منحَ مؤتمرُ سان ريمو 19 – 25 أبريل / نيسان 1920 بريطانيا "حقَّ" الانتدابِ على فلسطين دونَ استشارةِ أهلِها أو أَخْذِ رأيهم أو الاستماع إلى رغبتهم، وسعت هي بعد ذلك إلى الحصول على قرارٍ دوليٍّ من عصبةِ الأمم؛ يعترفُ لها بحقِّ الانتداب، وهو ما تحقّق في 22 يوليو / تموز 1922. ونجم عن تلك القرارات المجحفة مشكلةٌ دوليّةٌ "ساخنة" تفاقمت مع مرور الأيّام وما تزال إلى اليوم تغلي في تصاعدٍ مستمرّ، ولعلّ آخرَ ما قامت به قوّاتُ الاحتلال "الإسرائيلي" هو اغتيالُ الصحافيّة الفلسطينيّة شيرين أبو عاقلة في وضح النهار، وهي تقومُ بعملها المهنيّ المحمي دوليًّا، وَفْقًا لقواعد القانون الإنسانيّ الدوليّ، واتّفاقيّات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977، في تجاهلٍ كاملٍ وإنكارٍ مستمرٍّ للقوانين والأعراف الدوليّة، واستهتارٍ بالرأي العام العالميّ والقيم الإنسانيّة.
صكُّ الانتداب:
يصادفُ في 22 يوليو/ تموز المقبل مرور 100 عامٍ على قرار عصبة الأمم الذي كان بدايةَ المأساة الفلسطينيّة، ولا سيّما بالقضم التدريجيّ لاحتلال السوق واحتلال العمل تمهيدًا لاحتلال الأرض، الذي حاولت فيه بريطانيا "توريط" المجتمع الدوليّ ليتحمّلَ مسؤوليّته معها بدلًا من اقتصاره عليها، وذلك تساوقًا مع المشروع الصهيوني الهادف إلى إقامة دولةٍ يهوديّةٍ في فلسطين، وتنفيذًا لوعد بلفور الذي منحه وزيرُ خارجيّةِ بريطانيا السير أرثر بلفور إلى اللورد روتشيلد، القاضي بإقامة "وطنٍ قوميٍّ لليهودِ في فلسطين"، وذلك في 2 نوفمبر / تشرين الثاني عام 1917، الذي غيّر مجرى الشرق الأوسط، انسجامًا مع اتفاقية سايكس – بيكو بين وزيري خارجية بريطانيا وفرنسا (مارك سايكس وفرانسوا جورج بيكو) لتقسيم البلاد العربيّة، وبمشاركةٍ من روسيا القيصريّة وإيطاليا التي صادقت عليها حكوماتُ تلك البلدان بين 9 – 16 مايو / أيار 1916، وهي اتفاقيّةٌ كشفتها روسيا البلشفيّة بعد انتصار ثورة أكتوبر 1917 في إدانة الدبلوماسيّة السرية التي اعتمدتها الدول الاستعماريّة، خصوصًا عشيّة الحرب العالميّة الأولى، لا سيّما إزاءَ تركة الامبراطوريّة العثمانيّة.
وما بين الحربين العالميتيّن الأولى 1914 – 1919 والثانية 1939 – 1945، أي في عهد عصبة الأمم، ولاحقًا عشيّةَ وبُعيدَ تأسيس الأمم المتّحدة، أدّت بريطانيا دورًا محوريًّا في إحداث تغييرٍ ديموغرافيٍّ في فلسطين، نتج عنه تشجيعُ الهجرةِ اليهوديّةِ إلى فلسطين، التي بلغت مدياتٍ بعيدةً وبأعدادٍ ضخمةٍ في مسعى لدعم المشروع الصهيوني بالعنصر البشري، الذي ظلّ بحاجةٍ إليهِ حتّى اليوم، وتهجير الشعب العربيّ الفلسطينيّ من وطنِهِ وحرمانِهِ من حقِّهِ في تقرير مصيره.
