Menu

المثلث الذهبي والإرادة الغائبة

د. محمد السعيد إدريس

تتجه الدول للاندماج والتحالف فيما بينها لسببين، أولهما وجود خطر حقيقي يهدد أمنها ومصالحها، وثانياً إدراك وجود مصلحة ومنفعة قوية تتحقق بالانخراط في مثل هذا التوجه. كثير من الدول دخلت في علاقات تكامل واندماج وتحالف لمواجهة مخاطر وتهديدات مشتركة. تاريخ الحروب الأليمة التي عرفها العالم مليئة بمثل هذه التجارب الاندماجية أو التحالفية بين الدول. أما الاتجاه للتكامل والاندماج بدافع من إدراك مصالح ومنافع حيوية مشتركة، فهو في حاجة إلى نمو في الوعي التكاملي الذي يفترض بدوره نمواً في الوعي بثقافة التنمية والتقدم والتكامل. تجربة الاتحاد الأوروبي تعد من أبرز التجارب العالمية بهذا الخصوص.

الأمر اللافت، أن مصر والسودان ومعهما ليبيا تعيش السببين بكثافة: تعيش كثافة المخاطر والتهديدات المشتركة، وتعيش حوافز التكامل والاندماج بشكل قد لا يتوافر لأى مجموعة دولية، أكثر من ذلك أن هذه الدول الثلاث سبق أن دخلت في عقد السبعينيات من القرن الماضي في تجربة اتحادية فشلت لأسبابها، ثم خطت خطوة متقدمة جداً، خاصة مصر والسودان، في مجال توفير "البنية التشريعية" اللازمة للانخراط في عمليات تكاملية واندماجية وعلى وجه التحديد "اتفاقية الحريات الأربع: حرية التنقل وحرية الإقامة وحرية العمل وحرية التملك" لرعايا الدولتين التي تم التوقيع عليها يوم 5/4/2004، ووافق عليها مجلس الشعب المصري يوم 31/5/2004، وصادق عليها رئيس جمهورية مصر يوم 3/6/2004، وصدر قرار وزير خارجية مصر بالبدء في تنفيذها يوم 8/9/2004، واتخذت الإجراءات نفسها في السودان، لكن مازالت هذه الاتفاقية شبه مجمدة حتى الآن، ولم تأخذ فرصة تنفيذها بين البلدين رغم مرور ما يقرب من عشرين عاماً من توقيعها جرت خلالها أحداث وتطورات كثيرة، ولو كانت تلك الاتفاقية وجدت الإرادة السياسية والدعم الشعبي الحقيقي لتنفيذها لكانت تجربة التكامل، بل ربما الاندماج والاتحاد قد وصلت إلى مستويات عالية، ولكان حالنا قد تغير كثيراً. ولنا في المخاطر المريرة التي نعيشها حالياً الكثير من الدروس والعبر سواء على مستوى التهديدات الإستراتيجية الأثيوبية لمصر والسودان معاً في مياه نهر النيل بسبب سد النهضة الأثيوبي، أو قيود استيراد القمح من أوكرانيا وروسيا وتفاقم صعوبات هذا الاستيراد بسبب ارتفاع أسعار القمح ومخاطر ما يعرف بـ "اختناق سلاسل التوريد"، والزيادات المخيفة في أسعار المواد الغذائية، في ظل تحذيرات صادرة عن البنك الدولي (الخميس 14/4/2022) تقول إن الحرب في أوكرانيا "تزيد من مخاطر حدوث اضطرابات اجتماعية وأزمات في الدول الأفقر في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بسبب ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة الناجم عن تلك الحرب".

