Menu

عن التغييرِ واللُّغةِ العَمياء

قراءةٌ في رؤيةِ غسان كنفاني نثرات من كتاب تحت الطبع

وليد عبد الرحيم

قراءةٌ في رؤيةِ غسان كنفاني نثرات من كتاب تحت الطبع

عن التغييرِ واللُّغةِ العَمياء

قراءةٌ في رؤيةِ غسان كنفاني

نثرات من كتاب تحت الطبع

غسان كنفاني ليس اسماً أو فرداً مجرداً، إنه منظومةٌ متكاملةٌ من الفكر والفلسفة والحلم والأدب والروح الثورية الصادقة، وهذا سر اتساع التقاطنا الحسي الفطري لمفرداته وما خلفها، إنه يعجن التفاتةَ و دمعةَ أم شهيد أو أسير مع حلم جمهورية أفلاطون واشتراكية ماركس ووجودية سارتر، ليشكل اللغة الغسانية الطازجة، ليخلق بالتالي أماكنه الخاصة التي تفتح أبواب السؤال.

في جُل نتاجه الأدبي والفني فإن غسان يبوح، هنا في هذه المادة التي بين أيدينا لا يبوح فقط، بل ها هو يقول!.

يَطالُ ما يرمي إليه في هذه المادة مسألةَ الشبابِ والتطوير والمأسسة والديمقراطية والعماء، بل و بنية حركة المقاومة ذاتها، بمنظومة أحزابها وفصائلها، سواء من حيث البناء الفكري وآلياته  أو الممارسة اليومية أو الاستراتيجية.

وإنه لمن الصعب فهمُ أي منتوج وُقِّع باسم غسان كنفاني إنْ هو شوهد أو قُرئ بعين واحدة، أعني هنا النص بوصفه مقروءاً بمعزل عن فكره ونتاجه، أو أن نراه بوصفه منتِجاً للنص المنشور فقط، أديباً أو فناناً أو سياسياً أو مناضلاً أو منظراً أو ناقداً، بل وحتى عاشقاً، فغسان الحقيقي هو كل ذلك مجتمعاً، ولهذا فإن القراءات التي تناولته من جانب واحد، بما فيها تلك التي اعتبرته مناضلَ كلمةٍ، أو كلمةً مناضلة قد انحرفت ببراءةٍ عن إمكانية فهمه بعمق حقيقي، وهذا يكمن في سر كينونة نتاجاته وشخصيته المحبوبة البسيطة المعقدة في آن معاً، وبالتأكيد فالأمر هو في الوقت عينه دليل لقراءته، ذلك أنه يتحدث عاطفياً عن شأن سياسي، وسياسيا عن حالة حسية عاطفية، وعن شأن اقتصادي نتج عن ضياع وطن مثلاً، أو عن ضمور في الضمير الإنساني، وبهتان بل وتغييب النظم الأخلاقية وهكذا دواليك...

السؤال الأول في هذه المادة- معرض قراءتنا- هو فحوى العنوان الذي وضعه لها بنفسه، فما الذي يعنيه غسان باللغة العمياء؟!

بالإمكان مقاربة ذلك منهجياً مع ما ورد في متن المادة الأصلية، ومحاولة توسيعها إدراكاً من خلال المفردات والمعاني الواردة، لتشمل بالتالي- وعلى نحو أوسع- نتاجه النظري والأدبي برمته، ولنستخلص ببساطة أن ما يقصده بالضبط بعبارته الجليَّة إنما هو ما يُنتِجُ القراءةَ السطحيةَ لمختلف المظاهر العميقة، أي ما يُنجِزَ بُعيد فقدانَ الرؤية والبصيرة، لا البصرَ بمعناه الفيزيائي المألوف، بمعنى آخر، من ناحية عدم التوازي في السَّويةِ والطويَّة بين آلية التفكير والتعابير المستخدمة والمُصاغة مُسبقاً تجاهَ حقائقِ الواقع.

 هذا مما يحيلنا بالضرورة لاكتشاف سطحية الخطاب أمام عُمقيَّة الفكرة- الرؤية، فالأول يُنتج لغةً عمياءَ والثانية تخترق حقيقة النواة لا السطح، الجوهرَ لا القشرة!.

كما أن العنوان بأكمله " أفكارٌ عن التغيير واللغةِ العمياء" يشي بأن شرط التغيير الإيجابي يتم من خلال بصيرة- لغةٍ غير عمياء، تسبرُ ما خلف المعنى وليس المعنى الظاهريَّ ذاتَه، ذلك يعني بأن الفكرة تعتمدُ قراءةَ الواقع بعين مختلفة، ليس بحسب مشهديةٍ بصرية عقلية أو إيديولوجية سابقة أو مُسبقة، أو تطبيقِ قناعةٍ أو مقولة على الصورة الواقعية القائمة لتطابقها تماماً، وإنما استخلاصُ و إنتاجُ الفكرةِ والرأي من خلال الصورة ذاتها، وتلك أرضية خصبة للعقلانية الثورية الواقعية المبدعة والأمانة الفكرية في آن معاً.

.... إن جوهر الفكرة في المادة المقروءة هنا، هو أننا فشلنا حتى الآن - نهايات الستينات- أو في طريقنا إلى الفشل، وأن الاعتراف بذلك هو المفتاح الأساس لإعادة التقييم– تقييم الأمراض المستشرية- والانطلاق من جديد في نهج واضح سليم، ثم استكمال المسيرة بعد علاج الأمراض، كما هو جوهر أصل و سبب كتابة مادته التي بين أيدينا وقراءتها في ندوة حوارية كمشاركة فكرية نظرية جاءت بعنوان: "أفكار عن التغيير واللغة العمياء" وهي التي ألقاها بنفسه في دار الندوة ببيروت في 11 مارس- آذار 1968.

