بنيانُها الحيويِّ والدُّستوري إلَّا على مبدأ فصل الدِّينِ، فصلًا تامًّا، عن الدَّولة؛ وكذلك لا تأتي المفارقة مِنْ انطواءِ "بيانِ المُثَقَّفين"، وعلى رأسهم صَائِغُهُ الرئيسُ القاصُّ والمسرحيُّ والروائيُّ إميل زولا Emile Zola، وضمنهُم مفكِّرون، وسياسيّون، وأكاديميون، وعلماء متخصّصون في علومٍ علميّةٍ وإنسانيَّةٍ عديدة، ومبدعون أدبيُّون، ونقاد، كـ"أناتول فرانس Anatole France"، و"إميل دوكلاوكس Emile Duclaux (مدير معهد باستور العلمي)"، و"مرسيل بروست Marcel Proust"، و"ليون بلومLeon Blum "Jew ، و"لوسيان هير Lucien Herr"، على حقائق ومبادئ وقيم نطقها مُوَقِّعُوهُ من المثقفين باسم الحريَّة، والكرامة، والإخاء، والمساواةِ، والعدالة، وعقيدة إعمال العقل، والانتصار للحقِّ والحقيقة، وللوطنية الصَّافية مسكونةً بجوهر الإنسانيَّة الحقَّة، باعتبارِ أنَّ مطلبَ البيانَ يُعْطي الحقَّ في كامل الحريات والحُقوق الإنسانيَّة، ومن دون أدنى تمييز، لكلّ إنسانٍ فيما هو يعطيها لمواطنٍ فرنسيٍّ يهوديٍّ في لحظةٍ تاريخيَّةٍ تفاقمت فيها، في بعض البلدان الأوروبيَّة، ظاهرة تبخيسِ اليهود وتقذيرهم، استنادًا إلى أفكارٍ مُسبقةٍ موروثةٍ، تخييليَّة ومُضَلِّلة، وغير عقلانيَّة. وهي الظَّاهرة التي عُرفِت منذ العام 1879، أي قبل نحو عقدين ونيفٍ على ظهور "قضية دريفوس" وصدور مقالات إيميل زولا، و"بيان المثقفين" الفرنسيين بشأنها، بالعبارة الاصطلاحيّة: "مُعاداة السَّامية" التي كان الصَّحافي الألماني "ولهلم مار" قد صَاغَها واستخدمها للدلالة على ما بات معروفًا أنَّها تدلُّ عليه.

لا تأتي المُفَارقة من كُلِّ ما سبق إيرادهُ، ولا ممَّا بيَّنته المقالات الصَّحافية المميزة الأربع، التي كتبها إيميل زولا حول "قضية دريفوس"، ولا سيما منها مقالته الرابعة: "إنِّي أتهم" التي تأسَّس "بيان المثقفين" على خلاصَة فحواها، والتي نُشِرْت في صحيفة "الفجر L’Aurore"، قبل ثلاثة أيَّام من صُدوره، ووزِّعت بكثافةٍ غير مسبوقة، كرسالةٍ مفتوحةٍ إلى الرئيس الفرنسي "فيلكس فورFaure  Félix" تناشدهُ، على الرَّغْمِ من إدراك مُرسلها، حقيقةَ كونه حبيس الدُّستور والمحيطين به من المستشارين، النُّهوضَ بـ"واجب الإنسان الذي عليه أنْ يَأخذه بالحسبان وأنْ يُؤَدِّيه"، وذلك "لإحقاق الحقِّ" بإخراج المواطن الفرنسي المدان بذنبٍ لم يقترفُهُ والمحكوم عليه بالنَّفي: "دريفوس"، من "جزيرة الشَّيطان" وإنقاذه من قبضِ مخالبه الضَّارية، وإعادته إلى وطنه: فرنسا؛ لا تأتي المُفارقة من كُلِّ ذلك وحسب، إنَّما تأتي في الآن نفسه، وفي حقيقة الأمر المشهودِ، من وضْعِ ذَلِكَ كُلِّه أمام مرآةِ ما تقترفُه الحركَة الاستعماريَّة الاستيطانيَّة الصُّهيونية العنصريَّة، وإسرائيلها اليهوديَّة، الزَّاعمتين، زورًا وبُهتانًا وبتماهٍ مُصطنَعٍ، تمثيلَ الدِّيانة اليهوديَّة والسُّلالة السَّاميَّة، من انتهاكاتٍ جسيمةٍ وجَرائمَ توحُّشيَّةٍ بشعَةٍ بحقِّ فلسطينَ وشعبها، والإنسانيَّة بِأسرها، في فلسطين التي تحتلَّها بقوَّة السِّلاح، أو بقوَّة "السَّيف الإله" وبدعْمه المتواصلِ وتمويله، وباسم "اليهود"، وبأيدي المُصهينين المُحوسَلينَ منهم، منذُ ما يربو على سبعة عُقُودٍ ونيِّف؛ أي أنَّها تأتي منْ تستُّر القوى الرَّأسماليَّة الليبراليَّة المتوحِّشة على الصهيونيَّة وإسرائيلها، وتحصينهما من المُساءلة، والمُحاكمة، والعقاب! وكأنِّي بالصُّهيونية وإسرائيل هما الموازيان الفعليان لـ"إسترازي" المُتَسَتَّرِ عليه والمُحصَّن، لأعوامٍ عديدة، من تلقّي العقاب الواجب على جريمته القُصْوى، فيما الفلسطيني هو "دريفوس" البريء، المُعَذَّب، والمُضَحَّى به، والمنفيُّ إلى "جزيرة الشَّيطان"، لا لذنبٍ اقترفه سوى أنَّه إنسانٌ إنسانٌ ملتحم بوطنه المستهدف بالسَّرقة؛ مُحبٌّ لآخريه من النَّاس؛ ومنهمكٌ في إثراء المعرفِة، وصُنْع الحياة، وإغْناءِ الوجود!

