يتعرّضُ الشعبُ اليمنيُّ منذ الخامس والعشرين من آذار عامَ 2015، لحربٍ ظالمةٍ تقودُها السعوديّةُ والإماراتُ العربيّة تحت مسمى "عاصفة الحزم"؛ نتج عن هذا العدوان المستمرّ كوارثُ إنسانيّةٌ وجرائمُ حرب، وصفتها منظّماتٌ دوليّةٌ بأنّها من أسوأ الجرائم في التاريخ المعاصر.
لقد واصلت طائراتُ التحالف المعادي شنّ غاراتها المجنونة ضدّ المدن اليمنيّة وبنيتها التحتيّة على مدار سبع سنوات، ورغم وحشيّة العدوان إلّا أنّ الشعب اليمني الشجاع لم تنكسر إرادتُه، بل نجح في صدّ العدوان وفشلت القوى المعادية من تحقيق أيٍّ من أهدافها، بل إنّ هذا الصمود البطوليّ أسّس لبناءِ قوّةٍ عسكريّةٍ يمنيّةٍ لها حضورُها وتأثيرُها في ميزان القوى، ولم تعد صنعاءُ جزءًا من الحديقة الخلفيّة للرياض.
بعد هذهِ السنين الطويلة من الصراع يبدو السؤال منطقيًّا ومطلوبًا، لماذا هذه الحرب؟ هل هو صراعٌ يمنيٌّ - يمنيّ أم صراع على اليمن؟
للإجابةِ على هذا السؤال من الضروريّ أن ننطلق من الأسس التالية:
أوّلًا: إنّ قراءة ما يعيشه اليمن من احترابٍ داخليٍّ وعدوانٍ خارجيٍّ لا يمكن عزلُهُ عمّا يتعرّض له الوطن العربيّ من صراعاتٍ داخليّةٍ واعتداءاتٍ خارجيّة، وارتباط كلّ ذلك بمشروعِ الشرق أوسط الجديد الذي تسعى الولايات المتّحدة الأمريكيّة لفرضه على منطقتنا، الذي يستند إلى فكرة تقسيم الدول العربيّة من جديدٍ على أسسٍ طائفيّةٍ وعرقيّةٍ ومذهبيّةٍ وإعادةِ هندسةِ المنطقة بما يتناسبُ والمصلحةَ "الإسرائيليّة" وإشراكها ضمنَ نظامِ شرقٍ أوسطي تؤدّي فيه دورًا قياديًّا.
ثانيًا: تؤدي الجغرافية السياسيّة دورًا مهمًّا في تحديد مسارات الدول وتأثيرها على المستوى المحليّ والإقليميّ، واليمن بما يستحوذه من أهميّةٍ استراتيجيّةٍ على صعيد الموقع الجغرافي أو على الصعيد الاقتصادي، فهو يشرفُ على مضيق باب المندب الذي يربط بين البحر الأحمر والمحيط الهادي، إضافةً لما يمتلك من مساحةٍ شاسعةٍ وعددِ سكانٍ وثرواتٍ طبيعيّةٍ؛ كلُّ ذلك يجعل منه عمقًا أمنيًّا لدول الخليج، هذه العناصرُ ستسهمُ بشكلٍ فاعلٍ في الترتيبات الإقليميّة من جهةٍ، وفى التشكيل الجديد للنظام العالمي من جهةٍ أخرى.
ثالثًا: مهما كان تأثيرُ تلك العوامل، فإنّ فعلها يبقى محدودًا إذا لم تتوفّر العوامل الذاتيّة الداخليّة المفجّرة للصراع، فجذورُ الأزمة تعود إلى عام 2011، عندما انطلقت الاحتجاجات الشعبيّة وفى فترة ما يعرف بالربيع العربيّ ضدَّ نظام علي عبد الله صالح النظام الفاسد والمستبدّ، وما تعانيه الجماهير اليمنيّة من فقرٍ وبطالةٍ ومن إقصاءٍ وتهميش، كلُّ ذلك أسهم في تأجيج حالة الرفض الشعبيّ وفرض التنحي على الرئيس صالح.
لقد مثّلت تلك العواملُ بمثابة مرتكزات الحالة المتفجّرة لاحقًا، لكن ما شكّل الدافع لكلّ ذلك هو إخفاقُ القوى السياسيّة في التعامل الجاد والمسؤول مع مسألة الحوار الوطني، بالإضافة إلى شعور الحوثيين بالتهميش والإقصاء، الأمرُ الذي دفعهم للتحرّك ضدّ الرئيس عبد ربه هادي، الذي انتقلت إليه السلطة بعد تنحية على عبد الله صالح.
أدّى هذا التحرّك إلى استيلائهم على العاصمة ومناطق من اليمن وباتوا القوّة الأكثر حضورًا وتأثيرًا في الصراع، بالإضافة إلى تميّزهم عن غيرهم من القوى المتصارعة بالسعي لوحدة اليمن على الضدّ من المجلس الانتقاليّ، الذي يسعى لانفصال الجنوب على الشمال، وارتباطات هادي مع السعوديّة.
ومن الجدير ذكره أن ما يعانيه اليمن من فقر، جعله مسرحًا للأطماع الإقليميّة والعالميّة وأصبح المجالُ مفتوحًا كي تتصارع قوى إقليميّةٌ عليه وتتصارع قواه الذاتيّة ومن خلال تحالفاتها على تحديد مواصفات يمن المستقبل ودوره على المستوى الإقليميّ.
