Menu

حين يسود الجهل

عبد الرحمن بسيسو

تؤثر عن فيلسوف الأنوار، العربي المسلم، ابن رشد (1126- 1198 ميلادي)، وعن غيره من المفكرين والفلاسفة والعلماء الذين أعلوا من شأن عقولهم فأعملوها، مقولات وخلاصات فلسفية وعلمية نحن أحوج ما نكون إلى التأمّل فيها لإدراك منطوياتها المفهومية العميقة، المؤسّسة على إعمال للعقل لا يكفّ معه هذا العقل المفكّر عن تأمّل نفسه ومراجعة مدركاته طيلة الوقت للتأكّد، باستمرار، من مطابقتها مبادئ العقل الفطرية الجوهرية، ومن جدارتها المنطقية العقلية والعملية ونجاعتها الحضارية الإنسانية التي تؤهّل الكائن البشريّ لأن يكون إنسانا هو “الإنسان”، فتحمله إلى سموّ مفتوح يدرك عبره، وفي سياق توالي نقلات الحضارة على سلّم التّطوّر والرّقي، جوهره الإنساني الأعمق، والأبعد، والأعلى سموّا وكمالا.

ولعلّ واحدة من أبرز هاته المقولات والخلاصات التي يمكن باسترجاعها أن نلقي على الواقع العربي الرّاهن ضوءا يمكّننا من النّفاذ إلى ما يفسّر إيغاله في انغلاق وجهل لا يورّثان إلا العماء والعتم، هي تلك التي تقول “حين يسود الجهل غلّف كلّ شيء بالدّين وسيتبعك النّاس حتّى لو كنت شيطانا”.

ومن الحقّ أنّ مؤدّى هذه المقولة الرّشدية يجد جذوره وامتداداته في أنساق الفكر الديني والاجتماعي والسياسي والفقهي والفلسفي المؤسّسة على قراءة عقلية حصيفة وشاملة للواقع الاجتماعي القائم، ولمسارات العلاقة المتطوّرة ما بين الإنسان والحياة، وذلك في ضوء منهج متفتح يفتح الدين على الحياة، ويعيد تأويل أحكامه بما يستجيب لمقتضياتها ولا يفارق جوهره.

لقد تواصلت هذه القراءة المستنيرة الفاهمة حضورا وفاعلية في المجتمعات وحياة النّاس، وإن بدرجات متفاوتة، على امتداد أحقاب الحضارة العربية والإسلامية الممتدة من لحظة ظهور الإسلام وانتشاره وترسّخ وجوده كمكوّن رئيس من مكونات الثّقافة الإنسانية حتّى الآن.

فمنذ زمن لا يبعد كثيرا عن لحظة البدء، وفي سياق يتواصل مع قراءات جنينية نمت على مدار قرنين من الزّمن، لاحظ العالم الفيلسوف يعقوب بن إسحاق (805 – 873 ميلادية)، أنّ بعض رجال الدّين، ولعلّهم كانوا قلّة في عصره، يتاجرون بالدّين فيسلّعونه ويبيعونه، وهم إذ يفعلون ذلك لتحقيق امتيازات ومكاسب سلطوية دنيوية تستوجبها الأنانية ويحفّزها الجشع، إنما يتخلّون عن أن يكونوا ملكا للدّين، فيصبحون إذ يمتلكونه، ويتاجرون به، “عدماء دين” لا “علماء دين”! وفي السياق نفسه، أشار الفقية الفيلسوف إبي حامد الغزالي (1058 – 1111 ميلادية) إلى أنّ رجال الدّين وعلماءه كانوا، في الماضي القريب، مطلوبين، ولكنّهم أصبحوا، في الحاضر القائم، طالبين، أي يلهثون وراء صاحب السلطة والحكم لنيل رضاه وعطاياه.

ويبدو أنّ هذه الخلاصة التي توالى حضورها وتعزّز إدراكها مع توالي القرون، من الكندي إلى الفارابي، ومن المعتزلة (من المتكلمين وفلاسفة العقل) إلى الغزالي، ومن الغزالي إلى غيره، قد عمق تأصيلها في سياق تنامي الوعي النّقدي الذي تابع فيلسوف العقل المتفتّح المستنير ابن رشد تطويره وترسيخه في الثقافة العربية الإسلامية عبر ما قدّمه من رؤى وخلاصات فقهية وفكرية وفلسفية ذات صلة عميقة بتجديد الدّين بما يستجيب لحاجات النّاس وصيرورة الحياة وتجدّدها الخلاق.

ولعلّ للنّقد الصّارم واللاذع الذي وجّهه ابن رشد إلى رجال الدين ألا يتكثّف في المقولة التي أوردناه عنه فحسب، وإنما في اقتران هذه المقولة نفسها بالواقع الفعلي الذي كان قد عاينه في زمانه، فجعله يلاحظ، ويترك للأجيال اللاحقة أن تتأمّل ما قد لاحظه في سلوك رجال من تناقض عمليّ صارخ بين ما يقولون وما يفعلون؛ فإذا كان الدّين يحثّ على الالتزام بالأخلاق الحميدة والإعلاء من شأن الفضائل ومكارم الأخلاق في السلوك اليومي، فإنّ بعض رجال الدين، من “عدماء الدّين” لا يفعلون ذلك، بل يمعنون في ممارسة نقيضه وذلك على نحو يعتّم الدّين الذي أوّلوه وفق مصالحهم فزيّفوه، ويسوّد وجه الحياة في وجوه النّاس، ويجافي حقيقة الإنسان وغاية وجوده!


نقلاً عن: العرب