 كما أن نكران الهزيمة إصرارٌ على الاستمرار في تفاصيل عيشٍ نقْعيٍّ مُجرثَم ساكنٍ خاضعٍ لنتائجها ذاتها حتماً بحكم ثبات المقدمات ذاتها، كما أنه وبالتأكيد أساسٌ ومقدمةٌ لهزيمة لاحقة وبالضرورة أيضاً!.

 يقول غسان في يومياته "31/12/1959"

"... إن الضباب الأسود غير موجود في الطبيعة، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يؤكد أنه ليس أبعث على الراحة من الضباب الطبيعي الذي لا لون له ؟"

... مع كل انتفاضة أو ثورة أو تغيير مهم، حتى وإن كان انهياراً، يسطع جلياً دورُ الشباب في المجتمع وشتى مؤسساته، هو لا يكون قبلها منقرضاً بالتأكيد، لكنه يبدو كذلك بحكم الظرف الآني، والعبرة هنا هي في أن الشباب هم المعنيون مباشرة بأية مرحلة مستقبلية قادمة، ولذلك فهم أنفسهم أول من يتذمر ويسعى لتجاوز الماضي، ليس بالضرورة كقطيعة شاملة معه، وقد تكون، بل باعتباره أضحى حالة متأخرة متخلفة، وهنا تجدر الإشارة إلى أن العامل الزمني محدِّدٌ أساسٌ في تقييم التخلف والتقدم، لأن الشباب بالضرورة وببساطة و بديهية عاشوا أو استفادوا من جيل سبقهم - بنسب معينة- أما الكهولة زمنياً وثقافياً فقد عاشت شبابها في لحظة سابقة "ماضية " والتمسك بها يخلق الماضوية، وهنا بالضبط يكمن إدراك السؤال الفلسفي الاجتماعي الحقيقي العميق لفحوى الماضي والآن والمستقبل!.

إن التكثيف الإبداعي، بمفردات تبدو غير معقدة شكلاً هو السمة الأساس لإفصاحات كنفاني،الروائية والفنية والسياسية والفكرية، لهذا تبدو لكل وهلةٍ أولى واقعيةً تماماً، ثم ومن خلالها يكتشف القارئُ مختلفَ المشارب والمدارس والمآلات في جنبات نتاجه، من البنيوية والواقعية الاشتراكية والسوريالية والرمزية والوجودية، وهكذا في كل مرة كان غسان ينهض بحلة مُبتكرَة.

... من يومياته بتاريخ 22/2/1960 يقول:" كتبتُ إلى صديقي فضل النقيب في ياكيما ـ واشنطن اليومَ: تأخرت في الكتابة لك، أنا أعترف، ولكن يشفع لي أن لا جديد عندنا هنا سوى استمرار هذه العجيبة: أن لا يكون أيُّ جديد!.

ثم كتبتُ له أردُّ على لمحة استسلام شعرت بها بين سطور رسالته: «تريد أن تنسحب؟ لماذا؟ لأنك بعيد؟ إذا كان فضل يبعد عن القضية ألف ميل، فنصف شعبه يبعد عنها ألف سنة!..  

المسافة لا قيمة لها لمن يعيش في لحظة الشروق..

تريد أن تنسحب؟ لا بأس، ولكن صدقني يا فضل أن الانسحاب أصعب بكثير جداً من التحدي، لقد حُكم علينا بأن لا ننسحب". 

... هذه المادة - التي بين أيدينا- تنضم إلى هذا المبدأ أيضاً، مبدأ "اللا انسحاب" لتوضح معنىً قد يبدو غير مكتمل في سطحه ومتكاملاً في عمقه، وتقترح شكلاً ومضموناً يشبهان الأسئلة الكنفانية الأدبية بلغةٍ فكرية هذه المرة، تلك الأسئلة العميقة التي تحفر جبل الصخر لتشق طريق الإجابة النادرة، فأسئلة الكنفاني في جوهرها أجوبةٌ سبَّاقةٌ مبطنة !.

يستشرف الرجل أفقَ المستقبل العربي المرير من خلال مفردات إرهاصه الراهنة - آنذاك- والمستمرة مع بعض لمسات المونتاج حتى حاضرنا الآن- مع تجدد طفيف في شكلها وبعض مفرداتها- متوقعاً بين بطون حروفه ما جرى وسيجري، ومستشرفاً نتاج ماضوية مهلهلة تُفضي إلى حاضر مزرٍ ومستقبلية مفككة، إلى درجة أنها تنفي، بل تبتلع خلال طويتها الماضيَ ذاته، إنه يقصد ذلك عبر تحذير مبطن من هول الخطيئة السكونية الاجتماعية والثقافية والسياسية، فيبدو غسان هنا مفكراً مستقبلياً بلغة خاصة متفردة، بل وسباقة.

وفي مادته هذه - معرض قراءتنا-  يعيد الرجل تصنيف وترتيب فحوى نداءاته الفلسفية الثورية- الفكرية التي تكتنف أعماله كافة، من أدبية وسياسية وفكرية وفنية، وهي نداءاته العميقة التي يتردد صداها في أعماله للصدام مع الواقع والثورة والمواجهة مع الذات و العالم، والتي تُفضي بالضرورة إلى طرح أسئلة صعبة، محرجة للسائل والمسؤول، للفرد والجماعة والمؤسسة، وللتاريخ والمستقبل، بل وتنال من تكوين السائل ذاته أولاً، لتحقق منالَ فهمِ السؤال والذهاب نحو اكتشاف الآخر- المغتصِب في أوج انتصاره التاريخي- على التاريخ ذاته !- و هو إن كان نصراً مؤقتاً طويلاً في النهاية، ومرتبطاً بتوازنات عالمية، لا يمكن أن تحافظ على ديمومته إلا من خلال تخلفنا عن ركب التطور و تحقيق النمو، لهذا لا يجد غسان غضاضة في الاستفادة من تجربة القاتل النازي الصهيوني ذاته، حتى وإن كان الإرهابي ديفيد بن غوريون شخصياً، وتلك من مبكِّرات دلائل عمق فكر الكنفاني وحلمه المُضني الشجاع والفريد !.

