Menu

جارتي الخارقة وأحزان فيروز وفرنسواز هاردي

-

سناء الخوري

أغلي القهوة، وأتفرّج على ما تتيح مساحة شباك المطبخ، غير المحجوبة بكتل الباطون، رؤيته. في اللقطة البعيدة، طرف موقفٍ سيّاراتُه تُوَلوِل معظم الوقت، ويتأخّر أصحابها دوماً في إسكاتها. وفي اللقطة القريبة، شرفات مطابخ الجيران. يتركون المكانس، والمماسح، وسلال البصل والثوم في الخارج، ويوصدون الشبابيك والأبواب.
تدع العاملة الأجنبيّة في بيت الجيران، شباك وباب مطبخها مفتوحَيْن، كأنّها ترحّب بالتلصّص على فالسها السائر وفق خطوات محكمة الألق. صناديق بطاطا، وأكياس بندورة وخسّ، ولا أدري ماذا بعد. كميّات سأجهل حتماً التعامل معها، أو حتى التفكير باحتمال حشرها في البراد. تغسل كلّ نوع على حدة، تنظّف البطاطا من التراب، تفرط حبوب البازلاء في أكياس صغيرة، تسلق ما يبدو لي من هنا أنّه هندباء، تعصرها، تجعلها كرات بأحجام متساوية، تلفّها بالنايلون، وتصفّها في الثلاجة، ترمي الفضلات فوق ورق جرائد مفروش على الأرض.

أحياناً وأنا أغلي القهوة، أجدها منهمكة بتنظيف الخزائن. تفرغها من الصحون والأكواب، وبيد لاعبة خفّة، تمسح الغبار عن الخشب، ثمّ تعيد كلّ غرض إلى مكانه، من دون أن تكسر شيئاً. لن نخبر أمّي بذلك. أحياناً يصدف أن أغلي القهوة، فأجدها تنشر مماسحها على حبل الغسيل. مماسح بيضاء، كأنّها لم تُستَخدم بعد.

إن صادفتها في الشارع، لن أميّز وجهها، لأنّي أراها غالباً من الخلف، بزيّ أزرق، مكويّ، وشعرها جدائل مضمومة. ربما لا تغادر المنزل في أيّام العمل، وفي يوم العطلة، حين تخرج، ترخي شعرها على كتفيها، وتخلع «زيّ الخدم». أظنّ أحياناً أنّي أنسُبُ لها قدرات لا تمتلكها. أتخيّلها مثل مدبّرات المنازل في المسلسلات المكسيكيّة المدبلجة، لا تعرق، ولا تفشكل ملابسها، ولا تنبش شعرها، ولا تضيع أو تتهاوى وسط أكوام الخضار. وربما يكون صوتها رخيماً، وحين تحكي، فبنبرة مثل نبرة جولي أندروز.

الأكيد أنّها في مثل سنّي، قبل الثلاثين بشهر أو بعدها بشهرين، لكنّها تبدو أكثر تماسكاً بكثير، لهذا سميّتها بطلتي الخارقة. ففي الوقت الذي أستغرقه لإعداد القهوة، وتفقّد «فايسبوك» و«تويتر»، وترك السائل الأسود يُغرِق سطح الفرن، تكون هي قد وضّبت الخضار، ومسحت الأرض، وصارت حواف مطبخها تلمع وترنّ.

في كلّ مرّة أصدفها منهمكةً وسط أشيائها، تنعقد في ذهني مقارنة سريعة بيننا، وأحسدها على «دبّارها» (مرادف حسن التدبير بعبارة جدّتي). أحاول تجنّب المقارنة، فلا أفلح، وأغضب من نفسي، لأنّي كما يقولون «الأكثر حظّاً» هنا، و «صاحبة الامتياز»: في بيتي، ووسط أهلي، وأن يحجز ربّ عمل جواز سفري، أو يطلب منّي تنزيه كلبه، احتمال بعيد. أمقتُ المقارنات الغبيّة حين تخرج من فم ذوي الامتياز، تقهرني، تستفزّ حقدي الطبقي الجاهز دوماً للانفجار رغم قمعي الشديد له. أخاف أن تجرّني غريزة «عهر جذب العطف والاهتمام»، إلى دائرة المقارنات الغبيّة تلك، أخاف أن تعميني عن رؤية المشهد كاملاً، أخاف أن تنسيني كيف أخجل من نفسي.

