Menu

ما الذي كشفه الصراع على أوكرانيا؟

حاتم استانبولي

الصراع على أوكرانيا هو أقل من حرب وأكثر من عملية عسكرية؛ فصراع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مع روسيا، أخذ طابع الحرب المتدرجة على عدة جبهات سياسية دبلوماسية واقتصادية وإعلامية وثقافية وتحمل في طياتها صراعًا خفيًا، يحمل بعدًا طائفيا، سوف يتطور إذا ما طال زمن الصراع العسكري.

الصراع من حيث الشكل مع الجيش الأوكراني، ولكنه بالجوهر مع دول الناتو وعلى رأسها الولايات المتحدة التي وقفت عاجزة أمام الجرأة الروسية التي أصابت دول الحلف والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبريطانيا واليابان واستراليا بحالة من الهستيريا.

الجيش الروسي كان قد أعلن عن أهداف العملية العسكرية الخاصة التي تتمحور حول حماية إقليم دونباس وتحييد أوكرانيا عسكريا وتصفية المنظمات النازية التي أصبحت جزءًا مقررًا في القوات العسكرية الأوكرانية.

السؤال الذي يطرح هل حققت العملية أهدافها؟

إذا ما رأينا مواقع تمركز القوات الروسية، نلاحظ أنها سيطرت على الشريط الشرقي والجنوبي وعزلت بحر آزوف الذي كان يشكل الخاصرة الرخوة لروسيا. برأي القيادة الروسية العملية العسكرية الخاصة، أحبطت الهدف الأوكراني الأطلسي لإطلاق عملية مفاجئة لاستعادة جزيرة القرم والسيطرة الكاملة على إقليم دونباس.   
عام ٢٠٢١ جرت محاولات عدة لخرق الشرط الروسي الذي كان يتطلب أخذ تصريح للعبور إلى بحر آزوف وتحديدا الى ميناء ماريوبول.
في ٢٣ -٠٦ ٢٠٢١، قبل بضعة أيام من بدء المناورات العسكرية في البحر الأسود، حاولت المدمرة البريطانية "إتش إم إس ديفندر"، اختراق المياه الإقليمية الروسية بالقرب من جزيرة القرم، مما استدعى إطلاق نيران تحذيرية من الزوارق الحربية الروسية ونفذت المقاتلة الروسية من طراز سو -٢٤ ام - إطلاق طلقات تحذيرية في مسار المدمرة، هذه الحادثة شكلت إنذارا مبكرا لما يخطط له حلف الناتو للتموضع السلس لإطلاق عملية عسكرية أوكرانية مدعومة من حلف الناتو لاسترجاع جزيرة القرم وَإقليم دونباس. في هذا الإطار، يوضع التحرك العسكري الروسي في أوكرانيا على أنه ضربة استباقية روسية لإعادة رسم خريطة النفوذ الروسي في محيط أمنها القومي الذي تجاهلته عمدًا الولايات المتحدة وحلف الناتو.

ردة الفعل الأمريكية والغربية خرجت عن المألوف وذهبت بعيدًا في تناقض مع قيمها السياسية والأخلاقية والإعلامية التي أطلقتها كمعيار لعلاقاتها مع الدول والنظم، لتعيد إلى الأذهان سلوكها خلال الأزمة السورية بدعمها الاتجاهات الأكثر إرهابية ورجعية.

ردود الفعل بما يتعلق بالعقوبات على الدولة الروسية كان مفهومًا، ولكن أن تتخطى ذلك إلى الأفراد وحقوقهم ومصالحهم الفردية أو إلى اللغة والثقافة الروسية والمؤسسات الإعلامية المستقلة التي حصلت على تصاريح للبث الإعلامي باللغات المحلية الفرنسية والإسبانية والألمانية، ووصلت الهستيريا لِمنع استخدام الحرف Z لكونه يؤشر للعملية الروسية. كل هذه الفوبيا غير مفهوم شموليتها، ولكنها توضح أن جوهر ردة الفعل يكمن في اعتبار أن ما أقدمت عليه روسيا الاتحادية، يقوض أسس النظام الذي بنته واشنطن وحلفائها على مدى عقود. هذا النظام العالمي الأمريكي الغربي الجديد، يرى أن شكل العلاقات القانونية الدولية القائم، أصبح يتعارض مع متطلبات استمرار هيمنته الاقتصادية والمالية والثقافية، هذه الهيمنة التي تتعارض مع شكل الدولة الوطنية في العديد من الدول، مثل: الصين وروسيا وبعض الدول الإقليمية، مثل: إيران و تركيا وجنوب إفريقيا والبرازيل وكوريا الشمالية وسورية وتركيا وفنزويلا والأرجنتين وإلى حد ما مصر.

منذ تفكك الاتحاد السوفييتي، عملت واشنطن وحلفائها عن وعي ِلتقويض سيادة الدول الوطنية المستقلة بالعقوبات الاقتصادية والغزو العسكري المباشر أو من خلال التلاعب في المكونات الداخلية للدول وتفكيكها وإعادة تركيبها بما يتوافق مع مصالح النظام العالمي الأمريكي الغربي. وكذلك، فالصراع على أوكرانيا أظهر النزعات العنصرية اليمينية الغربية التي تعاملت مع اللاجئين على أساس اللون والدين في تصريحات أثارت اشمئزاز بعض الوزراء المسؤولين عن الهجرة، بالرغم أن اللاجئين من أفغانستان و العراق وسورية وفلسطين، كانوا نتيجة لغزوات قامت بها الولايات المتحدة أو حروب محلية دعمتها الدول الغربية بالسلاح والمال.