وهنا تبرز الأثنوجرافيا عند غسان ليس بوصفها استدلالاً على عادات وفعاليات النشاط الإنساني بحد ذاته بل في دلالاته وأصوله ومبتغاه، فهو وإن يذكر تقاليد وعاداتٍ وبطولات وانتكاسات وما إلى هنالك، يدرك تماماً بأنها ذات أصل تاريخي تراثي ضارب في عمقه حتى أنه يطال اللغة ومفرداتها لا الفعل الحيوي وحده، بهذا المعنى فإن الثورة في عمق تجليها هي ثورة على الذات أولاً ،

إن المادة التي بين أيدينا - التي كان الفضل في انتشارها وبثها للكاتب الفلسطيني نصار إبراهيم عام 2016 بعد فقدانها طويلاً - ليست فتحاً فكرياً بحد ذاتها، كما أنها ليست نظريةً استقرائية أو تقييمية أو استراتيجية مدرسية متكاملةَ، لكنها بوابة مهمة لقراءة ما حولنا، لا أعني زمن كتابتها فحسب، بل الآن المفرط في تجلياته العبثية الدموية فلسطينياً وعربياً، والتي تفتح سؤالاً مرعباً مهولاً عميقاً مفادُه: كيف وصلنا إلى هذا الدرك الأسفل، ومن ذا الذي دمر أو حرَّف كلَّ تلك القيم والجهود والتضحيات، وكيف، كما وتحتم السؤال عن أي طريق سلكناه، وأية الاتجاهات أضعنا؟!.

يبدأ مادته " أفكار عن التغيير واللغة العمياء" بمدخل تمهيدي:

" شهد هذا المنبر أساتذة أكفاء، استعرضوا جوانب مُختلفة من أسباب الهزيمة وحوافزها ووسائل الارتقاء إلى مستوى التحديات التي أطلقتها والواجبات العاجلة التي تفرضها على هذا الجانب أو ذاك من مجتمعنا.

وكل ما قيل يبرهن على شيء واحد على الأقل متفق عليه تماماً، هو أن رصْدَ ما حدث وما يحدث وما سيحدثُ ينبغي أن يبدأ من جوانب مختلفة، فليس ثمة رواية رصد واحدة، وليس ثمة خطأ واحد، والهزيمة لا يمكن اختصارها بشعار أو التنصل منها باتهام"1".

إن ما يحدث على هذا المنبر يلخص ما يحدث عملياً على الأرض العربية كلها في أعقاب الهزة العميقة.

يقصد هزيمة النكسة عام 1967

ليست المقاربة بين 1968 زمن كتابة غسان لهذه المادة و 2017 مقاربة زمنية قسرية أو تقنية، فهي محكومةٌ بقدر التوازي الذي  يحكمه تشابهُ الواقع آنذاك مع الواقع الراهن، حيث لا تبدلات فعلية جوهرية  تُذكر في الشأن الذي نقرأه اليوم في هذا الكتاب، لكأننا مازلنا هناك!.

تعريف اللغة العمياء:

اللغةُ العمياءُ- بحسب قراءتنا لمرامي غسان-  تعني اللغةَ و المفردات المُصاغة خطابياً، والتي تتحول بالتالي إلى ثوابت لفظية بمعزل عن دينامية التطورات والتحولات في الواقع.

بصيغة أخرى، هي تعني تلك التي لا تستلهم ذاتَها من عمق التجربة ولا تعترف حركة الواقع، وهي تنبثق أصلاً من مقولة وقناعة، لكنها بفعل تخلفها عن المواكبة تغدو مع الزمن معاكسة للغة الفهم العميق وتراكم خبرة التصنيف الدقيق، مما ينتج عن مصطلحاتها و مفرداتها حفلة ً خطابية مفرطة في الحماسة فتزجُّ بنفسها في حركة استغباء الواقع والقفز على مفرداته.

يضيف:" إن المعاني التي تحملها اصطلاحات مثل "الثورية" و"الناصرية"  و" الاشتراكية " و" العدالة " و" الديمقراطية "  و" الحرية " لا حصر لها في الكتابات التي نطالعها كل يوم ولذلك فإنه يبدو من مجرد رصد هذه الكلمات ومصادرها إن جميع الأطراف متفقة تماماً على كل شيء وما يثير الدهشة أن أحداً غير متفق عملياً مع الآخر"!.

"وإننا نلاحظ إن ممثلي طبقة معينة يروقهم كثيراً تشجيع هذه الظاهرة التي يعتبرونها تحت ستار الوطنية تعبيراً صحياً فإننا نرى في الواقع أنها ليست سوى درع يؤدي في نهاية المطاف إلى حماية أولئك الذي يحتمون بنفوذهم الاقتصادي والسياسي على صدر حركة التغير".

يربط غسان إذاً بين السكونية المكتفية بالكلمات الجاهزة وضرورة العماء لاستمرارها،

"... إن تقارب شعارات الأحزاب والدول في المنطقة وكذلك دساتيرها مسألة تثير الدهشة حقاً، إلا أن المدهش أكثر هو كمية التناقض الحقيقي فيها".

وهنا يقصد ضمناً بأن اللغة العمياء تتحول إلى تغطية للمواقف والنشاطات الحقيقية التي يمارسها مطلقوها، فهي إذن تسعى للتغطية على المواقف الحقيقية التي تمتثل لشروط ونتائج الهزيمة، وربما المساهمة الواعية فيها والمُدرِكة في بعض الحالات!

