Menu

هل تمتدُ الحربُ على أوكرانيا إلى فنلندا والسويد؟!

محمد صوان

نشر هذا المقال في العدد 38 من مجلة الهدف الإلكترونية

عند كتابةِ هذه السطورِ تكون المساعي من أجلِ انضمامِ فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو" قد دخلت حيّزَ التطبيق... ولكن مع حالة الانقسام والتصعيد بين المعسكرين الأوكرانيّ الغربيّ من جهة، والروسيّ من جهةٍ أخرى، فإنّ ذلك يبدو أشبهَ بمخاطرةٍ كبيرة...!

إذا نظرنا إلى موقع فنلندا والسويد الجيوسياسي نجد فنلندا على وجه التحديد تمتلك نحو "1300 كم" من الحدود المشتركة مع روسيا، علاوةً على أنّها الجار الملاصق لدولة السويد المطلّة على البلطيق شمالًا.

بالعودة إلى الحرب الروسيّة على أوكرانيا التي انطلقت بالأساس لمنع الأخيرة من الانضمام للناتو فإنّ موافقة فنلندا والسويد على الانضمام للناتو، ومن ثَمَّ استكمال خطوات التنفيذ في هذا الربيع تبدو مقلقةً جدًّا للقيادة الروسيّة.

يقول الساسةُ الفنلنديون والسويديون الذين كانوا حتى أسابيعَ قليلةٍ ماضية، رافضين مبدأ الانضمام للحلف العسكريّ، ومفضّلين البقاء على الحياد أنّهم: "ما عادوا يثقون بالروس، وأنّهم يفضّلون أن يكونوا ضمنَ المنظومة الأطلسيّة"... ليس هذا الموقفُ قاصرًا على السياسيّين، حيث تفيدُ استطلاعات الرأي بأنّ الانضمام إلى "الناتو" يحظى بدعمٍ شعبيٍّ كبيرٍ في كلا الدولتين، وبلا مثيل، وذلك بسبب قناعة الكثيرين بوجود تهديدٍ روسيّ... فعبر متابعة مجريات التطوّرات على الساحة الأوكرانيّة، يمكن أن نستوعبَ هذا التغيير في نظرة الرأي العام المبنيّ على خشية الفنلنديين والسويديين من أنّهم إذا ما استمرّوا مجرّد أصدقاء غيرَ منضمّين للحلف، فإنّهم "قد يُتركون لمواجهة مصيرهم، كما تُرِك الأوكرانيّون، وعندها ستكون مأساتهم أكبرَ نظرًا للاختلال الكبير في الميزان العسكريّ بينهم وبين روسيا.

الالتحاقُ بالناتو خطوةٌ استباقيّة:

من الجانبِ المنطقيّ والعقلانيّ، لن تكون روسيا المتورّطة في أوكرانيا، التي لم تعد تتجاهلُ التقليل من خسائرها العسكرية – الانسحاب من كييف وغرق الطرّاد موسكوفا نموذجًا – متحمّسةً لفتح جبهةٍ جديدة، خصوصًا مع التأثيرات الموجعة للمقاطعة الاقتصاديّة والحصار السياسيّ الذي فُرض عليها، ضمنَ العقوبات الأمريكيّة والغربيّة... لكنّ المعضلة أنّ الأمور لا تسير وفقَ المنطق والحسابات العقلانيّة، حيث كانت تؤشّرُ إلى أنّ روسيا لن تُقدم على اجتياح أوكرانيا بسبب ما تعانيه من أزماتٍ اقتصاديّة، وتواجهه من تذمّرٍ سياسيٍّ داخلي، لكن ما حدث غير ذلك..!

