Menu

نهاية الرأسمالية: نحو إنسانية ثورية

سمير مرقص

«إنه الانشطار الكبير» وصف أطلقه أحد المثقفين الكبار على الرأسمالية بشكل عام.. ذلك لأنه منذ انطلاق «رأسمالية السوق» فى سنة 1980، عرف الكوكب رأسمالية مختلفة عن الرأسمالية التاريخية. رأسمالية ذات طابع متوحش« أفسدت الإنسان وجعلته يفقد إنسانيته بكل المعانى الدينية والإنسانية.

والانشطار الكبير، تعبير مركب ويحمل دلالات متنوعة.. الدلالة الأولى مستعارة من العلوم الطبيعية النووية. »فالانشطار« بين المركبات يعنى توليد حالة جديدة لها طاقتها وطبيعتها وملامحها.. كذلك قدرة على الحركة المتسارعة والانتشار الممتد، وهو ما جرى للرأسمالية. فرأسمالية القرن العشرين قبل 1980 كانت تتسم بالطابع الإنتاجي.. وكانت القيم المواكبة لهذه الرأسمالية تقوم على قيمة العقل لاكتشاف الجديد من خلال المعمل لضمان القدرة على التنافس، واحترام العمل وأخلاقيات الإنتاج والادخار للاستثمار من جديد لمزيد من الإنتاج.. إلا أن الليبرالية الجديدة أطلقت رأسمالية أخرى ذات طابع مالى ريعى حكمت العالم على مدى 40 سنة مسببة ما يقرب من 200 أزمة كبيرة وفجوة اجتماعية بين الأغنياء والفقراء غير مسبوقة حيث تركز المال فى أيدى قلة ثروية.. الدلالة الثانية مستمدة من علم النفس. فالانشطار دفع الإنسان المعاصر إلى التراوح ـ وربما الانقسام ـ بين إنسانية منتجة ومدخرة وتنموية إلى انسانية شرهة مسرفة ومرفهة ونزقة.. إنسانية لا تشبع تتسم بما يعرف «بالجوع الكياني» مضادة للطبيعة الإنسانية ذاتها.. وهى حالة نجحت الرأسمالية المالية الريعية أن تطلقها فى الإنسان المعاصر من خلال نظام إعلانى دقيق للغاية تجاوزت تكلفته ـ حتى النصف الأول من العقد الأول من القرن الجديد ــ 3000 مليار دولار.. وتوظيف مدروس لتقنيات التواصل لتقديم عروض مغرية عابرة للحدود للمضاربة وتشغيل الأموال فى البورصات.. أو إنتاج أعمال تليفزيونية من عينة «دالاس» ـ فى مرحلة من المراحل ـ ثم من خلال المسلسلات التركى وأخيرا ما أطلقت عليه مسلسلات «المنتجعات والمجتمعات المغلقة» العربية.. تثير المخيلة حول الثروة والثراء. فالفرد لم يعد عليه أن يشاهد الغنى وهو يزداد غنى فى هذه المسلسلات «المعقمة» فى عالم السوبر رأسمالية.. بل بات يجب أن يتخيل أن الثروة يمكن أن تكون فى متناول يديه.. وليس مصادفة أن يحدث ذلك فى اللحظة التى تراجعت فيها الحكومات عن تقديم أى خدمات. وهو ما أدى بإنسان الرأسمالية المالية أن «يرهن» نفسه لها مثل العلاقة التى تجسدت بين الإنسان وشيطان فاوست. حيث أدارت الرأسمالية المالية نوعا من المساومة الفاوستية Faustian Bargain مع الأفراد للتنازل عن انسانيتهم مقابل الاستجابة لرغباتهم كمستهلكين...وقد عبرت السينما الأمريكية بعد الأزمة المالية الكبيرة فى 2008 عن سطوة الظاهرة الاستهلاكية وكشف طبيعتها المبتذلة عندما تصل إلى حالة الإدمان كما فى فيلمي: The Secret Dream World of a ShopaholicوConfessions of shopaholic للروائية مادلين ويكهام.

أما الدلالة الثالثة فجوهرها ثقافى يتعلق بنظرة الإنسان إلى معنى الحياة. فالرأسمالية المالية أوجدت تصورا بأن الحياة تعني: «أن يعيش الإنسان كى يمتلك ويستهلك».. وأن «استهلاك المرء يعنى أنه حى تماما، ولكى يبقى حيا تماما لابد أن يستهلك باستمرار.. والأهم هو دفع البشر إلى أن يستهلكوا أكثر من حاجاتهم البيولوجية الطبيعية ليسهموا فى استمرار رأس المال المالى وليس الإنتاجى بهدف تعظيم الربح».. وخضع الإنسان لهذه الرؤية لدرجة جعلته تابعا وخاضعا يصعب عليه الإفلات من هذه الحلقة الخبيثة من التطلع الاستهلاكى والاستدانة والمضاربة والشراء بأقساط ذات فوائد مركبة والقبول بالاستعباد لدورة مالية غير آمنة، وغير منتجة.

فى هذا السياق، بات هناك اتفاق بين كل ناقدى الرأسمالية المالية جوهر اقتصاد السوق (الليبرالية الجديدة) على أن هناك ضرورة قصوى على استعادة الإنسان. ويطرح ديفيد هارفى إلى انسانية جديدة: ثورية ومتحررة.ثورية؛ ضد تركز الثروة، والقوة، والسلطة فى أيدى قلة، وضد الاحتكارات، وأية تفاوتات بين البشر... إلخ. ومتحررة؛ من النزعة الاستهلاكية، والاستبداد والعبودية والتبعية والخضوع... إلخ، ولا يمكن بلوغ الانسانية الجديدة: الثورية والمتحررة دون الوعى بضرورة تجديد الحالة الإنسانية.

وهو أمر يستدعى الاستيقاظ والتحرك الواعى من أجل وقف اللعبة غير المسئولة التى نمارسها كى نهرب من مواجهة الواقع الظالم وغير العادل.. والأكثر نتفنن فى تقديم المبررات للظلم والتى ربما نحيلها إلى أسانيد دينية، وللتسويات غير المنصفة بل المجحفة للفقراء والمهمشين وتقديمها فى أطر تبدو جميلة تريح ضمائرنا وتجعلنا نرقص رقصة «الجمال النائم» (باليه تشايكوفسكى الشهير) أو بالأحرى «النوم الجميل».

علينا إن نفهم أن الرأسمالية المالية قد شارفت على النهاية وأن تناقضاتها قد أوصلت الإنسانية إلى لحظة فارقة. ومن ثم تنامت الحركة النقدية والتى أظنها سوف تستمر ولن تقف عند حد الدراسة والبحث وإنما ـ حتما ـ سوف تنتقل إلى مساحات سياسية عملية تمكن الانسانية من تجديد نفسها لا الرأسمالية... ونتابع...

المصدر: الأهرام