هذا الأمر بات اليوم جلياً خاصة في  مواقف المتنفذين فلسطينياً أو الأنظمة العربية التي تتغنى ب فلسطين و لقدس وحقوق الشعب الذي تحاصره في الوقت عينه حتى في تنقلاته وسفره ودراسته، بل وتتآمر على مستقبله مع الغرب والصهيونية، ثم تغطي ذلك كله بالشعارات و التصريحات القومية و الدينية،

مهمة المثقف:

" في هذه الفترات الدقيقة تكتسب مهمة الباحث دوراً أعمق مما كان لها في أي وقت مضى فهي مطالبة بالتزويد بشجاعة مضاعفة من جهة القدرة على النقد ومن جهة أخرى للتمسك بما لا ينبغي أن يُدمَّر.
والفارق بين هذين الجانبين من المهمة فارق دقيق للغاية، ويكفي أن يخطو الباحثُ خطوة إضافية إلى جانب النقد ليسقط في فوضى التقييم، أو خطوة إضافية إلى جانب التمسك بالمعطيات التقليدية ليسقط في جمود الاستسلام لما أضحى غير مقبول".

و يعتبر غسان ذلك مدخلاً للتقييم والمسؤولية ، التي تترتب على المثقف والمبدع والباحث، فمهمة المثقف ليست البحث التجريدي الأكاديمي، إنما تنبع من فهم واقع مصائبي كارثي حل بالوطن العربي، ولهذا فإن جدية وشجاعة المثقف في تناول مختلف القضايا هي جزء من التقييم لمكانته كدرجة أولى ، وبالتالي فإن على المثقف الحقيقي أن يكون شجاعاً أو لا يكون، أن يمارس بفكره و قلمه مسؤولياته أو يتنحى، ذلك أن مهمته الطوعية تتجاوز أسئلة السلامة الشخصية أو المكتسبات والامتيازات من أي نوع، فهو يتحمل المسؤولية الكبرى، ويحتل موقع الضمير الحارس المسؤول عن نقاء ومصداقية الموقف بمعزل عن مغريات أو تهديدات الواقع أو امتيازاته.

الهزيمة  و المهزوم:

للحديث عن الهزيمة والمهزوم، ينبغي أولاً الإقرار بأمرين مهمين، الأول الإقرار الواضح بها من حيث أسبابها ووقائعها، والثاني الاعتراف بمفاعيلها وتأثيراتها على الفرد والمجتمع والسياسة والاقتصاد والجوانب المتعلقة كافةً.

هذا أمر ليس بالسهل بكل تأكيد، لكنه لا مفر منه، بخاصة مع تراكم آثارها السيكولوجية والبنيوية في الواقع المهزوم، بما يفتح المجال للعودة إلى أسبابها وعواملها المساعدة وتأثيراتها اللاحقة، وهو أمر لم يتعلمه الفلسطينيون قبل العرب وأنظمتهم، حتى أنهم عقب الهزائم اللاحقة كالتي جرت في لبنان عام 1982 وتم نسيان الهزيمة والخروج المدوي المذل لقوى الثورة الفلسطينية والاستعاضة عن ذلك كله بأغنيات الصمود العمياء، هذا الصمود الأسطوري الذي جسده المقاتلون فعلاً على الأرض، لكنه تكلل بهزيمة نكراء أسبابها سياسية وبنيوية لا مجال لذكرها هنا، تم الاستعاضة عنها باللغة العمياء التي ذكرها و نبه إليها غسان قبل خمسة عشر عاماً في المادة التي نتناولها هنا.

لقد سعى المتنفذون في المقاومة ومنظمة التحرير بذلك إلى محو ذاكرة الأخطاء والسياسات التي أدت إلى الهزيمة مستعيضين عن دراسة وقراءة الواقع باستنفار اللغة العمياء ومفرداتها.

وهذا غسان يكتب ويقول: "الهزيمة لا يمكن اختصارها بشعار أو التنصل منها باتهام، فهناك دور القوى الخارجية في القصة وسبر غورها، هناك دور القوى المضادة في الداخل وقيمة لعبتها، هناك الحصيلة التي تجيء من تفاعلات القوى الاقتصادية والاجتماعية، هنالك أسلوب العمل العربي السياسي خلال السنوات العشر الماضية،  هنالك أسباب وأمور أخرى قد لا يكون العدو قادراً على حصرها وإنكارها، بالإضافة إلى أنه غير ممكن، فهو غير وارد أيضاً.

كما أسلفنا، يقصد غسان بأن الهزيمة ذات شروط موجودة في جنباتنا، موضوعية وثقافية وذاتية، لا يمكن أن تنتج انتصاراً ما لم يتم تجاوز مثالبها، مما يتطلب اكتشافها وفهم كنهها، للانطلاق في تجاوزها واكتشاف الطاقة الحقيقية الساكنة في الفرد والمجتمع والتراث والواقع والتاريخ، لخلق طاقة جديدة يمكن تسميتها فيما بعد بالطاقة البناءة للآن و المستقبل، و المدمرة لأسس الهزيمة.

"إن فترات الهزائم في تاريخ الشعوب تشهد نُمواً سريعاً في الحس النقدي يتطور في أحيان  كثيرة نحو تيار من النقمة والغضب، ومما لا شك فيه أن ذلك الحس النقدي حتى لو اتخذ صورة النقمة والغضب، يظل ذا طاقة بناءة لا غنى عنها.

إن قدرة الإنسان على تجاوز السقوط هي ذات قدرته على الإدانة، وطاقته على تصحيح الخطأ هي ذاتها طاقته على اكتشافه، ولذلك فإن فترات الهزائم عند الشعوب تتخذ طابع المُراجعة الصارمة والقاسية في نوع صمتيٍّ من عقاب الذات غايته الأساسيّة التزَود بقدرة إضافية على الدفاع عن النفس.

وهذه فكرة مبدعة مفادها أن الرفض هو جوهر الحصانة ضد السقوط البطيء، بما يبني علاقة جدلية بين فهم إمكانية السقوط و القدرة على تجاوزه، بل إن شرط عدم السقوط هو إدانة و إنكار و رفض هنات الواقع و مثالبه، و ليس انتظار نتائجه لذكر اسمه في قائمة الأسباب، بل إن اكتشاف الخطأ دون رفضه لا يعني شيئاً سوى استمراء إمكانية الهزيمة!