***

جَليٌّ، إذًا، أنَّ المُفَارقةَ المأساويَّة التَّوحُّشيَّة الفاجِعة لا تَتأسَّسُ، بكلِّ أعماقها وأبعادها وامتداداتها، على ما نقرأهُ نحنُ أو غيرنا من بعض تجلياتها، أو على ما تبصِرهُ أعينُ العالمِ بأسره من ممارسات "الصُّهيونيَّة العنصريَّة" المُمْعنَة في التَّوحُّش، والمُسَوَّغةِ بسرديَّةٍ تخييليَّةٍ عنصريَّةٍ مُسربلةٍ بالخُزعبلاتِ ومُسيَّجةٍ بأله سَيْف، وسيفٍ مُوَلَّهٍ، فحسب، وإنَّما تتأسَّسُ قبل ذلك وأثناءَه وبعده، على حقيقية أنَّ هذه الصُّهيونيَّة، كحركة سياسيَّةٍ استعماريَّةٍ فاشيَّةٍ وعنصريَّة، لم تَكنْ بِبعيدةٍ، من حيث دوافِعُ نشأتها وغاياتها والوسائل والأساليب التي اعتمدتها، التي لم تزل تعتمدها، لتحقيق هاته الغايات، عن الدَّوافِع الجوهريَّة الَّتي حَفَّزت نشأة رديفتها، المُزامنةِ نشأتها: "النَّازية العُنْصُريَّة"، التي حدَّدت غاياتها، وأملت أساليب تحقيقها ووسائله، حيث يَكونُ لهذه الحقيقة أنْ تُشَكِّلَ مُفارقةً حاسمةً مُتشعّبه الخُطوط والأضلعِ، وشديدة الوضُوح!

***

لقد حوَّلت الصُّهيونيَّةُ، باحتلالها فلسطين وإقامة "إسرائيلها" عليها بقوَّة "الإله السَّيف" أو "السَّيف المُؤَلَّه، حَوَّلت الأعم الأغلب من أبناء الشعب الفلسطيني وبناته الأبرياء المُعّذَّبين،  إلى "دريفوس" مُهَانِ الكرامةِ، مُقْتَلَع من وطنهِ، أو مُقَيَّدٍ مأسور في حيِّزٍ منه، أو مدفوعٍ للجوء، مسروق الأرض والبيت ومسلوب الحياةِ والوطن، إلى منافي الشَّتات بعيدًا عنها، أو إلى "هندي أحمر مُسْتَلب الوطن" والحياة، أو إلى "يَهوديٍّ" مُدان بذنبٍ لم يقترفهُ ومنفي في "جزيرة الشَّيطان" التي لم يُجَسِّد جحيمها من شيء في التاريخ البشري سوى هذه الإسرائيل العنصريَّة اليهوديَّة المتوحِّشَةِ!

فَهل لمُثقِّفي العالم الإنسانيّين، ولُكلِّ الإنسانيّين من النَّاس من كُلِّ الثَّقافات والأوطان، أنْ ينفتحوا على تفاعُلٍ حيويٍّ خلَّاقٍ يُمكنهم من التَّحوُّل إلى حَشْدٍ يعرفُ كيف يكون حشدًا عالميًّا واعيًا وفعَّالًا ومُثابرًا، ليتكفَّلُ بإنقاذ فلسطين، والإنسانيَّة الجوهريَّة بأسرها، من التَّوحُّش البشريِّ مُجسَّدًا في الصُّهيونيَّة العُنصريَّة، وإسرائيلها، وداعميهما؟