في مثل هذا اليوم، وقبل خمسون عامًا، رحل عن عالمنا رجل مميز وثائر شجاع، صاحب شعار "الحقيقة كل الحقيقة للجماهير"، غادرنا فارس الكلمة الشجاعة، دون أن يودع أحدا.
غادرنا أثر عملية اغتيال جبانة قامت بها قوات العدو الصهيوني في بيروت، من خلال تفجير سيارته بعبوة ناسفة، ذهب ضحيتها مع محبوبته الصغيرة ابنة شقيقته لميس، التي طالما ارتبطت به ورافقته وبادلته المحبة والمودة.. وأبت إلا أن تخلط خلايا جسدها مع جسد الخال غسان.. وهي تطير في سماء بيروت.
غسان قامة وطنية فلسطينية كبيرة... بحر من الأدب والثقافة... جبل شامخ في المقاومة والموقف... اعصار في السياسة يجرف كل المساومين، يدافع عن فلسطين والمقاومين، يتصدى ويحارب المهزومين... غسان الكلمة، البندقية والرصاصة... المدافع عن حرية الرأي بلا حدود... المقاوم بشراسة من أجل اليوم الموعود، يوم تتحرر فلسطين كل فلسطين والينا تعود.
غسان كتب بدمه لفلسطين، واستشهد وهو في السادسة والثلاثين في قمة عطائه.. رحل غسان في بداية العطاء، وكان عاصفة فكرية تؤسس للتحرير وتقتلع العملاء والجبناء.
ليس سهلا الحديث عن قامة بحجم غسان كنفاني ، وهو المبدع في كل شيء.. ليس سهلاً الحديث عنه وعن إنجازاته الكبيرة بشكل مختصر وسريع، وهو من اختصر حياته وذهب من أجل فلسطين.
وليس بوسع مقالة كهذه ان تعطي غسان، ولو جزءا بسيطا من حقه، الحديث والكتابة عن غسان يحتاج إلى ندوات وندوات، مقالات ومقالات، بل وكتب وكتب، ومها قلنا فيه سيبقى اقل مما يستحق.
ويبرز أمامنا السؤال، عن أي غسان نتحدث؟ هل نتحدث عن غسان القائد السياسي؟ أم نتحدث عن غسان الكاتب والروائي؟ أم نتحدث عن غسان الإعلامي والصحفي؟ أم غسان الفنان والرسام؟ أم نتحدث عن غسان الإنسان؟
نعم لقد كان غسان كل هذا، وجسد ذلك في حياته وممارساته، بل أكثر.. نعم لقد تجسدت كل هذه المواصفات في رجل واحد هو غسان كنفاني، لقد جسد غسان شعب عظيم في رجل ثائر.. كان غسان رجل استثنائي لقضية استثنائية وفي زمن استثنائي. وكان غسان أفضل من يمثل القضية بكل أبعادها وصورها المتعددة بامتياز.. غسان جسد الوطن والثورة والقضية في شخص واحد وثائر واحد اسمه غسان كنفاني.
كان غسان غزير العطاء في مجالات كثيرة، فعلى الصعيد الأدبي، أصدر 18 كتابا، شملت مجموعة من الروايات والقصص التي تحاكي الواقع الفلسطيني وتعبر عنه، تمت ترجمتها إلى أكثر من عشرين لغة عالمية، ومنها عائد إلى حيفا، ورجال في الشمس، وأم سعد، وأرض البرتقال الحزين، وموت سرير رقم 12 وغيرها. وقد تم تجسيد بعضها على شكل أفلام ومسرحيات، مثل عائد إلى حيفا.
حاز غسان على مجموعة من الجوائز منها جائزة اللوتس، وهو من لم يكن يبحث عن الجوائز وإنما كان يبحث عن الوطن والهوية.
كان غسان يحب الأطفال لدرجة العشق، ويرى فيهم الطريق إلى المستقبل. كتب غسان قصصا أبطالها من الأطفال وقد نشرت في عام 1987 تحت اسم أطفال غسان، وكانت قد ترجمت إلى الإنجليزية في عام 1984 تحت اسم أطفال فلسطين.
أحب غسان ابناءه فايز وليلي بدرجة كبيرة، كما أحب معشوقته الصغيرة وبنت أخته لميس والتي كانت ترافقه دائما عند زيارة العائلة إلى بيروت، وهي المقيمة في الكويت ، وكانت تعشق غسان عشقا لا مثيل له وبادلته الحب بالحب والمودة بالمودة، وبقيت ملتصقة به حتى في لحظة استشهاده، حيث استشهدا معا واختلط الدم بالدم.. وأبت أن تفارقه حتى في رحيله، وكانت جزء لا يتجزأ من حياته.