ورغم كلّ ذلك، ومع أنّي أجهل اسمها، ولا أراها إلّا عندما تدخل في مدى بصري حين أغلي القهوة، لكنّي أشعر أنّنا توأمان في الروح. نعيش في عالمَيْن مختلفَيْن، ولكنّنا نلتقي على حافّتيهما، في المربّع ذاته: امرأتان مطحونتان لمجرّد «الانوجاد» في هذه المدينة، ولمجرّد الاضطرار على تحمّل الحياة عموماً، الحياة كما هي، كما يضطر الناس جميعهم على تحمّلها حين يحارون أمام سؤال «هل كبرنا حقّاً، أم أنّنا لا نزال صغاراً؟».

يبدو أنّ جارتي حسمت أمرها، وكبرت، وكبر معها التركيز في «الأشياء اليوميّة»: الاستيقاظ من المحاولة الأولى، وإعداد الطعام، وترتيب المنزل قبل انتصاف النهار، والردّ على الهاتف، والتكلّم مع الآخرين من دون إجهاد، والعناية بنبتة. لا شيء يبهرني في جارتي الخارقة، بقدر النبتة المزهرة على شرفتها. أزهارها بيضاء، تشبه الأقحوان، ولكن أكبر. لا أعرف نوعها. لم تزهر عندي نبتة أبداً. كلّها تموت. كأنّي «عزرائيل النبات». كان هناك زنبقتي المرحومة سلام. أحضرتها صديقة إلى مكتبي مزهرةً. كانت تلك المرّة الأخيرة التي أراها فيها مزهرة. ذبلت وماتت. وكان هناك شجرة «بونزاي» هديّة من صديقة أخرى، أسميناها «ما يستاهلوشي». صمدت أسابيع في المكتب، وانطفأت. مرّة بدت لي «ما يستاهلوشي» عطشى، فسكبت عليها قنّينة مياه مثلّجة، كانت كلّ ما وقع تحت يدي في لحظة الحنان تلك. تجمّدت جذورها على الأرجح. رميتها في الزبالة. يأستُ بعدها من محاولة إثبات أنّي أفقه شيئاً في تربية النبات، وصارت أغنية فرانسواز هاردي «صديقتي الوردة» تقع على قلبي مثل سكين. ماذا تقول الأغنية؟ تنقل المغنيّة حديثاً دار بينها وبين وردة. أخبرتها الوردة أنّنا أشياء قليلة، وأنّ قلوبنا عارية، وأنّنا سنصير غباراً في المساء.

لسنوات طويلة، وجدت تلك الأغنية بليدة، مثل كلّ الكنايات عن الورود الذابلة والأعمار الهاربة. ثمّ، في يوم من الأيّام، فهمتها، ومن دون مقدّمات، صرت أحسّ بها تحت جلدي. «الأغاني تحكي الحقيقة»، تقول ماتيلد في فيلم تروفو «المرأة في البيت المجاور». تجلس ماتيلد في فراشها داخل المصحّ النفسي، وعشيقها برنار على كرسيّ مجاور، يضع بطّاريات في الراديو، كي تسمع المريضة الأخبار، وتموّه عن نفسها. تخبره أنّها لا تسمع الأخبار أبداً، بل الأغاني فقط، لأنّ الأغاني تقول الحقيقة، و «كلّما كانت الأغنية حمقاء، كانت حقيقيّة أكثر. لكنّها ليست حمقاء، الأغاني. ماذا تقول الأغاني؟ تقول: «لا تتركني»، «غيابك حطّم حياتي»، «أنا بيت خالٍ من دونك»، «دعني أصر ظلّ ظلّك»، و «من دون حبّ نحن لا شيء».

