Menu

الاستثناء العربي والاستعصاء الديموقراطي

نصري الصّايغ

منذ أيام، انتهت الانتخابات في تركيا . لم تسقط نقطة دم واحدة. الجيش في ثكناته. الشرطة في حراساتها. لم تغص الشوارع بالمتظاهرين اعتراضاً، بل تدفقت إليها الجموع احتفالا. لم يشكك أحد بنتائج الصناديق. الأوراق الانتخابية في الصناديق قالت كلمتها: خسر أردوغان «حلم السلطنة» الرئاسية، حظيت القوى الكردية المحرومة بكتلة برلمانية وازنة، كانت خارج التوقعات. أحزاب قومية وعلمانية معارضة توزعت الأصوات وتشكلت كتل نيابية، والطريق مفتوح لتشكيل حكومة ائتلافية أو أقلية أو...

الديموقراطية في تركيا بخير. وتركيا، كما هو معلوم، ليست بلداً عربياً.

قبل ذلك بشهر تقريباً، جرت انتخابات في «إسرائيل». كالعادة، احتدم الصراع، أُغدقت وعود على «الإسرائيليين». تناولت القوى بعضها البعض، بالنقد والاتهام. تجاهلوا فلسطين وما يقال عن السلام. لم يتدخل الجيش. لم تسقط نقطة دم. أسفرت النتائج عن فوز هزيل لنتنياهو، ألزمه بتأليف حكومة هشة: أكثرية بصوت واحد.

إسرائيل صاحبة تقليد عريق في الممارسة الديموقراطية التي تخص شعبها. حصة العرب الفلسطينيين من هذه الديموقراطية، القبضة الحربية.

قبل ذلك، وفي زمن غير بعيد، جرت انتخابات رئاسية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. انتهت بفوز غير متوقع، لمرشح الإصلاحيين الشيخ حسن روحاني. لم يعترض أحد. كان المتوقع أن تكون الانتخابات نسخة عن المعركة التي حصلت إبان انتخاب أحمدي نجاد، وانقسام الإيرانيين حول النتائج. مرت المناسبة المقلقة بهدوء مثالي. خاب فأل الراغبين بالاصطياد في الماء العكر. انتقلت السلطة وفق نصوص الدستور، من محافظ إلى إصلاحي، بطريقة ديموقراطية، ووفق ما أفرزته صناديق الاقتراع.

الديموقراطية تتقدم في إيران. هي الآن بخير. وكما هو معلوم، إيران، ليست بداً عربياً.

وقبل ذلك، حدث أن انتقلت منظومات دولية، ودول قارية، من أنظمة توتاليتارية إلى أشكال تعددية، ومن أنظمة استبدادية إلى سلطات تصون الحريات، ومن أنظمة عسكرية إلى حياة مدنية. أوروبا الشرقية خرجت من نظام مغلق إلى أنظمة ديموقراطية. أميركا اللاتينية بدَّلت بزتها العسكرية والبوليسية. بعضها بات نموذجاً يحتذى. أفريقيا التي ابتليت معظم دولها بأنظمة عسكرية، سقطت بالاقتراع. نيجيريا مؤخراً، تشكل نموذجاً. حتى نظام الفصل العنصري، في جنوب أفريقيا، سقط وانتصرت عليه المصالحة والديموقراطية.

العرب استثناء، تخرقه تونس فقط. لبنان، ليس في الحسبان. «الديموقراطية» فيه غير ديموقراطية. الطائفية تلغي التطبيق الديموقراطي. يصح أن يقال، إن دستوره ديموقراطي، ونصوصه علمانية ومدنية، فلا تنص على دين للدولة أو لرئيسها أو لرؤسائها. غير أن لبنان محكوم بـ «توافق طوائفه» المفترض، فيما تتحكم فيه طوائفه المتنازعة... الدستور نص سلبت روحه الطوائفيات.

العرب استثناء تخرقه تونس فقط. تجربتها في «الربيع العربي» تجربة فريدة ومتفردة. نجحت تونس في قلب نظام الاستبداد، وسمحت انتخابياً بتولي «النهضة» الإسلامية السلطة، بالشراكة مع علمانيين وديموقراطيين وليبراليين. ثم نجحت في إطاحة «النهضة» ديموقراطياً، فتداول على السلطة بعد زين العابدين، حكم انتقالي، رئاسة مؤقتة، وحكومة ذات ثقل للإسلاميين، ثم جرت انتخابات، خسر فيها الإسلاميون ما كانوا قد جنوه، بعد فورة الربيع العربي.

العسكر لم يتدخل في ربيع تونس، ولا في الانتخابات، ولا في المرحلة الانتقالية. المجتمع التونسي وريث قوى نقابية وعمالية وروابط وأحزاب يسارية علمانية وديموقراطية راسخة. استطاع الاستبداد أن يقمع الحريات ولكنه امتنع عن ملاحقة الأفكار العلمانية التي أرساها حكم بورقيبة، وعجز عن محو الذاكرة الثقافية السياسية النهضوية.

الديموقراطية في تونس، يحميها مجتمعها الحاضن لتيارات عديدة، من بينها التيار الإسلامي الممثل بـ «النهضة» الذي اختار الديموقراطية طريقاً له ولسواه ولم ينقلب عليه، كما فعل «الإخوان» في مصر.

بعد تونس الطوفان

العسكر ورث بالقوة التركة المدنية والإسلامية معاً في مصر. ليبيا ركام، سوريا دمار، العراق خراب، اليمن يباب، وما تبقى من دول في الخليج والصحراء، يقودون المعارك بلا هوادة، لقسمة واقتسام المجتمعات وإقامة حدود التماس فيها على قاعدة المذاهب والطوائف.

العرب استثناء واستعصاء في زمن المحنة. فأي ديموقراطية تطل بعد وقف مرحلة «إدارة التوحش» و «إدارة الدماء»؟ أي دول وأي مجتمعات وأي أنظمة؟

إن أفضل ما يتطلع إليه المتفائلون جداً، هو تقليد نظام لبنان الفاشل جداً.

فبئس المصير.

نقلا عن: السفير