Menu

مصر والسودان.. مقاربة بديلة

د. محمد السعيد إدريس

يوماً بعد يوم تتكشف مدى ضراوة الحرب الاقتصادية الأمريكية - الأوروبية ضد روسيا وردود الفعل الروسية المضادة لهذه الحرب. فقد أضحت هذه الحرب أقرب إلى "معارك كسر العظام" كل طرف يريد أن يكسر إرادة الطرف الآخر. لكن مخاطر وتداعيات هذه الحرب تتجاوز، يوماً بعد يوم، الحدود الضيقة لمجال الصراع العسكري الدائر على أرض أوكرانيا ومجال العقوبات والعقوبات المرتدة بين الولايات المتحدة وأوروبا وبين روسيا، وإذا استمرت هذه الحرب لشهور أخرى قادمة فسوف تتفاقم تداعيات هذه الحرب على كثير من دول العالم، سواء بالنسبة للارتفاع الجنوني في أسعار الحبوب: القمح والذرة والشعير وغيرها من المواد الغذائية نتيجة لتعثر وتعذر التصدير من أوكرانيا وروسيا، أو لتراجع بات مؤكداً في حجم الإنتاج الأوكراني من هذه المواد الغذائية "الاستراتيجية"، أو بالنسبة للارتفاع الجنوني أيضاً في أسعار الطاقة «النفط والغاز» بعد العقوبات الأمريكية على تصدير النفط الروسي وبعد القيود الروسية لتصدير الغاز إلى أوروبا.

روسيا تعيش مرارة العقوبات الغربية، لكنها تحاول أن تجعل أعداءها يتجرعون قدراً من هذه المرارة عبر تقييد تصدير الغاز الروسي إليهم أو فرض تسديد أثمانه بالروبل. وسبق أن عاشت إيران هي الأخرى وما زالت تعيش ضراوة عقوبات أمريكية ضدها بدأت منذ تفجر الثورة الإيرانية عام 1979. وقبل إيران تعرضت مصر في النصف الأول من عقد الستينيات من القرن الماضي لنوع من هذه العقوبات الأمريكية عندما رفضت القيادة الوطنية المصرية الرضوخ للمطالب الأمريكية التي كانت تستهدف النيل من استقلالية القرار الوطني وكان القرار الأمريكي هو معاقبة مصر بوقف معونات القمح الأمريكية إلى مصر. وهذا يعنى أنها ستكون معرضة لخطرين الأول هو صعوبة الاستيراد بعد أن أدت الحرب في أوكرانيا إلى التأثير على التدفقات التجارية المتجهة من منطقة «سلة الخبز» المهمة في البحر الأسود، مما أدى إلى إصدار تحذيرات بشأن نقص الإمدادات الحيوية من القمح والذرة وزيوت الطهي بدرجات كبيرة. أما الخطر الثاني فهو ارتفاع أسعار هذه المنتجات بسبب نقص المعروض في ظل تراجع الصادرات الأوكرانية وربما الروسية، وبسبب ارتفاع أسعار النقل العالمية نتيجة للارتفاع الكبير والمفاجئ في أسعار الطاقة. وزير المالية قال في مارس الماضي إن ارتفاع أسعار القمح في الأسواق العالمية سيؤدى إلى زيادة تكلفة واردات البلاد من هذه السلعة بقيمة تتراوح بين 12 و15 مليار جنيه في ميزانية العام الحالي 2021- 2022. وبسبب ذلك أيضاً ارتفع سعر طن القمح المحلى في مصر بأكثر من 1100 جنيه عن العام الماضي، بعد رفع سعر توريد القمح إلى 885 جنيه للإردب لأسباب كثيرة منها ارتفاع أسعار الأسمدة، لكن الأهم هو «نقص المعروض العالمي». نقص المعروض العالمي من السلع الغذائية يجب أن يكون «جرس إنذار» شديد الوطأة بالنسبة للحكومة المصرية وكل أجهزة الدولة المعنية، حيث يجب النظر إلى هذه السلع باعتبارها «سلعاً استراتيجية»، ليس هذا فقط بل يجب التعامل معها باعتبارها «أمنا قوميا»، فإذا كانت تعريفات التنمية والتقدم كثيرة منها ما يتعلق بالدخل القومي الإجمالي ومنها ما يتعلق بمستوى دخل الفرد، لكن دخلت مؤشرات أكثر أهمية أبرزها ما يعرف بـ «جودة الحياة»، أي مجمل مؤشرات التقدم والتحضر، فإن الاستقلال الوطني وثيق الصلة بمؤشرات التقدم والتنمية لا يتحقق إلا في ظل شروط توافر الاكتفاء الذاتي الوطني من سلع استراتيجية ثلاث هي: الغذاء والدواء والسلاح.

مصر التي استوردت 12.9 مليون طن من القمح عام 2020 للحكومة وللقطاع الخاص بقيمة 3.2 مليار دولار، اتجهت هذا العام إلى زراعة 3.62 مليون فدان من القمح للموسم الحالي 2022، بما يمثل المساحة الأكبر على الإطلاق، وبما يعنى أن مصر تتجه إلى السير في الطريق الصحيح بتقليل الاستيراد من الخارج لهذه السلعة الاستراتيجية، الأمر الذي يفتح باب الأمل للتفكير بطريق أكثر جدية لكيفية أن تصل مصر إلى درجة الاكتفاء الذاتي من إنتاج القمح، خاصة ومجمل المواد الغذائية. هل تستطيع ذلك؟

الإجابة وردتني من الصديق العزيز الدكتور محمد حسب الرسول من السودان الشقيق الذي أعرفه منذ سنوات، باعتباره من القيادات البارزة في المؤتمر القومي العربي ونتشارك معاً في همومنا القومية. فقد أرسل لي هذا الصديق السوداني، دون سابق ترتيب، رسالة تحمل إجابة عن هذا السؤال في معرض استعراضه لتداعيات الحرب الأوكرانية على احتياجات مصر والسودان من القمح، حيث قال ما نصه إن الطريق لمعالجة النقص في سلعة القمح في السودان ومصر «يكمن في إقامة شراكة استراتيجية بين البلدين، يتحقق عبرها توطين زراعة القمح في السودان، الذى يعد موطنه التاريخي، وتوظيف المشروعات الزراعية الخاصة والعامة المنتشرة في مناطق تنتج القمح، من خلال ما يعرف بالزراعة التعاقدية التي يوفر عبرها أصحاب المشاريع الزراعية الأرض والمياه، وتوفر الدولة المصرية من القطاعين العام والخاص مدخلات الإنتاج، والعمالة الماهرة، والآليات الزراعية، ويتم اقتسام الإنتاج وفق النسب التي تتوافق عليها الأطراف». إجابة تفتح لنا مجدداً أبواب الأمل، وتعيد فتح ملف «المثلث الذهبي المصري- السوداني- الليبي» بتأسيس ما يعرف في أدبيات التكامل بـ «تجمع أمنى اقتصادي» Security Community ، يربط مصائر هذه الدول الثلاث بشبكة مصالح قوية متداخلة، تحول دون تفككها من ناحية، وتكون قادرة على النهوض بتحويل هذه الكتلة إلى «قاعدة أساس» في مشروع نهضوي أوسع، يحمى الإرادة الوطنية ويحقق الأهداف باعتباره مقاربة بديلة للاعتماد على الخارج.