"...لم تكن هزيمتنا فقط لأن القوى التقليدية، سياسياً واجتماعيا واقتصاديا كانت تكبلنا، ولكن أيضاً لأن القوى البديلة كانت مسلحة بالرفض أكثر مما كانت ترفع استراتيجية جديدة ومتكاملة".

دور الشباب و التطور:

"ووراء ذلك كله لم يكن عجزنا تعبيراً عن لا جدارتنا بل كان نتيجة لمنع دماء مجتمعنا الجديد من أن تصل إلى الرأس والذراعين"*.

"لم تكن المشكلة في إننا لا نعرف بل في أننا لم نتح لمن يعرف أن يقول أو أن يعمل... لم تكن في إننا كنا غرباء عن العصر ولكن في أننا شئنا وأهدرنا العناصر الشابة التي هي جسرنا إلى العصر."

وهنا يؤكد غسان إدراكه لأهمية، بل و حتمية إعطاء الدم الجديد دفعاً باتجاه القفز نحو ساحة المستقبل، بما يعنيه ضمناً من أن التعامي عن ذلك كان لبنة للتكلس و التراخي، و بالتالي قابلية الهزيمة.

... ما أسهل أن يقوم الكاتب بالكتابة عن قيم إنسانية أو أخلاقية أو وطنية بلغة سائدة مكرورة منمقة، لكن من غير السهل أبداً ملامسة الحالة الإبداعية بكثافتها المميزة، ذلك أنها قضايا عامة وقد أشبعت عبر التاريخ بالرافدات الأدبية و الفنية، كما أنها عادة تكون مشكلة عصر آني، من هنا يأتي التفرد الذي كنف غسان فمنافسوه من حيث الفكر وعبقريته كانوا كثراً، لكن مأثرته هي أنه كان ذا روحٍ وعقلية شابة.

لهذا كان من أوائل من اهتموا بالمنتج الأدبي الصهيوني، وتابع وتواصل مع وسائل الإعلام الغربية، فأتاح له ذلك الجلوس مطولاً على شرفة الإعلام العالمي، والقدرة على مقارعة ذلك الحشد الهائل من التلفيقات والأكاذيب بعمق نادر، في زمن كان فيه تناول هذه المسائل غير وارد، بل غريب، بل ربما يدعو للاستهجان أو الإدانة من قبل التيار الفلسطيني السطحي المأخوذ برنة اللغة العمياء!.

لماذا أدرك واستطاع غسان ذلك؟

بكل بساطة، امتلك المبدع عقلية وروح وطاقة الشباب المبدع، هذه الطاقة وتلك الروح القادرة على تجاوز صنميات الماضي وترسباته، وقراءة الواقع بعين وعقلية منفتحين، ترمي جانباً قيم العشائرية والقبلية، وتخرج من ربقة احتلال غريزة القطيع أولاً، لتحقق نصراً سيكولوجياً وفكرياً واجتماعياً على الذات الخاضعة وبالتالي تكون قادرة تلقائياً على إعادة اكتشاف المكنون، وبالتالي البحث الحر في أيٍّ من الأمور مهما كانت درجة حرجها، ومنها مثلاً إمكانات العدو ونجاحه المُبهر في تحقيق مشروعه، على الرغم من شيزوفرنيا الصهيونية المتمثلة بالافتراق الغريب بين منحيين، المنحى الأول استغلال العقيدة والنصوص اليهودية، والثاني تحقيق كيان "علماني" بناء على الأسطورة الدينية الوثنية المضحكة في تفاصيلها وخرافاتها!.

لكن غسان أدرك مبكراً لعبة الاستغلال الكبرى لليهودي الساذج ذاته أولاً، من أجل إقامة كيان خدمي لشركات العالم الكبرى وسياسات الإمبريالية وقوى الاستعمار العالمية، هكذا تمت الصهيونية ثم كيانها السياسي.

بل و أدرك في طويته بأن الصراع ليس دينياً أوقومياً أوحتى استعمارياً بالمعنى المألوف، وإنْ كان يحتوي ظاهرياً كل ذلك لكنه في الواقع يمثل قطبين عالميين، طرفان أولهما يمتلك الحق والمنطقية ويفقد الاستراتيجية، وثانيهما يستخدم "وعد الرب يهوه" ويقتبس الأسطورة من سباتها لكنه صنع ونظم مستقبل وجوده بمنطقية وعمل اقتصادي وسياسي مستغلاً كل إمكانية متاحة لتحقيق ذلك، في حين خُلق وبقي البكاء على الأطلال و التغني بجمال وغنى البلاد وقدسيتها لدى الجيل المهزوم ذاته.

ولنعد إلى ما يقوله غسان:

" ... إن الذي حققه العربي لنفسه خلال هذه الفترة الوجيزة هو شيء كبير في قياس التاريخ، لقد كان خارجاً لتوه من تحت العباءة السوداء التي ألقاها فوقه الحكم العثماني المتخلف طوال قرون كانت ذات قيمة جوهرية في تاريخ الإنسان المعاصر.

 وإذا كان التاريخ قد شهد أمثلة عديدة ليقظات سريعة في ألمانيا واليابان مثلاً، فإن تلك اليقظات لم تكن لتنطلق من نقطة الصفر، كانت تنطلق من طبقة موجودة تكنولوجية وسياسياً وعسكرياً، وإن كانت طبقة شنت الحرب، أما بالنسبة للعرب فقد بدا الدخول إلى العصر من نقطة الصفر المحض.

"... إن ما أسميناه قاعدة الأبوة ليس في الحقيقة إلا نتاجاً حتمياً للعقلية الإقطاعية وللإقطاع السياسي ومنطق الرأسمال الوطني، وهذه القاعدة ليست ظاهرة سيكولوجية إلا بمقدار ما تبلور الطبقة الظواهر السيكولوجية."