دروس كثيرة باتت متراكمة أمام أعيننا تقول وتؤكد أن التعويل المصري وكذلك السوداني والليبي على توفير الجزء الأكبر من احتياجاتنا من الحبوب (القمح والذرة وغيرها) واللحوم وكل المواد الغذائية عن طريق الاستيراد أضحى محفوفاً بالمخاطر إما لتراجع المعروض من صادرات هذه المواد ، وإما لاختناق "سلاسل التوريد" أي طرق ووسائل نقل تلك المواد، وإما لأسباب أخرى كثيرة تزيد الأسواق الدولية لتلك المواد تعقيداً، كما أنها تقول وتؤكد، وربما تصرخ بأعلى الأصوات أنه لا بديل أمامنا إلا الاعتماد على الذات وتوفير غذائنا على أرضنا وداخل أوطاننا، وهذا يدفعنا للسؤال: لماذا لم يتحقق الاندماج المصري- السوداني حتى الآن على وجه الخصوص؟ لماذا لم يتم التنفيذ الكامل لاتفاقية الحريات الأربع حتى الآن، وهي الاتفاقية التي استهدفت إقامة «شراكة تكاملية استراتيجية» بين البلدين على النحو الذي أرادته اللجنة العليا المشتركة؟ هذه الاتفاقية أقرت إقامة وتنقل ودخول من وإلى مصر والسودان بجواز سفر ساري المفعول أو أي وثائق أخرى يتم الاتفاق عليها من الطرفين في أراضي الدولتين، كما أقرت بتمتع مواطني البلدين لدى الآخر بحق العمل ومزاولة المهن والحرف والأعمال المختلفة، وبحق التملك والانتفاع بالأراضي والعقارات والمنقولات والتصرف فيها، وإنشاء الشركات والشراكات، كما اتفق على اتخاذ الإجراءات التشريعية والتنفيذية اللازمة لتطبيق ذلك. لم تكتف الاتفاقية بذلك فقط بل حرصت على تأمين الحقوق المكتسبة لأى من مواطني البلدين بموجب هذه الاتفاقية في حالة إنهائها لأى سبب من الأسباب، كما عملت على إنشاء لجنة فنية مشتركة بين الجهات ذات الاختصاص في البلدين لمتابعة تنفيذ الاتفاقية وتذليل العقبات، ورفع تقارير دورية عن ما تحقق من إنجازات ترفع إلى اللجنة الوزارية العليا. الأمر المؤكد أن هناك أسباباً خارجية مكثفة عرقلت تنفيذ هذه الاتفاقية، ناهيك عن الأسباب الخاصة بالعلاقة المتذبذبة بين البلدين، إضافة إلى الظروف والتطورات الداخلية، لكن كل هذا رغم أهميته ما كان له أن يحول دون تنفيذ الاتفاقية لو توافرت الإرادة المطلوبة، ولو تحول أمر الاندماج والتكامل بين مصر والسودان وليبيا في مرحلة لاحقة، إلى مطلب وإرادة شعبية، وهذا ما يجب أخذه في الاعتبار في ظل وعى يجب أن يسود على المستويين الرسمي والشعبي في الدول الثلاث يقول إن كل دولة من الدول الثلاث عمق استراتيجي للدولتين الأخريين: السودان عمق استراتيجي لمصر وليبيا ومصر عمق استراتيجي للسودان وليبيا، وليبيا عمق إستراتيجي لمصر والسودان.

الدول الثلاث تمتلك كل مقومات التكامل: السودان سلة الغذاء العربية الكبرى تملك المياه والأرض الصالحة للزراعة، ومصر تملك الخبرات والطاقات البشرية، وليبيا تملك القدرة على توفير الاستثمارات اللازمة للنهوض بالتكامل، لذلك فإن اسم "المثلث الذهبي" على التكامل المصري ـ السوداني ـ الليبي لم يأت من فراغ، إذ أنه سيجعل من الدول الثلاث في حال تحققه، مركز ثقل عربي أضحى ضرورياً للحفاظ على النظام العربي المهدد بالانهيار والتفكك أمام صيغ أخرى بديلة ومنافسة. كما أنه القادر، دون غيره، من خلال تعظيم علاقات الاعتماد المتبادل بين الدول الثلاث، على توفير الاكتفاء الذاتي من الغذاء، ناهيك عن توفير المنعة والمكانة اللازمة لمعالجة الخلل الاستراتيجي في العلاقة مع إثيوبيا.