Menu

ارتفاعُ المنسوبِ النضاليّ ضدّ الوحشيّة الصهيونيّة

غسان أبو نجم

نشر هذا المقال في العدد 38 من مجلة الهدف الإلكترونية

علمتنا تَجارِبُ الشعوبِ المناضلة ضدّ الاحتلال، عبرَ التاريخِ أنّ أحدَهم يقومُ على نفي الأخر، فإمّا دحر الاحتلال وتحقيق الحريّة والاستقلال، وإمّا الرضوخُ لشروط المحتل وتقبّل الهزيمة، وعلى أرضيّة هذا الفهم، تصاغُ البرامجُ وتحدّدُ الأدوات والسياسات العمليّة. ولأنّ طبيعةَ الصراع في حالةِ تغيّرٍ مستمرّ، فإنّه وبالضرورة يستلزم تغيّر في الأدوات والسياسات والبرامج، بما يخدمُ مصلحةَ كلِّ طرفٍ من طرفي الصراع.

إنّ نظرةً متفحّصةً لطبيعة الصراع الفلسطيني - الصهيوني، نجدُ أنّ المنحنى النضاليّ الفلسطينيّ في تصاعدٍ لافت، قابله ازديادُ وحشيّة الاحتلال الصهيونيّ وعنصريّته في الردّ. لقد انتهج الاحتلال الصهيونيّ سياسةً ثابتةَ المعايير تجاهَ الشعب الفلسطيني قائمةً على مبدأ الإحلال، وليس الاحتلال للأرض الفلسطينيّة فقط، بمعنى سلب الأرض والمسكن ووسيلة الإنتاج وتدمير البِنية الثقافيّة التاريخيّة للشعب الفلسطيني، وهذا التدمير يبدأ من خلال اغتيال الحلم الفلسطينيّ وقتل الزمن المقبل عبرَ سياسة التفريغ والإلحاق والسيطرة المسبقة على مجريات الزمن القادم. وتجلّت هذه السياسة في العديد من نواحي الحياة الفلسطينيّة، بل رأينا تجلّياتها في مجموعة المشاريع السياسيّة التي حاول العدوّ اقتراحها أو فرضها عبرَ وسطائه وشركائه المحلّيّين والعالميّين، الذين ساهموا في استباحة الدم الفلسطيني.

فمنذُ بداية الصراع الفلسطينيّ – الصهيوني، اتّبع الاحتلالُ الصهيونيُّ سياسةَ التطويع للشعب الفلسطيني، عبرَ انتهاجِ سياسةِ المفاوضات العبثيّة والعمل ضمنَ دهاليز الحلول السياسيّة التي لن تفضي لأيّ حلولٍ عمليّةٍ للصراع، إنّما تعطي الاحتلال المزيد من الزمن لتحقيق أهدافه في السيطرة على مجريات الصراع في المنطقة، والتوسّع والتمدّد على حساب الشعب الفلسطيني أرضًا وكيانًا، عبرَ زرع المزيد من المغتصبات الصهيونيّة ومصادرة الأراضي وكسر وحصار البندقيّة المقاومة التي اعتبرها الاحتلال العمود الفقريّ للمقاومة، عبرَ تشتيتها وإبعادها عن مناطق التماس الجغرافيّ (لبنان الأردن سوريا)، وعمل بالتعاون والتنسيق مع حلفائه على تدمير المنظومة السياسيّة والنضاليّة للشعب الفلسطينيّ.