يتطلّب الأمر لحظات فارقة، غير مرئيّة، وغير مفهومة، لكي تكتسب الأغاني الحمقاء، معنى. «قديش كان في ناس، ع المفرق تنطر ناس، وتشتّي الدني، ويحملوا شمسيّة... وصرلي شي ميّة سنة مشلوحة بهالدكان، عم ألّف عناوين، مش معروفة لمين، وضجرت منّي الحيطان، ومستحية تقول، بكرا لا بدّ السماء ما تشتّيلي عالباب، شمسيّات وأحباب...». انتبهت منذ مدّة إلى أنّي لا أعرف كلمات هذه الأغنية جيداً. في تسجيل «قديش كان في ناس» القديم، تقول فيروز «شمسيّات وأحباب». وفي التسجيل الحيّ الأحدث (من حفلة «رويال فستيفال هول»/ لندن)، تقول «شمسيّات وأحزان». تلخبطت الستّ بين الأحباب والأحزان، وربما لم تتلخبط، وربما، مع العمر، وجدت في كلمة أحزان، العبارة الأدقّ لتعني أحباب. كم من سنوات مرّت بين التسجيلَيْن؟ عشر؟ عشرون؟

حين أصدرت فرانسواز هاردي أغنية «رسالة شخصيّة» في أواخر العام 1973، كانت قبل الثلاثين بشهر أو شهرين. تقول في لقاء صحافي، إنّ الأغنية «تروي بالضبط ما كنتُ أعيشه في تلك المرحلة، وما عشته طوال حياتي في الحقيقة». ماذا تقول الأغنية يا فرانسواز؟ تقول شيئاً مثل هذا: «على الجانب الآخر من الهاتف، هناك صوتك، وهناك الكلمات التي لن أقولها. تلك الكلمات التي تُخيف الناس، عندما لا تُضحكهم. يجب أن أكلّمك. أخاف ألاّ تسمعني. أخاف أن تكون جباناً. أخاف أن أكون متطفّلة. لا أستطيع أن أقول لك إنّي قد أكون أحبّك ربما. ولكن، إن تملّك منك قرف الحياة، وإن استقرّ فيك كسل الحياة، فكّر بي، فكّر بي».

على عتبة السبعين، تجلس هاردي بشعرها الأبيض بجانب البيانو وتغنيّ، رسالة شخصيّة أخرى، أعطتها عنوان «لماذا أنت؟» (2012). تقول: «أجهل إن كان ما أحبّه فيك، هو أنت. أفكاري مشوَّشة، وأنا مُنهكة. لماذا أنت؟ وذاك الدوار الذي يتملّكني فجأة، من أين يأتيني، أمنّي أم منك؟ أشعر أنّي لا شيء. لم أعد أقوى على الوقوف بشكل مستقيم. لن أحلّ أبداً معضلة رؤاي الضبابية عنك، وإن فشلت في حلّها، فذلك ليس بالشأن المهم أصلاً». كم من سنوات مرّت بين الأغنيتين؟ أكثر من نصف عمر فرانسواز هاردي؟ عمرها كلّه؟ كيف نقضي عمراً كاملاً في المربّع ذاته، نحكي المعضلة ذاتها بكلمات مختلفة؟ والأغاني الحمقاء؟ هل تخفّف من حمل القلق والدوار والأعمار الذابلة، أم تزيده لأنّها تعرّيه، ولأنّها تقول الحقيقة، ولأنّ الكشف دوماً أثقل من أن يُحتمل؟ ما الفرق إن كبرنا أو بقينا صغاراً؟ ما الداعي لكلّ تلك الحيرة؟ ما الداعي للتركيز في الأشياء، إن كان الضباب هو هو، والأحزان هي هي، قبل الثلاثين وفي السبعين؟ نصعد التلّة ذاتها، وننزلها، نغلي القهوة، ونسكبها...