Menu

حركةُ فتح وسلطةُ أوسلو: هل يمكنُ الانفكاك؟

وسام رفيدي

نشر في العدد 39 من مجلة الهدف الرقمية

يبدو أنَّ انتخاباتِ مجلسِ طلبةِ جامعةِ بيرزيت في أيّارِ الماضي كان لها هذا العامُ تداعياتٌ وتأثيراتٌ فاقت في دلالاتِها انتخاباتِ الأعوامِ الفائتة. أمّا المظهرُ الأبرزُ في تلك الانتخابات، الذي يبدو كأنَّهُ (القشّة التي قصمت ظهرَ البعير) في النقاشِ العامّ، فهو الفوزُ الساحقُ بكلِّ المعاني للكتلةِ الإسلاميّةِ المحسوبةِ على حماس بفارق 10 مقاعد عن كتلةِ حركة فتح. قبلَ ذلك خسرت فتح مجلسَ طلبةِ جامعةِ بيت لحم، ومنصبَ نقيبِ المهندسين، ولاحقًا نقابةَ الأطباء، وبعض المدن الرئيسة، مثل الخليل وطولكرم والبيرة في انتخاباتِ المجالسِ المحليّة.

ومع ذلك، لا يسارعن أحدٌ فيجهّز إعلانَ النعي لحركة فتح قاعدةً وتأثيرًا شعبيًّا وقوّةً انتخابيّة، فهي حصدت فروعَ قطاعِ غزّةِ لنقابةِ المحامين وموقع النقيب، وفي المهندسيّن حسمت فروعًا عديدة، أمّا في الانتخاباتِ البلديّةِ فحسمت رام الله ونابلس وقلقيليّة مدنًا رئيسة. طبعًا هذا لا ينفي تراجعها البيّن وتقدّم خصومها المحسوبين على حماس واليسار، وعصب الأخير وقوّته الأبرز، الجبهة الشعبيّة، في كلّ ما ذُكر أعلاه من جولاتٍ انتخابيّة.

أمّا ما يكمنُ خلفَ هذهِ الحساباتِ (الاحصائيّة) إن جاز التعبير فهو بتقديرنا النقاشُ الذي تلا (القشّة التي قصمت ظهرَ البعير)، ونعني به عشرات المقالات والتصريحات حولَ نتائجِ ما جرى على حركة فتح وعلاقتها بالسلطة، ومَنْ يتحمّل المسؤوليّة، ومَنْ يجب عليه أن يدفع الثمن (التنظيميّ)، والعديد العديد من القضايا التي فجّرتها انتخاباتُ بيرزيت على صعيدِ الحركة. ولعلَّ التداعي الأبرزَ هو استقالةُ لجنةِ إقليم رام الله وعلى رأسه الحج مطلق سحويل، وتجميد الأقاليم لعملها في بقيّة المناطق.

في النقاشِ الدائرِ يبدو أنَّ كلَّ حركةِ فتح من أدنى مستوى قاعديٍّ حتّى رأس الهرم التنظيميّ وجدوا السبب في ظاهرةٍ واحدةٍ أخذوا يكررونها على طريقةِ نيوتن وتفاحته: وجدتها، وهي حصرًا، حسبَ الادّعاء، تحمّل فتح لكلّ وزر السلطةِ السياسيّة، ومن ثَمَّ دفع ثمن فساد السلطة وقمعيّتها ولصوصيّة بعض رجالاتها ووووو، في حين أنّ البعضَ خصّص حكومةَ اشتية بالسهم بأنها هي مَنْ ورّط فتح وسمعتها، ومن ثَمَّ دفعت فتح ثمنَ فشل وفساد وضعف حكومة اشتية. طبعًا في كلّ النقاشِ كان ينطرحُ بوضوحٍ أنّ ارتباطَ فتح في السلطة هو المشكلة، وسبق للرجوب واشتية أن قالا هذا مرّة، ومن ثَمَّ فالحلُّ بسيطٌ من وجهةِ نظرهم، وهو انفكاكُ فتح عن السلطة، وهذا ما يدورُ داخلَ اجتماعاتِ الأقاليم، وفعلًا بدأوا بنقاش الانفكاك بين عضو الإقليم مثلًا والمنصب في الجهاز الأمنيّ.

