Menu

أيسر الصافي: حنظلة الحجر

ثائر أبو عياش

Untitled.jpg

دون خوف ذهب نحو خلوده الشخصي راضيًا، مؤمنًا، مشتبكًا، لا بل أكثر ذهب بخفه وهو مقتنعًا أنّ الإعذار عند إدراك الفكرة هو استسلام وهزيمة كما قال الشهيد غسان كنفاني قبل ذلك، إذ أنتزع عند لحظة ارتطام الرصاص في الجسد فكرته الأخيرة، بل وفكرته النبيلة، هكذا هو المشهد النهائي للشهيد أيسر الصافي، كان مشهدًا تشتبك فيه العين مع المخرز، بل ويشتبك فيه السيف مع الدم، وأكثر يشتبك فيه الحجر مع الرصاص.

 لم ينتصر هنا الأقوى، بل أنتصر من هو على حق، فالموت ليس هزيمة لحظة البحث عن الحقيقة، حيثُ الموت لحظة الاشتباك بين الحق والباطل، هو خيار وضرورة في ذات الحال، وأيسر الصافي كان مؤمنًا أنّ البحث عن الحياة في لحظة الاشتباك هو الهزيمة، وأكثر كان مؤمنًا أيضًا أنّ الموت ها هنا يُثبت أنّ الشهداء هم دومًا الأقوى.

إذن، لا مناص، إذ الشهادة هي طريق أولئك الباحثين عن اليوم التالي للنصر، بل والباحثين عن تفتيت رغبات الحياة، إذ بات واضحًا أن أيسر الصافي يتعلق بالشهداء حتى لا تتعلق به الحياة، هكذا كان يدعوا الشهيد "جهاد مغنية"، إذ قال جهاد: " إذا أردت التخلص من حب ملذات الدنيا تعلق بشهيد"، وأيسر الصافي كان متعلق بالشهيد "عمر مناع" الذي يعتبره "الشهيد الحبيب"، ولربما هذه هي الرسالة الأخيرة، والنص الأخير، والأهم الفكرة الأخيرة  للشهيد أيسر الصافي، إذ تقول هذه الفكرة: " الجميع يأخذ، لا أحد يود العطاء، هي كذبة، لربما تكون حقيقة لدى البعض، ليس مهم، كل ما عليك فعله أنّ تتوقف عن الإسراف في المشاعر بجنون، أو حتى انتظار المشاعر، قلبك هو القبطان، والبوصلة هي لحظة الاشتباك"، وبهذه الرسالة يدعونا أيسر الصافي أنّ نتعلق به أولًا، نتعلق به أبدًا.

لن تُبرح أبدًا من الذاكرة، إذ ستبقى لحظة الرحيل هي الدرس الأبدي إلى أولئك الباحثون في أزقة الحياة عن أحلامهم، حيثُ أنت كما كل الشهداء تُمسك فرشاة الرسم، وتنقش بالألوان على جدران البشر اللوحة المفضلة، نعم، لقد سقطت باكيًا عندما اكتشفت أنّ هناك من قام بالخربشة على اللوحة، حيثُ في قمة السقوط أدركت أنّ بعض الجدران كانت آيلة للسقوط، ولذلك أدركت أكثر، عند الرسم عليك اختيار الجدار الصلب الذي يُشبه السماء، جدران بلا أعمدة، ولكنها ثابتة للأبد، بل وأدركت أيضًا عندما يجف الحبر، يموت القلم، لا بل، عندما تجف العزيمة لحظة الاشتباك، تموت الشهادة، وينهزم الحجر، وعليه تقدمت أنت، إذ كان وجهك نحو الجنود، والسلاح، وأكثر نحو الرصاص، ورفضت أن تُدير ظهرك لنا، وارتطمت بالستار الفولاذي، ممسكًا حجرًا باليد، وفكرة بالرأس، وحبًا في القلب، وأكثر كنت حنظلة الذي قال فيه ناجي العلي : " حنظلة وفّي لفلسطين، وهو لن يسمح لي أنّ أكون غير ذلك، إنه نقطة عرق من جبيني تلسعني إذا جال بخاطري أنّ أكون جبان، أو أتراجع".

في ذروة ملحمة الاشتباك لم يكتب، ولم يقرأ علينا الوصية، إذ كان الرحيل هو الوصية بذاته، هكذا إذن يخط الشجعان حتى بالحجر كلماتهم الأخيرة على صفحات المواجهة، حيثُ كل ما فعله أيسر هو احتضان لحظة الموت، وكان يُمارس الحذر من أنّ تفلت هذه اللحظة من بين يديه، لا بأس، أحتضن أيسر هذه اللحظة كأنها عصفور صغير يحتاج لقليل من الماء، وأقترب أكثر من هذه اللحظة حتى العظمة، ومن ثمَّ بكى معها، إذ كان بكاء الرحيل الأبدي، بل ولم يخف أيسر، حيثُ الألم في اللحظة الأخيرة جعله أكثر إدراكًا حول ما يجري، إذ استطاع أنّ ينتزع ستار الوهم لتنكشف الحقيقة في زمن أصبح كل شيء يتشح السواد.

عُد يا أيسر، فالوداع أصبح ممل، وفقدان الأحبة ينهش الروح، أما الحزن على رحيلك فيه نوعًا من "الميلانخوليا"، والتي يقول فيها فيكتور هوغو: " السعادة النابعة من الحزن"، إذ السعادة هنا تقول أنّ أسير أصبح أفضل منا كما قال من قبل الشهيد صالح العاروري، والحزن حتمًا على الفقدان، من جديد عُد يا أيسر، إذ الأحلام لم تكتمل بعد، حيث قاعة التدريس، والملعب الرياضي في انتظارك، عدُ وأجلس على كرسي الجامعة تحت ظل الشجرة، وأكتب لنا ما شئت، كأن تكتب يوميات المخيم، وأوقات العمر التي يسرقها الاحتلال على الحاجز، عُد، لربما هناك لقاء مع أحدهم يمنحك الأمان، أو أكثر لربما يؤجل الموت قليلًا، إذ هناك طفلًا كان مجرد حلم يستحق الكفاح، ولكن كنت أكثر إدراكًا أنّ الاحتلال هو عدو الأحلام.

ماذا بعد؟، يبقى السؤال عن الكلمة التالية!، إذ الكلمات تتحرر أمام مشهد الرحيل، وتغرق في بحر الصمت أمام جسد الشهيد رغم عثورها على القشة، فالكلمة هنا هي سؤال دائم عن الخوف، حيثُ الخوف هو العدو الأول للإنسان، وأيسر الصافي تمكن من تحقيق الانتصار على هذا العدو.

وإلى أنّ نعثر على مفتاح الصندوق الأسود للكلمة، سلامًا عليك أيسر الصافي، إذ وحدك الحي، وجميعًا يا سَيدي أموات..