بإمكاننا الآن شرح ذلك بطريقة أخرى، فالأبوة بحد ذاتها هي فكرة هيمنة وتسيير للواقع " سلطة بطركية" تستلهم تراثها ومقولاتها ومفرداتها من الماضوية لتسيير شؤون الحاضر مما ينتج بالضرورة طلاقاً مع معطيات وحيثيات وأسس الواقع الجديد الذي يُرى بناء على قوالب سابقة تحافظ في جوهرها على إبقاء حالة الاستغلال الاقتصادي والديني والسياسي وغيره، مما يمنع بالضرورة والحتمية التركيبة الاجتماعية السائدة الموروثة من التطور وبالتالي مواكبة المستجدات الحضارية، فتحافظ الهيمنة الأبوية على مكتسباتها ويفقد المجتمع والحالة الفكرية والسياسية والاقتصادية إمكانية اللحاق بالزمن، وهو الأمر الذي يتطلب بالتالي وتلقائياً الاستمرار في تلميع وشحذ واستخدام سيف اللغة العمياء التي ذكرها غسان!.

وفي خلاصة الفكرة أيضاً، أن ما أسماه قاعدة الأبوة هي قاعدة تختص في جوهرها بالحفاظ على التخلف كونها قاعدة متينة له، وهي لا تكتفي بمكتسبات العقلية القبلية المشيخية والاقطاعية وهيمنة القوى الاقتصادية السائدة وقيمها المحروسة، بل تمنع وتؤخر وتحارب دخول الطاقات الشابة معترك الحياة، مما يكرس مقومات الهزيمة والتخلف حتماً، وهو ما يتطلبه أيضاً واقع الرغبة في التفرد بالقيادة.

التفرد بالقيادة:
لقد استشرت في الخمسينات والستينات و السبعينات من القرن العشرين في أروقة النقاشات بكافة مستوياته البسيطة و المعقدة فكرة وإشارات التطور والتقدم، وحازت التقييمات الساذجة والعميقة على تفكير ذلك الجيل، وبات الحديث منحصراً تقريباً في أن سبب الهزيمة هو تخلفنا وتقدم العدو، مع العلم أن ذلك كان جوهرياً لكنه لا يُمكن من خلاله فقط اختصار القصة كلها، حتى أن ذلك بات مهيمناً على عناوين وتفاصيل الصحف لاسيما في بلاد الشام و العراق و مصر وبالطبع في أنحاء الوطن العربي المصدوم المهزوم برمته.

وقد عايش غسان تلك الفترة الغنية بالتفكير منذ كارثة النكبة إلى ما بعد كارثة النكبة الثانية " النكسة" في العام 1967

 "... إن ما نسميه تخلفاً تكنولوجياً، وهو ما يركز الكثيرون على الحديث عنه في هذه الآونة هو في الواقع في جزء كبير من أسبابه ناتج عن هدر في طاقة جيلنا الشاب*، ولمّا كان المتمسكون بالسلطة عاجزين عن التجاوب مع الحركة السريعة لتطور العصر فإنهم يفضلون ألا يفتحوا على أنفسهم أبواب الإنجازات العصرية، كي لا يفقدوا تسلطهم بسبب عدم قدرتهم على التجاوب معها.

وذلك بالذات السبب في تخلُف مناهجنا عن اللحاق بروح العصر وتخلف إطارات الإدارة عندنا عن مماشاة سرعة الحركة في المجتمع."

الديمقراطية و البرلمان:

"يربط غسان بين دور الشباب و الحالة الديمقراطية" إن المؤسسة الديمقراطية ليست ترجمة للمؤسسة البرلمانية وفي الواقع إن البرلمان هو مظهر واحد من مظاهر الديمقراطية وليس هو الديمقراطية.إن الديمقراطية هي حس موجود بمقدار متساو من البرلمان إلى العائلة مروراً بالمؤسسات السياسية والإدارية والثقافية التي تشكل الدورة الدموية للحالة الديمقراطية. وأي إستعاضة عن تلك الدورة الدموية الكاملة بمجرد الشكل أو بجزء من الشكل، هو في ذاته إنتهاك للديمقراطية.

ولذلك فإنه حين تكون مؤسساتنا الإدارية والسياسية والثقافية قادرة على إستيعاب الطاقة الشابة تلقائياً والتأثير فيها فإن هذه الحالة هي حالة ديمقراطية وعكسها لا يمكن أن يكون بأي شكل من الأشكال ذا علاقة بالديمقراطية.

سيخيل إلينا لأول وهلة عند استحضار صور الأنظمة في دول العالم المختلفة، إن الجيل الشاب هناك أيضاً، لا يتمتع بهذه الامتيازات وهذا التصور في الحقيقة ليس صحيحاً لاعتبارين هامين : أولهما إن الجيل الشاب يأخذ في الواقع فرصته كاملة في المؤسسات السياسية والإدارية. وثانيهما إن حاجتنا نحن، في غمار تطورنا السريع والشديد الحركة لدفع العناصر الشابة إلى مراكز القيادة أكثر بكثير من حاجة المجتمعات الغربية، التي لا يوجد بين أجيالها المتقاربة ذلك البون الشاسع من فارق التطور الذي يوجد بين أجيالنا.

هذه الحقيقة ستقودنا إلى نقطة جوهرية أخرى هي : مسألة الديمقراطية.
إن المؤسسة الديمقراطية ليست ترجمة للمؤسسة البرلمانية وفي الواقع إن البرلمان هو مظهر واحد من مظاهر الديمقراطية وليس هو الديمقراطية.
إن الديمقراطية هي حس موجود بمقدار متساو من البرلمان إلى العائلة مروراً بالمؤسسات السياسية والإدارية والثقافية التي تشكل الدورة الدموية للحالة الديمقراطية.
وأي إستعاضة عن تلك الدورة الدموية الكاملة بمجرد الشكل أو بجزء من الشكل، هو في ذاته إنتهاك للديمقراطية.