إنّ التحوّل الأبرز في طبيعة الصراع تمثّل بتموضع حركة أنصار الله في محور المقاومة واعتبار أنفسهم جزءًا من المحور الرافض للسياسات والمشاريع الأمريكيّة في المنطقة، هذا التموضع أحدث تحوّلًا في اتّساع تأثير ودور محور المقاومة، وبات الحديث عن محورٍ على امتداد جغرافية اليمن العراق وسوريا و فلسطين ولبنان وإيران. أصبح المحورُ لغةً واحدةً، وأصبح الموقف من التطبيع والمطبعين وما يسمى بالسلام الإبراهيمي ركنًا أساسيًّا في استراتيجيّةِ محور المقاومة، وهذا الموقف وهذا الاصطفاف أثار حفيظةَ السعوديّة والإمارات وما يسمى بالتحالف العربي.
فالسعوديّةُ وهي تشهدُ هذا التحوّل في اليمن وهي التي ضخّت الملايين في اليمن ليس للتعليم والصحّة بل لشخصيّاتٍ اجتماعيّةٍ وكياناتٍ حزبيّةٍ وشراء الذمم لإبقاء اليمن فقيرًا وتحت السيطرة السعوديّة لضمان التحكّم بقراره السياسيّ، هذا التحوّل في الموقف اليمني رأت فيه السعوديّة ضربًا لاستراتيجيّتها في اليمن، هذا الموقف المتمثّل بالرغبة بالتحرّر من كلّ أشكال الهيمنة وبناء الذات والالتزام بموقفٍ موحّدٍ لمحور المقاومة ضدّ الكيان الصهيوني، من شأنه تعزيز مشاعر المقاومة وإنعاش الشعور بقدرةِ الجماهير على التصدّي للمشاريع الأمريكيّة، والإصرار على الاستقلال وامتلاك السيادة ومنع كلّ أشكال التدخّل في شؤونهم الداخليّة.
إنّ حالة القلق التي انتابت أطراف التحالف بعد النجاحات التي حققتها أطراف محور المقاومة في اليمن وفلسطين وسوريا هو الذي دفعها للكشف عن عوراتها والهرولة للتطبيع مع العدوّ الصهيونيّ.
آفاقُ الصراع:
رغمَ كلّ المحاولات السعوديّة في إعطاء الصراع بُعدًا طائفيًّا وإلباسه لبوسَ الدين إلا أنّ هذه المحاولات فشلت فشلًا ذريعًا؛ لأنّ كلَّ الوقائع دلّلت على أنّ الصراعَ سياسيٌّ بالدرجة الأولى بين قوى ناهضةٍ تريد أن يأخذ اليمن دوره ومكانته التي يستحقّ، ومشروعٍ سعوديٍّ يسعى بكلّ السبل إلى عدم السماح لتلك القوّة الصاعدة من أخذ دورها، وإبقاء اليمن بمثابة الفناء الخلفي لها.
وممّا لا شكَّ فيه وجدير بالملاحظة أنّ تطوّرًا حصل بالنسبة لأنصار الله في رؤيتهم للصراع، من منظورٍ كان يستهدفُ في البداية تجاوز عمليّة التهميش والإقصاء التي كان يعاني منها الحوثيون إلى منظورٍ أشملَ يسعى إلى تغيير وجه اليمن وخياراته السياسيّة والاقتصاديّة.
ترافق هذا التغيير في الرؤية للصراع مع تطوّرٍ في طبيعة التحالفات وفى القدرات العسكريّة الصاروخيّة والطائرات المسيّرة، كلّ ذلك انعكس على القدرة على بناءِ جبهةٍ داخليّةٍ متماسكةٍ وقادرةٍ على خلق ظروفٍ مساعدةٍ على التعبئة لخوض معركةٍ طويلةٍ مع قوّات التحالف وأدواتهم في اليمن.
ولعلّ ما نشهده من تصعيدٍ مع بداية العام والقصف المجنون والأهداف المدنيّة من قبل قوّات التحالف تشير إلى مسألتين في غاية الأهميّة، الأولى: أنّ هذا الإجرام يدلّل على فشل قوات التحالف في تحقيق أيٍّ من أهدافها. ثانيًا: هذا التصعيد لا ينبئ بانفراج الأزمة، وأنّنا أمامَ صراعٍ ممتدٍّ وطويل.
والأمرُ الآخرُ يتمثّلُ في تباين الأجندات للدول التي تشارك في العدوان، كالسعوديّة والإمارات أو أخرى لها تأثيرٌ على مجرى الصراع كإيران، الأمرُ الذي سينعكس على مخرجاتِ أيّ تسوية. فالتحالفُ بقيادةِ السعوديّة سيقف ضدَّ أيّ تسويةٍ يمكن أن تعرقل أهدافه وطموحاته في اليمن، وهذا يعنى إطالة أمد الصراع.
ثمّةَ عاملٌ آخرُ يؤدي دورًا رئيسًا في تحديد مآلات الصراع وإمكانيّة التسوية؛ هو القوى الداخليّة المتصارعة؛ أنصار الله ومشروعهم المقاوم، والمجلس الانتقالي المدعوم إماراتيًّا في الجنوب ومشروعهم الانفصالي، وقوات عبد الهادي المدعوم سعوديًّا.
خلاصةُ القول: آفاق الصراع ومآلاته ترتبطُ بشكلٍ وثيقٍ في صمود وثبات مكوّنات محور المقاومة. إنّ ما يتحقّق على الأرض من نجاحاتٍ وتعاظمٍ لقوى المقاومة، من انتصارات الجيش السوريّ ونجاحه في تحرير الجزء الأعظم من الأراضي السوريّة والصمود الإيرانيّ في مواجهة الضغوط الأمريكيّة في مباحثات فيينا والانتصار الفلسطينيّ في معركة سيف القدس .. كلّ ذلك يبشّر بأنّ وجه اليمن سيرسمه المقاومون للمشروع الأمريكيّ وسيُهزم أتباعه والمطبّعون مع العدو الصهيونيّ.