مهما كانت نتائجُ الحرب، فالمؤكّدُ أنّ خسارةَ الأوكرانيّين كبيرة، إلى درجةٍ يصعبُ تعويضها، كما أنّ الفنلّنديين والسويديّين لا يرغبون في التعرّض للمصير ذاته، حتّى وإن تعرّضت روسيا بعد ذلك لعقوباتٍ جمّةٍ أو ملاحقاتٍ قانونيّة... والواضحُ حتّى الآن أن حلف "الناتو" وبعكس موقفه السابق من أوكرانيا – المتّسم بالتردّد – نجدُهُ متحمّسًا لضمّ فنلندا والسويد لأسبابٍ عدّة، منها الاختلاف والتباين بين كلّ من أوكرانيا ودول البلطيق الأقرب إلى دول أوروبا الغربيّة جغرافيًّا، والمتأسّسة على نظامٍ ديمقراطيٍّ راسخ... أمّا السببُ الجوهريُّ لحماس الأطلسيين فهو ما يتّصلُ بالصراع الدائر اليوم، فانضمامُ دولٍ جديدةٍ ومجاورةٍ للحلف في هذا التوقيت يعني أنّ الحرب على أوكرانيا لم تنجح في هدفها الأساسي، وهو وقفُ تمدّدِ الحلف ومنعه من أن يكون أكثرَ اقترابًا من الحدود الروسيّة، الأمر الذي يعني استراتيجيًّا، إنّ روسيا خسرت الحرب وتسبّبت بدمارٍ كبير، وخسائر كثيرة بالأرواح وتشريد أكثر من خمسة ملايين من الأوكرانيين.

الخصوصيّة الفنلنديّة:

سيكونُ لانضمام فنلندا إلى حلف الناتو تداعياتٌ كبيرةٌ للحرب على أوكرانيا، ففنلندا التي خاضت صراعًا مريرًا مع الاتّحاد السوفييتي في ثلاثينات القرن الماضي وانتهى إلى توقيع اتفاق سلام عام 1948 تضمّن الإقرار بأن تكون بلدًا محايدًا عسكريًّا وغير منتمٍ لأيّ تحالفٍ عسكريٍّ مُعادٍ لروسيا... بينما تشير المستجدّات اليوم أن ذلك التاريخ الطويل من السلام، الذي التزم به الطرفان عقودًا، قد تمَّ تجاوزه، وهو ما يفسّرُ تحذيرُ نائب رئيس مجلس الأمن القوميّ الروسيّ ديمتري ميدفيديف حينما قال: "إنّ منطقة البلطيق لن تكون مكانًا خاليًا من السلاح النووي، وأنّه سيتوجب استعادة التوازن".

لقد أصبحت "الحالة الفنلنديّة" مصطلحًا من مصطلحات السياسة الدوليّة، يشار من خلالها إلى الدول الصغيرة التي ينبغي أن تأخذ في اعتبار سياساتها مصالح جارتها الكبيرة مع الاحتفاظ باستقلالها ونظام الحكم وشكله فيها... فنلندا التي نجحت في تأدية دور المحايد والمنطقة العازلة إبان الحرب الباردة كانت مثالًا مهمًّا على الصعيد الدولي. فعبرَ الدبلوماسيّة الهادئة تمكّنت فنلندا بأنّ تكون جزءًا من الغرب الأوروبيّ بقيمه الليبراليّة واقتصاده المفتوح وديمقراطيّته، لكن من دون الانضمام إلى الناتو، هذا التوازنُ أو لنقول الهامش فسح المجال لبعض التدخّلات الروسيّة في الشؤون الداخليّة، التي كانت الحكومات الفنلنديّة المتعاقبة تتعاملُ معه بمرونة، متّبعة ما كان يُعرف بـ "مبدأ باسيفيكي" نسبة للرئيس الفنلندي كوستي باسيفيكي الذي تولّى الرئاسة بين عامي 1946 – 1956 ووضع أسس العلاقات الخارجيّة لمرحلة ما بعد الحرب العالميّة الثانية، وأعطى فيها الأولويّة لسياسة حسن الجوار مع روسيا، وهو ما كان يظهر عبر الرقابة الفنلندية الجادة في مواجهة منتقدي "النظام الشيوعي" السابق.

إبّانَ الحرب الروسيّة الأولى على أوكرانيا عام 2014 قرأ بعض المحللين المعركة بوصفها "تحييدًا لأوكرانيا" أو بعبارة أخرى "تماثلها مع الحالة الفنلنديّة" وهو ما كانت ترفضه أوكرانيا، متمسّكةً بحقّها بأن تقرّر بشأن سياستها الداخليّة والخارجيّة وتحالفاتها أيضًا؛ الأمرُ الذي تسبّب باندلاع الحرب الحالية.