قراءة العدو:

 بعين ثاقبة موضوعية بمعزل عن كراهيته و عدوانيته أو ماكينة التصدي له، ليس بهدف ترويج أو تعظيم إنجازه – كما يجري عند بعض المتفكرين المتفلسفين اليوم-  و إنما استنباطاً للأسئلة الصعبة التي تمس تاريخ المظلوم ذاته، و واقعه و تشظياته، فهو لا يتحمل المسؤولية بدايةً، و يتحمل جزءاً منها في نهاية الأمر باعتباره قد هيأ ظروفاً و قاعدةً ليجري ما جرى، ليس قصداً، و إنما بفعل شروط و مناحي وجوده المتخلف، بما يفتح المجال للقفز فوق التبريرية المهزومة، و الناتجة عن عجز بيني بمواجهة واقع الآخر.

من هنا فإن العدو المهيمن المتسلط المحتل ليس ذا قوة أسطورية إلا بقدر ما يشتت الواقع تحت التسلط مقدراته و مكامن قوته، و هو ما ينتج عن تخلف يمكن الهزيمة من غاياتها بالضرورة، و هذا لا يعني مسؤولية المتخلف المهزوم بقدر ما يوصف حالته بدقة.

تجربة الآخر- العدو:

يطرح بن غوريون مهندس تلك الإستراتيجية واستاذها خطة كما يلي: ينبغي أن تتخذ من الفتوحات العسكرية أساساً للإستيطان لا يمكن إنكاره وإيجاد واقع إنساني وإقتصادي وثقافي وإجتماعي جديد، يجبر الجميع على الإعتراف به وإدخاله في حسابه.

"ألا يدرك أصحاب التقاليد والأخلاق الذين يهاجمون حقنا في توسيع حدودنا وضم المناطق المحتلة أنهم إنما يساعدون العدو الذي ما زال يمارغ في الأراضي التي تحت يدنا لأن جزءاً منها قد ضم للدولة بموافقة الأمم المتحدة وجزءاً آخر ضد دون موافقة الأمم المتحدة. إن الواقع يحتم علينا أن نعير الوضع في المناطق الحالية بالهجرة والإستيطان اليهودي ليس هناك مبرر للدفاع عن حقوق العدو الذي يتربص بنا، فليس له أي حق لدينا".

لقد كتب بن غوريون هذا الكلام في العشرين من تشرين الأول الماضي في صحيفة هارتس الإسرائيلية ، مُعلناً من خلاله دون أي تردد إستراتيجية " إسرائيل"  الموجهة حتماً ضدنا.
أمام وضوح في الهدف من هذا النوع أمام منطق يريد للفتوحات العسكرية أن تكون حقاً للإستعمار الإسكاني، حاذفاً مرة واحدة ونهائياً كل حق يمكن أن يكون للطرف الاخر تضحي اللغة العمياء التي تعرفنا أكثر من مجرد ظاهرة لا معنى لها أو عابرة تضحى جريمة.

إنها لا تعرقل فقط طريق وصول الطلائع الشابة، حاملة معها الدماء الجديدة إلى مرتبة القيادة والتأثير ولكنها تعرقل أيضاً رؤية العدو وإستكشاف غوره ومدى خطره وبالتالي وضع إستراتيجية راسخة لمواجهته وإحباط تحدياته.

وذلك كله لا يحدث بالصدفة ولا إعتباطاً، إنه سلسلة متصلة الحلقات تشكل في مجموع دوائرها الصغيرة القيد الذي يكبل إنطلاقتنا.

ولذلك كله خضنا معركتنا كما يقال دون إستعداد صحيح، ودون إستخدام إمكانياتنا وبمعزل عن طاقاتنا وبتخلف تكنولوجي مذهل، وبتقليدية سياسية وعسكرية جامدة، ولم يشترك الشعب بمعركته وإلى أخر ما هنالك من الكلمات التي يخشى أن يؤدي تكرار إستعمالها إلى إعتبارها حالات عابرة وسلسلة مصادفات سيئة الحظ.

ففي الحقيقة ليست هذه العناوين إلا نتائج، وينبغي تفحصها على هذا الأساس وإلا فإن تكرارها هو الشيء الطبيعي إذا كان منطقها نفسه ما زال سليماً لا يُمس.

إن خلاف بن غوريون وليفي أشكول ترتد أصوله إلى عام 1947 وقد ظل الإثنان متماسكين داخل تنظيم حزبي واحد حتى عام 1964 ومع ذلك ، لا "اشكول" ولا "بن غوريون" حسما مسألة الإندماج من جديد عام 1976، ولكن الدورة الدموية التي كانت تعد الحزبين بالعناصر الشابة هي التي فعلت متجاوبة مع التطورات السريعة بصورة فورية.ومباشرة بعد حزيران أبعِد إسحق رايين وهو في ذروة انتصاره عن رئاسة أركان للجيش الإسرائيلي لأن القانون، يحظر في هذا العصر الذي تفوق سرعته سرعة إستيعاب أي إنسان له، أن يبقى رئيس الأركان على رأس منصبه أكثر من أربع سنوات وفي الوقت الذي كان اسحق رابين يترك منصبه كانت الوزارة الإسرائيلية تصر على إبقاء صيغتها كوزارة وحدة وطنية بين عناصر متناقضة يحتد بينها خلاف لا يصدق ولكن ذلك الخلاف كان لا بد من إخضاعه على ضوء الإستراتيجية المرسومة لخدمة المرحلة القادمة التي يتوقع الإسرائيليون لها مهام أخرى.

إن هذه الأمثلة لا ترمي إلى إعتبار العدو نموذجاً يُحتذى ولكنها تصر على إن ما اصطلحنا طويلاً على تسميته بتوزيع الأدوار بين القوى الإسرائيلية هو في الحقيقة ليس كذلك ولكنه ببساطة عندما تعرِضُه إستراتيجية مرسومة سلفاً هي وحدها التي تضع واجبات وحقوق مرحلة من المراحل وبالتالي فإن غياب إستراتيجية من هذا النوع على الصعيد العربي سيكون من شأنه الوصول بنا إلى ما نكتفي بتسميته " خطأ في التقدير"  بيد أن الخطأ في التقدير ليس على الإطلاق سبباً ، إنه نتيجة.