الاستراتيجيّةُ الصهيونيّة:
لقد ظلّت الاستراتيجيّةُ الصهيونيّةُ منذ ذلك الوقت حتّى هذهِ اللحظة، تقومُ على عنصرينِ أساسيّينِ؛ أوّلُهما: محاولةُ استقطابِ يهودِ العالم والزعم بتمثيلهم، وخصوصًا بالهجرة إلى "إسرائيل" طبقًا للرواية الصهيونيّة بأنّ "فلسطين" أرض الميعاد؛ وثانيهما: الإجلاءُ والترحيلُ والتهجيرُ للفلسطينيّين (الترانسفير) وطردهم من بلادهم مقابل الإحلال والاستيطان وبناء المستعمرات. وظلّت "إسرائيلُ" بحاجةٍ إلى كلا الركنين، ليس لمرحلة التأسيس وحسب، بل حتّى في الثمانينات سعت الصهيونيّة لعقد صفقة الفلاشا (مع يهود أثيوبيا) بعمليّةٍ سريّةٍ قام بها جهازُ الموساد "الإسرائيلي" وبتواطؤٍ من الرئيس السودان ي محمد جعفر النميري، وذلك عام 1985 وما بعده. وكان الدعم الأكبر للاستراتيجيّة الصهيونيّة في نهاية الثمانينات بفتح باب هجرة اليهود السوفييت إلى "إسرائيل" الذي بلغ عددُهم نحوَ مليون مهاجر. و"إسرائيل" إلى اليوم بأمسّ الحاجة إلى العنصر البشري، بحكم الزيادة السكانيّة الفلسطينيّة وارتفاع عدد المواليد.
توريط المجتمع الدولي:
لم تكتفِ بريطانيا بالتواطؤ مع الصهيونيّة فحسب، بل عملت على إشراك المجتمع الدوليّ في تحقيق أهداف الحركة الصهيونيّة، وذلك بعرضها قضيّة فلسطين على الأمم المتّحدة بعد تنصّلها من مسؤوليّاتها، خصوصًا بعد تهيئة كلّ المستلزمات لقيام "دولة إسرائيل" ومماطلتها في منح الشعب العربيّ الفلسطينيّ حقَّهُ في تقرير مصيره، وإنهاء الانتداب البريطاني، خصوصًا في لحظة التباسٍ دوليّة، حيث "فازت" الصهيونيّةُ بالحصول على دعم الغرب والشرق على حساب أصحاب البلاد الأصليّين، وكأنّ الصراعَ الدوليَّ دخل حالةَ غيبوبةٍ ليصحوَ على مساومةٍ تاريخيّةٍ ظالمةٍ لحظةَ البت بمستقبل فلسطين عام 1947، وما بعدها عند تأسيس "إسرائيل" عام 1948.
إنّ محاولةَ بريطانيا إشراك المجتمع الدولي لم تكن سوى عمليّةِ تهرّبٍ من المسؤوليّة الملقاة على عاتقها باعتبارها الدولةَ المنتدبة، حيث قرّرت بريطانيا في 2 نيسان / إبريل 1947، رفع القضيّة الفلسطينيّة إلى الأمم المتّحدة، ثم أعقبتها بخطوةٍ أخرى في 26 أيلول / سبتمبر من العام نفسه، حيث أعلنت نيّتها في الانسحاب من فلسطين، خصوصًا بعد احتدام النقاش والجدل بشأن القضيّة الفلسطينيّة، وتصاعد نضال الشعب العربي الفلسطيني ودعم وإسناد الشعوب العربيّة؛ بهدف إلغاء الانتداب، وتحقيق انسحاب القوّات البريطانيّة، ومن ثَمَّ تمكين الشعب العربيّ الفلسطينيّ من تقرير مصيره بنفسه.
وقبيلَ إعلان بريطانيا انسحابها، أثارت فتنةً كبرى وأشعلت أوار حربٍ أهليّةٍ بين سكّان البلاد الأصليّين وبين المستوطنين اليهود، وذلك لرمي مسؤوليّة اتّخاذ قرارٍ بحلٍّ القضيّة الفلسطينيّة على الأمم المتّحدة والمجتمع الدولي والتخلّص من مسؤوليّة الانتداب الذي يقضي "إقامةَ حكومةٍ وطنيّةٍ فلسطينيّةٍ تتسلّم مقاليدَ الأمور بعد خروج الدولة المنتدبة".