كان غسان سياسيا فذا وقائدا محنكا… يتمتع ببعد نظر استراتيجي
كيف لا، وقد كان عضوا في المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وناطقا رسميا باسمها.. وهو من لعب دورا كبيرا في صياغة استراتيجيتها السياسية والتنظيمية، بكل ما مثلته في جوهرها ومحتواها من وضوح للرؤيا المستقبلية، وتحديد لمعسكري الأعداء والأصدقاء، وصولا إلى رسم الطريق إلى تحرير فلسطين عبر الكفاح المسلح.
كان غسان صحافيا بارزا وإعلاميا مميزا تنشد إليه الأنظار، عمل في العديد من الصحف في لبنان والكويت، حيث عمل في جريدة المحرر والحرية والرأي وغيرها.
وفي عام 1969 عرض عليه أن يتسلم رئاسة تحرير مجلة فلسطين الثورة، الناطقة باسم منظمة التحرير الفلسطينية، لكنه اعتذر عن ذلك، كونه بدأ الإعداد لإصدار مجلة الهدف الناطقة بلسان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، وتحمل شعار الحقيقة كل الحقيقة للجماهير. وقد نجح غسان في جعل مجلة الهدف في عهده، كلية للصحافة، تخرج منها الكثيرون من الصحفيين المبدعين الفلسطينيين والعرب.
أما غسان الأديب، فيعود له الفضل في نشر الأدب الفلسطيني بعد النكبة عام 1948، وهو أول من قام بالتعريف على شعراء الأرض المحتلة مثل توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم.
أما غسان الإنسان وهنا يطول الحديث، كان يجسد الحب والمودة، وكان يجسد القيم والأخلاق والمبادئ. كان يؤمن إيمانا لا يتزعزع بالرأي والرأي الآخر ويحترم وجهات نظر الآخرين ويحاورهم فيها، كان يرفض الانغلاق والتعصب.. كان محبا للحياة وعاشقا متميزا لها.
إن حجم التراث الكبير الذي تركه غسان يشير إلى عظمة هذا القائد المبدع، حيث كان عطاؤه يتقدم على عمره، ولو قدر لغسان أن يعيش فترة أطول لكنا أمام إبداع أكبر، وعطاء أوسع وإنجازات أكثر، وهو الذي قالت عنه رئيسة وزراء العدو الصهيوني جولدا مائير عند استشهاده، لقد تخلصنا من لواء يضم ألف مقاتل. لقد قيل وكتب عن غسان الكثير وقدمت أطروحات لنيل الدكتوراه الجامعية في الحديث عن أدبه.
رحل غسان مبكرا وتم اغتياله والتخلص منه ليس فقط خوفا مما مثله وما كان عليه، ولكن أيضا وأساسا خوفا من المستقبل وما سيكون عليه. ورغم مرور خمسين عاما على استشهاده وغيابه إلا أنه ما زال يتقدم الصفوف.
غسان لم يكن يسعى في حياته إلى نيل الألقاب أو المديح، بل كان يسعى دوما إلى فلسطين ويعمل من أجلها من خلال نشر ثقافة المقاومة والتي عبر عنها أفضل تعبير من خلال الموقف والرواية والقصة والكتاب والمقالة واللوحة والندوة.
نعم.. لقد فهم غسان دوره كأديب وصحفي وسياسي مقاوم وأتقنه بامتياز. لقد أكد غسان أن الكتابة هي توثيق للماضي ووصف للحاضر ورسم طريق للمستقبل وهذا ما فعله.
إن رحيل غسان في هذا العمر المبكر، شكل خسارة كبيرة للجبهة الشعبية والثورة الفلسطينية والأدب والفكر المقاوم للصحافة الملتزمة.
ومن أهم ما قام به غسان هو التعريف بالفنان الكبير ناجي العلي ، حيث ساعده في العمل ودفع به إلى الشهرة حين اكتشف فيه امكانيات الإبداع.. هذا هو غسان الذي نتذكره ونتحدث عنه اليوم.. وما زال غسان الأكثر حضورا وتوهجا حتى في غيابه.
ونحن نكتب عن غسان في ذكرى رحيله الخمسين نتذكر العديد من الكتاب والصحفيين والإعلاميين الذين رحلوا خلال هذه الفترة الطويلة ونترحم عليهم ونتذكر من غادرنا منهم في العام الأخير الإعلامية المميزة شيرين أبو عاقلة والكاتب الصحفي هاني حبيب والشاعر الكبير مظفر النواب والصحفية اللامعة غفران وراسنة... ونعاهدهم جميعا كما عاهدنا غسان وناجي العلي وكل الذين رحلوا بمواصلة النضال حتى تحرير فلسطين كل فلسطين.