Menu

المؤسّساتُ الإسرائيليّةُ استيطانيّةٌ وليست خيريّة

د. إلهام شمالي

نشر في العدد 38 من مجلة الهدف الرقمية

    كثيرةٌ هي المؤسّسات الصهيونيّة التي اتّخذت الطابع الخيريّ في نشاطها؛ ليُسمحَ لها بالعمل في فلسطين منذ منتصفِ القرنِ التاسع عشر، مثل: مؤسّسة اتّحاد الإليانس الفرنسيّة، ومنظّمة هداسا الطبيّة، إلا أنّ العمل الخيريّ الذي جاءت به لم يكن سوى غطاءٍ لاستيطانٍ وسلبِ الأرض الفلسطينيّة، ومن تلك المؤسّسات التي روّجت عن نفسها الطابعَ الخيريّ بين يهود العالم، مؤسّسة الصُّنْدوق الْقَوْمِيّ الْيَهوديّ "الكيرين كاييمت"، التي تعدُّ من أهمِّ الْمُؤَسَّساتِ التي انبثقَت من الْمُنَظَّمَةِ الصّهْيونِيّةِ عامَ 1901م، من حيث إنّها جسّدَت أيدولوجيّةَ الاسْتِعْمارِ الاستيطانيّ الإحلاليّ تَجاهَ أرضِ فِلَسْطين وشعبِها، فكشفَتْ مبادِئُها عن الأصولِ العُنْصُرِيّة التي صاغَتها الْمُنَظَّمَةُ الصّهْيونِيّة، وألزَمت بها جميعَ مؤسّساتها؛ للهيمنة على فِلَسْطين حتى قبلَ صدورِ تصريحِ بلفور عام 1917م؛ فكانَ الكيرين كاييمت أَحَدَ أهمّ رَكائزِ إقامَةِ الدَّوْلَةِ الصّهْيونِيّة عام 1948م.

     عديدةٌ هي الوسائلُ التي تستخدمها الحركةُ الصهيونيّة، ومن ثَمَّ دولة الاحتلال للسيطرة على الأرض الفلسطينيّة ما بين السلب بالإرهاب، أو الاحتيال والتزييف للوثائق والمستندات الخاصّة بالأراضي، أو بالقوّة العسكريّة، أضف إلى ذلك سنَّ التشريعاتِ الإٍسرائيليّة عبرَ الكنيست الإسرائيلي، لفرض التهجير القسري المبطّن، والتطهير العرقي الصامت، ومن ثَمَّ استكمال الهيمنة على الأرض وتوسيع الاستيطان وتعميقه في الأراضي التي لم يصل إليها من قبل، واستمرّت حتى يومنا هذا في نشاطها الاستيطاني.

      أمّا تمويلُ هذهِ المؤسّسة الاستيطانيّة فتمثّلت في التَّبَرُّعات الحرَّة، التي اتَّخَذَتْ في بعض الأحيانِ طابعًا إنسانيًّا، إلا أنّها لم تكن مُؤَسَّسَةً خيريّةً بأيّ شكلٍ من الأشكال، على الرغم من أنّها تحاولُ التسويق عن نفسها عبرَ فروعها ولجانها في الخارج الطابع الإنساني والخيري لنشاطها الاستيطاني في فلسطين بين التجمّعات اليهوديّة، بل على العكسِ تمامًا، كان هَدفُها شِراءَ الأَرضِ والاستحواذِ علَيها، وتشريد أصحابها، عبرَ ممارسةِ عمليّاتِ الطرد والترحيل المنظّم لإقامة وطنٍ قوميٍّ لِلصَّهايِنَة في فِلَسْطين، بل واعتبارها مِلكًا للشعب اليهودي لا يمكن التنازل عنها بحالٍ من الأحوال، أو حتّى السماح للعرب بالعمل فيها أو استئجاره، وبشكلٍ سريعٍ فقد وصل لخزينة المؤسّسة حتّى نهايةِ عام 1948م، ما يُقارِبُ 31.205.999 جنيهًا استرلينيًّا، حَيْثُ جُمعَ حتى1940م نحو 6.328.249 جنيهًا فَقَطْ، أمّا المبلغ الأكبر فقد جمعه في السنوات الثمانية الأخيرة من عمر حكومة الانتداب البريطاني1940-1948م، ويبلغُ نحو 24.877.750 جنيهًا؛ ممّا يدلّل على حجم الدعمِ الدّولِيّ الذي تلقّته المؤسّسةُ للتسريعِ من وتيرةِ استيطان فِلَسْطين وتهويدِها، حتّى في السنوات التي عُرِضت فيها قضيَّةُ فِلَسْطين على هيئةِ الأمم المتّحدة عام 1947م.