فمنذ بداية الصراع الفلسطينيّ - الصهيونيّ ما بعد عام 1967 وانطلاق الثورة الفلسطينيّة الحديثة والعدوّ وحلفائه، يغرقون المنطقة العربيّة بالمشاريع السياسيّة الهادفة إلى بقاء تمدّد العدوّ الصهيونيّ، وإرساء قواعد كيانه المصطنع على الأرض الفلسطينيّة، والانطلاق نحو السيطرة على مجريات الصراع في المنطقة، عبرَ برنامج التطبيع الذي تجلّى بصفقة القرن والولايات المتّحدة الإبراهيميّة، مرورًا بحلّ الدولتين والحلّ الوسطيّ الإقليميّ ومدريد وأوسلو، الذي شكّل أكبر خطرٍ على الثورة الفلسطينيّة ومجريات الصراع الفلسطينيّ - الصهيونيّ، يقابل هذه الاستراتيجيّة الصهيونيّة الثابتة في ترسيخ قواعد الكيان الصهيوني، التي سخّرت لها كلّ الإمكانات والتحالفات، تخبّط وانحياز عن طريق الأهداف الفلسطينيّة في تحرير فلسطين، قادها اليمين الفلسطينيّ المتنفّذ الذي مثل الشريحة البرجوازيّة الوطنيّة التي تميّزت بقصر النظر والنفس، ومارست العمل النضاليّ ضمنَ رؤيتها الطبقيّة التي فرضت عليها برنامجها السياسيّ وشكّل التحالفات، فغرقت في مستنقع التسويات السياسيّة، بدءًا بتغيير الميثاق الوطنيّ الفلسطيني والقبول بحلّ الدولتين والاتّفاق على مخرجات مؤتمر مدريد، وعقد لقاءاتٍ سريةٍ مع ممثلي الكيان في أوسلو، الذي تمخّض عنها اتّفاق غزة أريحا أوّلًا، الذي بموجبه تمَّ دخول الفصائل الفلسطينيّة إلى الأراضي المحتلّة عام 1967، وتشكيل السلطة الفلسطينيّة التي غرقت حتّى أذنيها في الفساد، وحوّلت مقاتليها إلى جيشٍ من الكتبة والموظفين وأصحاب امتيازات. وعلى الصعيد الأمني، نفذت السلطة مشروع دايتون في قمع وسحل وقتل وتسليم المقاومين الفلسطينيين وخلق حالة من الإحباط في صفوف الشعب الفلسطيني، وغرق الشعب الفلسطيني في دوامة البطالة والفقر وحدث الانقسام بين غزّة والضفّة وتشتّت الرؤية السياسيّة في مواجهة الاحتلال، وتحوّلت السلطة إلى شريكٍ تابعٍ للاحتلال اقتصاديًّا وسياسيًّا وأمنيًّا، ودخل الشعب الفلسطينيّ في دوامة صراعٍ جديدة، تمثّلت في مقاومة المحتلّ الصهيونيّ ومشاريعه الهادفة لتصفية القضيّة الفلسطينيّة وجودًا وكيانًا، وضدَّ السلطة التي انقلبت على التاريخ النضاليّ للشعب الفلسطينيّ وشطب كلّ منجزاته، بدءًا من إسقاط الخيار المسلّح في مواجهة الاحتلال إلى شطب الميثاق الوطني وتحويل المجلس الوطني و. م. ت. ف إلى واجهاتٍ ديكوريّة. ولقد رافق هذا الترهّل الفلسطينيّ العام، وحشيّة صهيونيّة في مواجهةٍ أيّ تحرّكٍ فلسطينيٍّ وتمادى في تغيير الوضع التاريخيّ والدينيّ للقدس وشنّ غاراتٍ تدميريّةٍ على غزة شعبًا ومقاومةً، وتغوّل على باقي شعوب المنطقة، عبرَ الضرب والتهديد لسوريا وجرّ أنظمة الغاز والكاز للتطبيع القسريّ مع المحتلّ، ممّا دفع الجماهير الفلسطينيّة الغاضبة إلى التحرّك العفويّ ضدَّ الاحتلال وخنوع السلطة، بهدفِ حماية الوطن الفلسطينيّ من النهب والتهويد، فانطلقت الجهود الفرديّة والجماعيّة لمواجهة الاحتلال في بيتا والشيخ جراح والاعتصام في الأقصى لمواجهة قطعان المستوطنين، والقيام بعمليّاتٍ عسكريّةٍ ضدَّ الاحتلال خطف أو قتل أو تفجير، دون تحرّكٍ فعليٍّ لفصائل العمل الوطنيّ لدعم هذا التحرّك، مما دفع هذه الجماهير الغاضبة للاستنجاد بالمقاومة في غزة والمقاومة اللبنانيّة لإسناد هذا التحرّك بعد حالة اليأس وفقدان الأمل بالإسناد إلى أنّ جاء ردّ المقاومة في غزة، عبرَ معركةٍ نوعيّةٍ سمّيت سيف القدس التي شكّلت الدفعة الكبيرة للجماهير الغاضبة التي انطلقت في كلّ أنحاء الوطن المحتلّ في يافا واللدّ والنقب والخليل وجنين.

لقد شكّلت سيف القدس ميكانزم الدفع النضاليّ للفصائل والجماهير الفلسطينيّة، وأثبتت أنّ تكلفةَ الحرب أقلُّ من كلفة الهزيمة، وأنّ الاحتلال وكيانه نمر من ورق، وأنّ الطريق الصحيح والواضح لدحر الاحتلال هو المواجهة، بل وأعادت إلى الثورة ألقها، وأوقفت ولو ليس بشكلٍ كاملٍ الهرولة المجانيّة نحو التطبيع، ورفعت المنحنى النضاليّ الفلسطينيّ في مواجهة وحشيّة الاحتلال الصهيونيّ، وأطلقت وبلا عودة عنفوان النضال ضدّ المحتلّ، وفتحت آفاقًا جديدةً للعمل الوطني الفلسطيني، وحدت من امكانيّة تراجع هذه الفصائل للوراء، حتى وإن اتّخذت قيادتها السياسيّة، ذلك لأنّ إنجازات هذه المعركة أضحت ملك الجماهير الفلسطينيّة التي أثبتت أنّها الحاضنة الأساسيّة للثورة ووقوده الذي لا تنتهي جذوته، وستبقى في طريق مقاومة المحتل حتّى دحره والعمليّات النوعيّة في جميع أنحاء الوطن وصمود جنين وجماهير القدس، شاهد على ذلك.