والأكثر وضوحًا كانت التغطية للعمليات الفلسطينية الأخيرة التي اعتُبِرَت اعتداءً على إسرائيل التي تمارس عملية ممنهجة واعية لِتصفية القضية الفلسطينية، وفي هذا السياق، فإن السياسة الإسرائيلية تتوافق مع السياسة الأمريكية، لتقويض أسس القانون الدولي الذي يدين احتلالها وممارساتها التي تتعارض مع الحق الإنساني في تقرير المصير.

الصراع على أوكرانيا كشف جوهر التمييز العنصري الذي تمارسه واشنطن وحلفائها بشأن القضية الفلسطينية والحرب الإحلالية الإسرائيلية التي تتخذ من الرواية الدينية غطاء لتشريع عدوانها اليومي على الشعب الفلسطيني، أسقط الصراع على أوكرانيا القيم الغربية ووضعها في خانة التشكيك بمصداقية مواقفها ومعاييرها الأخلاقية والقانونية، فمنذ بدء الصراع على أوكرانيا مارس الغرب كم أفواه كل وسيلة إعلامية تحاول أن تظهر الرواية الأخرى، في تناقض مع القيم التي تروج لها حول الحرية الإعلامية وحرية الوصول إلى المعلومة وحق المواطنين التعرف على الصورة بأكملها. لقد مارست الحكومات الغربية، سياسة كم الأفواه الإعلامية التي كانت في العديد من المرات سببا لاتخاذ عقوبات لِنظمٍ تتهمها بِالشمولية والديكتاتورية.

إن استمرار الحملة الشاملة على كل ما هو روسي، سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا وإعلاميًا، وإلى حد ما دينيًا، يعطي مؤشرًا أن الصراع لن يكون له نهاية قريبة، وفي أي لحظة حساب خاطئ من الممكن أن يتدحرج لِيتحول إلى صراع شامل ومباشر مع واشنطن والناتو.

من جهة أخرى، كشف الصراع الجاري على الأرض الأوكرانية، مستوى تطور النزعات العنصرية والنازية في أوكرانيا وبولندا وألمانيا، ليمتد مداه ليصل إلى "المجتمع الإسرائيلي"، من حيث بين جناحيه الصهيونيين الديني والعلماني، اللذان تباين موقفهما من الصراع، من حيث الشكل كان الموقف الرسمي الإسرائيلي محايدًا إلى حد ما، ولكن في الجوهر هو ضد روسيا، وتجلى ذلك في الحملة الإعلامية الغربية والأمريكية، بدعم من اللوبيات الصهيونية المسيطرة على الماكينة الإعلامية الغربية التي ضغطت لفتح برلمان الاتحاد الأوروبي وجلسة الناتو وبرلمانات بعض الدول الغربية وإسرائيل وجلسة مجلس الأمن، ليتحدث فيها الرئيس الأوكراني. "الحيادية" الاسرائيلية لن تصمد كثيرًا وسَوف تؤدي إلى انهيار الحكومة، إذا ما طال الصراع واشتدت حالة الاستقطاب بين موسكو وواشنطن.

التقييم الأولي يوضح، أن الصراع على أوكرانيا، أدى إلى ظهور الخلافات بين الولايات المتحدة وبعض نظم الشرق الأوسط الذين رأوا أن الصراع حول أوكرانيا هي مناسبة لهم، لإعادة تقييم علاقاتِهِم مع واشنطن، حيث أن ردة فعل بعضها يحمل الطابع الشخصي، وبعضها يحمل إعادة التموضع، بعد الدرس الأفغاني الذي أظهر التخلي الأميركي الفج عن حكومة كابول الحليفة، في حين شاهدوا سرعة ردة فعل الموقف الروسي على أحداث كازاخستان لدعم نظامها.

الصراع وضح الاصطفاف الروسي الصيني لمجابهة انفراد الولايات المتحدة  الذي واجهته بسياسة العقوبات الاقتصادية مع حلفائها، هذه السياسة التي تواجه تحدي روسي صيني، سيطلق سياسة مالية واقتصادية من خارج المنظومة المالية الأمريكية المهيمنة. فإذا ما نجحت روسيا في سعيها لفرض الروبل كعملة لبيع النفط الروسي للغرب، سيوجه ضربة لسياسة الهيمنة المالية ويفتح الأبواب لفرض سياسة نقدية جديدة، تقوم على أساس معايير يفرضها مستوى تفاعل السوق مع القرار الروسي باستخدام العملة الوطنية في بيع السلع الوطنية للدول المصنفة معادية بلائحة الكرملين.

الدول الأوروبية تحاول توحيد صفوفها في رفض القرار الروسي، متذرعة بضرورة الالتزام بالعقود المبرمة، في حين قام الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بخرق كل القوانين المتعلقة بالاتفاقات القانونية الدولية المتعلقة بِالملكيات العامة والخاصة للدولة الروسية ومواطنيها.

إن النجاح الروسي بفرض الروبل كعملة لبيع المنتجات الوطنية، سيفتح الباب أمام الدول النفطية للخروج من تحت عباءة الدولار وانتهاج سياسة جديدة، لدعم قيمة عملاتها النقدية، مما يسقط احتكار الدولار واليورو في المعادلات النقدية، وهذا سيؤدي إلى إعطاء هامش من الاستقلالية لدول إقليمية، مثل: السعودية وإيران وتركيا ودول البريكس، ويعزز الموقف الفنزويلي، ويعيد طرح التساؤل: حول ضرورة البحث عن معيار جديد لتقييم العملات أو تغيير شكل سلة العملات مقابل الدولار ليعتمد شكلًا جديدًا لتقييمها، هذا الشكل سوف تفرضه حركة السوق ومتطلباته المستقبلية، بناء على نتائج الصراع على أوكرانيا.