      خلالَ حربِ عام 1948م كان الصُّنْدوقُ عنصرًا أساسًا في محاربة الْفِلَسْطينِيّين، حَيْثُ شارك في عمليّات طردهم من قراهم ومدنهم، فكان يوسيف فايتس بصفته رئيسًا للصندوق عنصرًا أساسًا في وضع خططِ ترحيلِ الفلسطينيين من أراضيهم واحْتِلَالها عبرَ المذابحِ الدمويّة والتدمير الاقْتِصَادِيّ والترويعِ وبثّ الإِشاعات بينهم، ومن بينها خطّة داليت لتدمير القرى الفلسطينيّة وترحيل الفلسطينيّين من الجليل ومناطق شمال فلسطين والسيطرة على أكبر مساحةٍ من فلسطين قبل الانسحاب البريطاني، وفرض وجودٍ استيطانيٍّ فيها، وربطت المستوطنات بعضها بعضًا، وتأمين المواصلات فيما بينها، والعمل على ضمّ ما يمكن ضمّه من الأراضي التي بقيت خارج الدولة اليهوديّة بموجب قرار التقسيم لعام 1947م، حَيْثُ عملت المؤسّسة، إلى جانبِ المنظّمات الْعَسْكَرِيّة الصّهْيونِيّة، على تفريغ أراضي فِلَسْطين من أصحابها بالوسائِلِ كافةً، ولكن لا بدَّ من القول هنا: إنّ مناعةَ المُسْتَوْطَنات التي أقيمت وَفْقَ نظام السور والبرج، قد أسهمت في صمود الْمُسْتَوْطِنين أمام ضربات المُقاوَمَة الْفِلَسْطينِيّة خلال حرب عام1948م.

     على كلٍّ بلغ حجمُ الأراضي الفلسطينيّة التي سيطرت عليها المؤسّسةُ حتّى مايو عام 1948م، نحو 936.000 دونم فقط، ما يعادل 3.5% من مَسَاحَة فِلَسْطين الكليّة، إلا أنّها لم تكن مسجّلةً في سجلّات الطابو التابعة لحكومة الانتداب البريطاني، هذهِ الْمَساحَةُ تعدُّ محدودةً في ضوء التسهيلات التي قدّمتها سلطات الانْتِدَاب البريطاني للمشروع الصهيوني طيلةَ ثلاثةِ عقودٍ من فرض الانتداب البريطاني على فلسطين، مقارنةً بالْأَرَاضي التي استولوا عليها بالقوّةِ الْعَسْكَرِيّةِ والإرهاب المنظّم، الذي نفّذته عصابات الهاغاناة والبالماخ وشتيرن، من مجازرَ مروّعةٍ قتلت فيها المئات، لتقيمَ دولةً فوقَ أجسادِ أطفالٍ ونساءٍ وشيوخٍ فلسطينيّين، حيث تمكّنت المنظّمةُ الصهيونيّةُ من احْتِلَال 78% من مَسَاحَة فِلَسْطين خلال حرب عام 1948م، لتقامَ دولةُ الاحتلال (إِسْرائِيل) على مَسَاحَة 22.920.000 دونم من فِلَسْطين، ووَفْقَ خطوط الهدنة الْعَرَبِيّة الإِسْرائِيليّة، ومن ثَمَّ أقرَّ الكنسيت الإسرائيلي عامَ 1950م قانونَ أملاك الغائبين، الذي سمح للمستوطنين بالسيطرة على الأراضي التي أُجبر أهلُها على هجرانها.

      عقدت حكومةُ الاحتلال ومؤسّسةُ الصندوق القومي عام 1960م، اتّفاقيّةً تمَّ بموجبها تسليم الأراضي التابعة للصندوق إلى سلطة أراضي إسرائيل، وفي إطار تنظيم العلاقة بين الصندوق والحكومة تقرّر منح الصندوق حقّ التمثيل بمندوبين عنه في مجالس مديرية أراضي إسرائيل، ولكن جرى تمجيد نشاط الصندوق سنواتٍ محدودةً مارست، عملها في التشجير تحت حجّة حماية البيئة من التصحّر، ومن ثمَّ أجرى الكنيست الإسرائيلي تعديلًا آخر لقانون دائرة الأراضي عام 2009م، وسمح بموجبه تبادل أراضي الدولة مع الصندوق، وأبقى على تمثيل الصندوق داخل السلطة الأراضي.