وبعد مناقشات وصراعات وتقديم العديد من المقترحات صدر القرار 181 والمعروف ﺑ قرار التقسيم في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 بأغلبيّة 33 صوتًا مقابل 13 صوتًا ضدّ القرار، وامتناع 10 دولٍ عن التصويت. وأثار هذا القرار جدلًا طويلًا ولم ينقطع حتى الآن، حتى بدا بحكم استمراره وتواصله قضيّةً راهنيّةً وليست تاريخيّةً فحسب؛ بسبب الاستقطابات والتقاطعات وتبدّل المواقف، ناهيك عمّا ألحقه من أذى ما يزال مستمرًّا ومتعاظمًا بحقِّ الفلسطينيّين والأمّة العربيّة ومسألة التقدّم والتنمية بعموم المنطقة، خصوصًا وأنّ تداعياته تركت بؤرةَ توتّرٍ مستديمةً للصراع في الشرق الأوسط، وهي أقربُ إلى بؤرةٍ بركانيّةٍ عدوانيّةٍ تنفجرُ بين الفينة والأخرى دون أن يلوح أيَّ أملٍ في سلامٍ عادلٍ وأمنٍ وأمانٍ حقيقيّين في الشرق الأوسط بوجودها.
الذكرى المئويّة:
إنّ اقترابَ الذكرى المئوية لقرار العصبة بالموافقة على انتداب بريطانيا على فلسطين، يعيدُ إلى الأذهان المأساةَ الفلسطينيّةَ التي ما تزالُ ماثلةً للعيان كأكبر مأساةٍ عرفها التاريخ المعاصر، كما يعيد مسؤوليّة بريطانيا "الدولة المنتدبة" والمجتمع الدولي "عصبة الأمم" وبعدها "هيئة الأمم المتّحدة"؛ الأمرُ الذي يتطلّب تصحيح هذا المسار انسجامًا مع مبادئ العدالة والإنصاف، التي جسّدها ميثاقُ الأمم المتّحدة، وريث عهد عصبة الأمم.
وإذا كان من غير الممكن إعادةُ عجلة الزمن إلى الوراء، إلّا أنّه من المناسب اليوم وقد تعزّزت شرعة حقوق الإنسان الكونيّة، وتجذّرت القيم الإنسانيّة على المستوى النظريّ على أقلِّ تقديرٍ بصدور العديد من الاتفاقيات والمواثيق الدوليّة، كما تعمّقت قواعدُ القانون الدوليّ والقانون الإنسانيّ الدولي، أن يتوقّف المجتمع الدوليّ لإعادة النظر بما حصل للشعب العربيّ الفلسطينيّ وتعويضه عمّا لحق به من غبن وأضرار وهو ما طالبت به جهاتٌ حقوقيّةٌ عربيّةٌ وشخصيّاتٌ بارزة، الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش، داعيةً إلى الإفساح في المجال لعقد ندوةٍ دوليّةٍ في مبنى الأمم المتّحدة في المقر الرئيسي (جنيف)، وهو المبنى الذي بارك عمليّة التغيير الديموغرافي القسريّ في فلسطين، في ظلّ الانتداب الذي منحته العصبة إلى بريطانيا.
ويبقى الأملُ في أن تنعقدَ هذه الفعالية الحقوقيّة في تموز/ يوليو 2022، وهي مناسبةٌ للذكرى الأمميّة لمرور 100 عام على تصديق عصبة الأمم على صكّ الانتداب في فلسطين، وحتّى اليوم لم يستلم الدكتور جورج جبور بصفته رئيسًا للرابطة السوريّة للأمم المتّحدة وكاتب السطور بصفته الأمينَ العام للرابطة العربيّة للقانون الدولي ما يفيد بالتحضير لمثل هذا الحدث، وهو ما يدفعهما لعقد ندوةٍ أو جلسةٍ لمناقشة الأمر على المستوى العربيّ في إطار توجّهاتٍ حقوقيّةٍ وإنسانيّةٍ بإطلاق حملةِ تضامنٍ عالميّةٍ جديدةٍ مع الشعب العربيّ الفلسطيني، فكلّ ما جرى في فلسطين خلال اﻟ 100 عام يعدُّ جريمةً دوليّةً ضدَّ الإنسانيّة، لا بدَّ للعالم المتحضّر من وضع حدٍّ لها.