يمكن فهم الجدل حول التعامل مع المعلومات والعمل الإعلامي في الحالة الفلسطينيّة كامتدادٍ للتعقيد المتزايد للصراع، وانعكاس لوحشية العدو، فما تنظمه القوانين في مجتمعات أخرى بشأن الخصوصيّة والنشر والتصرّف في المعلومات، يبدو في فلسطين مغايرًا ويخضع لظروف مختلفة تفرضها حقائق الصراع، تلك الظروف التي لم تناقشها أو تتناولها القوانين الفلسطينيّة؛ قوانين سنّت لمجتمع متخيّل، لا احتلال ولا مقاومة ولا صراع تناحري فيه، فعلى عكس المتعارف عليه بكون القوانين تعبير عن حاجة مجتمعيّة ومحاولة لمواجهة تحديات في الواقع القائم، فإنّ قوانيننا الجميلة يمكن أن تشكّل فصلًا في كتيّبٍ نظري عن التشريع، لكنها بالتأكيد لا علاقة لها بواقعنا، وهنا لا داعي لمناقشة جنوحها للتقييد، فهذا جانب آخر.
هذا الواقع خلق على نحوٍ مستدام مساحة أزمات عامّة، أقرب ما تكون فجوة أضلاعها "القانون- السياسة- الإعلام"، وغالبًا ما تصدرت الحركة الوطنيّة بفصائلها لتعبئة هذا الفراغ بمقاربة لضرره الأشد وهو الضرر الأمني، وكون المعلومات سلاح أساسي في حرب العدو ضد الشعب الفلسطيني وقواه، سواء تعلّق ذلك بتحصيل المعلومات أو ضخها في الساحة الفلسطينيّة، ومع ذلك فإنّ هذه المقاربة الأمنية أغفلت الكثير من الجوانب، كما أنّ تحوّلها لسلاح في الجدل الداخلي وعمليات حشد وضبط أو قمع الرأي العام الفلسطيني أخذها لأدوار متجاوزة بحق الأفراد والمجموع ولا تلائم الغرض المنشود.
ما يمكن قوله أنّ الصحفي الفلسطيني هو من مارس الضبط والتحديد لذاته ولمجتمعه فيما يتعلّق بالتعامل مع المعلومات في أغلب الأحيان، وفي ظل الاشتباك الدموي مع الاحتلال، والنشاط الأمني والاستخباري الكثيف لمؤسّسات العدو، وإذ تلقى الصحفيين الفلسطينيين نصيبهم من القمع الاحتلالي أو التشهير والغضب المجتمعي، فإنّهم قد كانوا جزءًا من أدوات المجتمع الفلسطيني وحركته الوطنية لمقاربة معضلة بدت أقرب لحيز اختصاصهم بحكم طبيعة مهنتهم. ومع تطوّر نماذج جديدة من الفعل النضالي والفدائي، باتت تلك القوالب الإجرائيّة أو العادات المتبعة بشأن المعلومات غير صالحة، فالعملية ليست نتاج لفصيل حتى ينتظر الجمهور بيانه، والمنفذ غالبًا منفرد، وعمليات الترجمة الفوريّة أحالت نصف الفلسطينيين لخبراء في شأن العدو وإعلامه.
تعدّد جهات وأشكال النشر، وطفرة التدفق المعلوماتي، وتحول كل فلسطيني لجهة نشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يعني أنّ "التعليمات الأمنية" وكتيبات وتعميمات الفصائل لعناصرها ليست الوصفة المناسبة لمقاربة هذه المسألة، بل إن القول بأنّ هناك رأيًا قطعيًا بشأن ما يجب أن يتبع بالعموم أو في كل حالة هو تجني على الحق العام، فهناك نقاش مجتمعي يجب أن يتقدم كل طرف لمساهمته وواجبه فيه، وإلى حينه قد يكون التزامنا الأساسي كضحايا لهذا الاحتلال، ألا نمنحه أي شيء، لا معلومة ولا إصغاء، وأن يتطوّع أي طرف ليخفض صوت الحفل الصاخب لببغاوات ترجمة العدوان المنطوق والمكتوب.