    اتّخذَ الصندوق القومي قرارًا بعدم الخضوع لسلطة الدولة وفسخ عقد الترابط والتبعيّة لسلطة أراضي إسرائيل عام 2014م، وزيادة مشاريعه الاستيطانيّة، لكنّه تحوّل من شركةٍ خاصّةٍ إلى شركةٍ تخصُّ جميعَ المستوطنين في أيّ بقعةٍ من أراضي فلسطين. ومن ثَمَّ جاء قانون تبييض المستوطنات الذي سنّه الكنيست عام 2017م، الذي يهدف لتوسيع الاستيطان في الضفّة الغربيّة؛ تمهيدًا لضمّها وَفْقَ رؤية الرئيس الأمريكي رونالد ترامب التي طرحها عام 2020م، حيث أتاح القانون أيضًا مصادرة الأراضي الخاصة بالفلسطينيين، ووضعها بتصرّف الصندوق القوميّ بعد أن وصلته تبرّعات ماليّة من الخارج، حيث الجاليات والطوائف اليهوديّة، قدّرت بأكثرَ من 2 مليار و400 مليون شيكل، وكلّف الصندوق شركته الرئيسيّة هيمنوتا بشراء الأراضي في الضفّة الغربيّة وشرقي القدس لصالح المستوطنين، ولا بدّ من الإشارة هنا أنَّ مشاريع الاستيطان قد تضاعفت فترة الرئيس الأمريكي ترامب مرّة ونصف، حيث قدّم الصندوق ما يقارب من 88 مليون شيكل للاستيطان في الضفّة الغربيّة، ودعم المستوطنين في التكاليف القضائيّة لإخلاء الفلسطينيّين من أراضيهم.

      ودعمًا لمشاريع جمعيّات اليمين الإسرائيلي المتطرّف، كجمعية العاد الاستيطانيّة في القدس، وتحديدًا في تنفيذ مشروع ما عرف بمشروع "مدينة داوود" في أحياء بلدة سلوان تعاون الصندوق القوميّ مع العاد لسيطرة على منازل وعقارات الفلسطينيين في شرقي القدس، بتوفير ما يلزمهم من منحٍ ماليةٍ أو دعمٍ في عمليّات التشجير وخطط وما إلى ذلك، وأناطَ الصندوقُ بجمعيّةِ العاد صلاحيةَ خوضَ معاركَ قضائيّةٍ مع الفلسطينيين في المحاكم الإسرائيليّة لصالحه.

       كشف الصندوقُ القوميُّ عن خططِهِ الاستيطانيّة، ومنها خطّته "إعادة توطين دولة إسرائيل عام 2040م"، لاستهداف أرض النقب المحتلّ، عبرَ ترحيل البدو منها، وإسكان مليون ونصف مستوطنهم في قراهم وأراضيهم، من خلال إقامة 750 شركةً في النقب، وجعلها مركزًا لصناعة وتعليم التكنولوجيا، والسايبر، بما يشبه مدينة تكنولوجيّة تستقطب الشباب اليهوديّ من العالم عبرَ تكثيف الدعاية للهجرة اليهوديّة إلى إسرائيل، وجلب ما يقارب من 150 ألف يهودي، وممّا لا شكَّ فيه أنّ هذه الخطّة تشكّل تهديدًا للوجود الفلسطيني في النقب الذي تقارب مساحته نصف مساحة فلسطين التاريخيّة.

   وأخيرًا، فإنّ خطوة الصندوق القوميّ اليهوديّ بنقل نشاطه والتغلغل في مدن وقرى الضفّة الغربيّة يعبّرُ عن سياسةٍ استيطانيّةٍ جارفةٍ أرادتها الحكومةُ الإسرائيليّةُ اليمينيّة، التي وجودها يتعلّق بمدى قبول المستوطنين لها، فهي حكومةُ مستوطنين، يرفضون إخلاء أيّ بؤرةٍ استيطانيّةٍ في الضفّة الغربيّة، تحت ستارٍ توراتيٍّ مزعومٍ بتخليص الأرض من الأغراب، استنادًا لما جاء في سفر اللاويين “الْأَرْض لا تباع بتة، لأنَّ لي الْأَرْض وأنتم غرباء ونزلاء عندي، بل في كلِّ أرضٍ ملككم تجعلون فكاكًا للأرضِ.