تخلفنا مقابل تجربة الآخر:حتى فيما يختص بالديمقراطية، سواء أسميت الديمقراطية الثورية أو الديمقراطية التقليدية، فقد ظلت نتيجة لذلك كله، طوافأ على جلد المجتمع، وعاجزة عن أن تكون دورته الدموية الصحيحة.

وأدى ذلك إلى تفريغ الحوار بكل ما في ضرورة هذه الظاهرة من قيمته، ودفعه بالتالي نحو ما أسميناه باللغة العمياء التي تشبه ما يسمى شعبياً " حوار الطرشان " أن تقارب شعارات الأحزاب والدول في المنطقة وكذلك دساتيرها مسألة تثير الدهشة حقاً إلا أن المدهش أكثر هو كمية التناقض الحقيقي فيها.

وبالطبع فإن هذه الأمور جميعها قد أدت تلقائياً إلى غياب استراتيجية العمل بالنسبة للعرب، وهذا الغياب يلغي القدرة على تصويب الجهد الفكري والسياسي والاجتماعي والتكنولوجي، بل العددي أيضاً نحو هدف يخدمه خدمة يومية دون هدر ودون استخفاف.

إن غياب هذه الإستراتيجية ألغى القدرة على ترتيب التناقضات التي تواجهها مجتمعات المنطقة العربية. ومعرفة الكيفية التي ينبغي إخضاعها فيها لمصلحة التناقض الأكبر والمباشر.

عصرنة الواقع:

عن الحزب و الديمقراطية:

إن هذا التساؤل يضعنا في صلب المسألة الديمقراطية هذا الاصطلاح الذي نفهم منه حكم الشعب للشعب وبالشعب بغض النظر عن المصطلحات التي تحمل كلمة الديمقراطية أقل مما تعني.

وطالما اننا نعتبر البرلمانية مظهراً واحداً للديمقراطية وليس هي الديمقراطية، وطالما إننا نقصد بالديمقراطية تلك الدورة الدموية السليمة المتجددة التي تصل إلى جميع أجزاء وأطراف الجسد الإجتماعي فإننا مطالبون تلقائياً بأن نجعل الحس الديمقراطي ممارسة يومية على جميع المستويات.

لقد شهدت البلدان العربية، في نطاق حوارها مع الديمقراطية تجارب تستحق الدرس شهد بعضها برلماناً دون حرية صحافة وشهد بعض أخر منها حرية صحافة دون برلمان، وشهد بعض ثالث برلماناً دون حرية أحزاب وبعض رابع أحزاباً دون برلمان وبعض خامس شهد برلماناً وأحزاباً وحرية صحافة دون أن يستطيع ذلك كله معاً أن يكون الديمقراطية الحقيقية رغم إن كل تجربة من هذه التجارب قد وصفت نفسها بأنها الـ الديمقراطية.

ثالثاً:

الثورة الحتمية كمآل طبيعي للواقع التهميشي، و هدم الإمكانات الذي بنى صرحه على الهزيمة ذاتها، بل و استمرأ نتائجها لصياغة ذاته السلطوية متخذاً شعاراً بدل النظرية، و خطاباً عوضاً عن العمل،

إن ما يحدث على هذا المنبر يلخص ما يحدث عملياً على الأرض العربية كلها في أعقاب الهزة العميقة. إن الحوار يتفجر من كل جانب، وحصيلته كلها هي الصورة فالجوانب المختلفة لا يمكن التعبير عنها من قبل جبهة واحدة أو شخص واحد، وافضل ما نستطيع أن نفعل هو أن نستوعب كل ما يقال آنذاك وحده هو الذي يعطي الحوار معناه وجدواه ومستقبله."

رابعاً:

دور الشباب و ارتباط ذلك بالحالة الديموقراطية و الحديث عن الديمقراطية باعتبارها حالة قفز حضارية تشي بضرورتها من أجل مواكبة تطور الآخر العدو في كافة المجالات و بناء مجتمع و ثقافة متطورة تنافس ثقافياً و علمياً و تجعل من قطعة السلاح ذاتها معنى عميقاً لا مجرد إطلاق بارود

خامسا : أمراض و نواقص الذات – الحزب و المحيط " الأنظمة" و المحيط الأوسع – الأمة الذي يشكل حالة خصبة للخضوع للاحتلال و التبعية السياسية و الاقتصادية

عن لبنان كنموذج:

وأي تصور موضوعي تقيمه السنوات القليلة التي تجتازها المنطقة الآن يثبت شيئاً واحداً على الأقل هو أنه لا يوجد من يستطيع التنصل منه دون ثمن باهظ، ومهما كان الجدل النظري الذي يمكن أن يشغل الأفكار حول وحدة المصير في المنطقة، فإنه مما لا شكل فيه إنها وحدة لا تبدو أشد منها الآن في أي وقت مضى وهي تواجه من خلال الهزيمة المهينة تحديات تصل إلى درجة موت أو حياة.

وهذا التصور يلقي لتوه على كاهل لبنان مهمات قد تكون ظروفه بالذات تهيئة للعبها على نحو مصيري، ليس فقط في نطاق دور يقوم به أزاء التحدي الكبير، ولكن أيضاً في نطاق دور يقوم به أزاء التحديات الأصغر التي يشكل مجموعها قضيته الداخلية.

إن الدور اللبناني هو حصيلة موحدة لثلاثة عناصر جوهرية فهو واجب وطني والتزام تاريخي، وقدر جغرافي.

وهو من خلال التحديات التي تبرز في كل واحد من هذه العناصر الثلاثة يقف بدوره على المنعطف التاريخي الذي يستطيع في تجاوزه أن يجدد دماءه ويقطع شوطه في سباقه المزدوج مع العصر.

إن ذلك يحتاج أول ما يحتاج، إلى توضيع قاطع للأولويات في سلم التحدي الذي يشكل حضوراً يومياً في المنطقة والالتزام بالتالي بخطة مواجهة في مستوى هذا التحدي.