يوضحُ هذا الاستطرادُ مدى التحوّل الذي أفرزته التطوّرات الأخيرة في الشرق والشمال الأوروبي، وكيف أنّ دولةً مسالمةً مثل فنلندا أو السويد آخذةً بالاعتبار أن تخلّي أوكرانيا عن سلاحها النووي لم يجعلها محلّ حمايةٍ من الآخرين، بقدر ما جعلها "لقمةً سائغةً للطامعين".. ونجد التحوّل نفسه عند دولٍ أطلسيّةٍ أخرى مثل ألمانيا التي قرّرت زيادةَ نسبة الإنفاق العسكريّ على ميزانيّتها الجديدة.

 الخشيةُ هنا أنّ مجرّد بَدْءِ إجراءات الانضمام يمكن أن يعدّ سببًا كافيًا لروسيا لإعلان الحرب التي لوّحوا بأنّها قد "تشمل رؤوسًا نوويّة"، لأنّ فنلندا أو السويد لن تكونا قد أصبحتا أعضاء في الناتو، أي أنّهما لن تكونا مؤهلتين للاستفادة من المادة الخامسة من نظامه الداخلي التي "تعد الاعتداء عليها اعتداء على الجميع" ولحل هذه الإشكالية يقترح أمين عام حلف الناتو ستولتنبيرغ: "تقديم ضمانات للدولتين بمجرد شروعهما في إجراءات الانضمام، فإن حمايتهما مكفولة أسوة بدول الحلف الأخرى".

خلاصةُ القول:

ربّما تخرجُ الحربُ الروسيّة على أوكرانيا عن سياقها وجغرافيّتها الحاليّة، متطاولةً دولًا أخرى، خصوصًا في البلطيق "ليتوانيا، إستونيا، لاتفيا" والشمال الأوروبي "فنلندا والسويد"، لقد اجتاحت روسيا أوكرانيا في شباط 2022، غيرَ أنّ المؤشّرات تدل على أن العودة إلى وضعية ما قبل شباط 2022 لم تعد أمرًا واقعيًّا، سواءً في العلاقات بين روسيا والغرب، أو بين روسيا وأوكرانيا... في السابق كان في وسع القيادة الروسيّة الاعتماد على غضّ نظر الحلف الأطلسي، لفرض نفوذها في الشيشان وجورجيا ولاحقًا سورية، فخروج الأمور عن السيطرة بالنسبة لموسكو يعني توسيع مدار الجبهات الجيوسياسيّة والعسكريّة، في موازاة تدهورٍ اقتصاديٍّ وتململٍ شعبيٍّ روسي...!

الحقيقةُ الصارخةُ هنا أنّ حلف شمال الأطلسي آخذٌ في التوسّع في أمكنةٍ كانت محرّمةً عليه... "فنلندا والسويد" لن تتأخّرا في الانضمام إليه، ما سيفرض تغييرًا جوهريًّاً في الموازين ويوسّع احتمالات الاحتكاك المباشر بين "الناتو" وروسيا من القطب الشماليّ إلى البحر الأبيض المتوسّط، بعدما كان من البلطيق إلى المتوسّط، فالولايات المتّحدة ومعها الغرب، تعلّم أنّه لا يمكن تجريد روسيا من قوّتها العسكريّة، لكنّها تدرك أنّ روسيا تجاوزت بالنسبة إليها "خطوطًا حمرًا" لا يمكنها التسامح بشأنها... وهنا ينبغي التشديد على أنّ السلوك الأمريكي والغربي لا يعني أنّه محقّ، لكنّه يعني أن انتصاره في الحرب العالميّة الثانية "1939 – 1945" وتثبيته ذلك الانتصار وَفْقَ قواعده السياسيّة والاقتصاديّة، أكبر من أن تهزمه روسيا منفردةً بقواعد اللعبة الحاليّة...!