يقودُ هنا التوجّه نحوَ إعفاءِ فتح من المسؤوليّة (ودبّها) في ظهرِ السلطةِ باعتبارِ فتح تتمحّل وزر (بلاويها)، أمّا الأهمُّ فهو أنّ هذا المنطقَ لا يصمدُ أمامَ الحجّةِ الدامغة: مَنْ يتّخذ قرار السلطة هو قياداتٌ فتحاويّة، فالرئيسُ ورئيسُ وزرائِهِ وضبّاط الأجهزة ووكلاء الوزارات والمدراء العامون، وكلّ مفاصل السلطة الرئيسة هي فتحاويّةٌ بنسبة تصل لـ 99%، ومَنْ ليس منهم فتحاويًّا من حيثُ العضويّة التنظيميّة فهو (في الجيبة)، ومن ثَمَّ فالفاسدُ في السلطةِ هو فتحاويّ، ومتزعم العصابة هو فتحاويّ، وصاحب السياسات الاقتصاديّة البائسة فتحاويّ، وصاحب العلاقات التطبيعيّة هو فتحاويّ، وصاحب قبضة القمع والسحل والقتل هو فتحاويّ... منطق تحميل السّلطة وتبرئة فتح لا يصمدُ ولو لدقيقة. مسارعين للقول إنّ تلك فتح، وهناك ما زال في القاعدة فتح كما أعرفها ونعرفها جميعًا، وتلك قضيّة خارج نقاش هذه المقالة.

السؤالُ الذي ينتصبُ هنا: هل يمكن فعلًا أن يتمَّ الانفكاك بين حركة فتح والسلطة؟ وبصيغةٍ ربّما أكثرَ جوهريّة: هل يمكنُ إعادة رسم العلاقة بين فتح، كحزب سلطة أوسلو وصاحبة مشروع أوسلو، وبين الناتج الأبرز للمشروع وهو جهاز السلطة؟ وللشروع بتقديم الإجابة على السؤالين يمكنُ الشروعُ بالإجابةِ على هذا السؤال الثالث: ما طبيعةُ الارتباطِ بين فتح والسلطة؟ هل هو مثلًا كارتباط أيّ حزبٍ حاكمٍ بجهاز السلطة/الدولة ينتهي وجوده في السلطة مثلًا بخسارتِهِ للانتخاباتِ لأجهزةِ الدولة، التشريعيّة مثلًا؟ أم أنّه ارتباطٌ بِنيويٌّ اندماجيٌّ لا فكاكَ منه إلا بانتهاء أحد الطرفين، فتح أو السلطة؟

عودٌ على بَدْء، منذُ لحظةِ الشروعِ بتشكيلِ جهازِ السلطةِ عامَ 1994، لوحظ أنّ توزيعَ المواقع والمناصب ومراكز الثقل كانت تتمُّ بين مجموعتين/ نخبتين أساسيتين، الأولى الكادر والقيادة الفتحاويّة العائدة من الخارج، والثانية الكادر والقيادة الفتحاويّة الموجودة في الأرض المحتلّة، وهم تحديدًا الأسرى المحرّرين، إمّا قبل اتفاقيات أوسلو أو بعدها. لا نأتي بجديدٍ عند الإشارةِ لتلك اللحظة من علاقة النخبتين في تأسيس جهاز السلطة، فقد أشار لها العديد من الباحثين الفلسطينيين كحسام خضر وجميل هلال وكاتب هذه المقالة. ربّما من أكثر الأمثلة مثلًا في توزيعة (الجهاز) على النخبتين تشكيل جهازي المخابرات والأمن الوقائي، فالأوّلُ ظلَّ في عهدة (الخارج) عبرَ أمين الهندي والثاني أسّسه (الداخل) عبرَ حبريل الرجوب، وفي ظلِّ التوزيعِ الأوّلِ جرى توزيعٌ آخرُ بين الضفّةِ وغزّةِ مراعاةً للنفوذ الجغرافيّ للموقعين، وتلك تبدو طبيعيّةً كما التوزيعة الأولى.

المهمُّ أن تلك التوزيعة ومنذ البداية يسهّل على الخطاب اليوميّ التحريضيّ المعادي للسلطة واتفاقيات أوسلو أن يسمّيها توزيعةً للكعكة، وهو مصطلحٌ يشيرُ أساسًا لعلاقةٍ نهبيّةٍ بين السلطة والجمهور، كما ويشيرُ لعلاقةٍ لصوصيّةٍ بين الفرقاء المختلفين المشكّلين لجهاز السلطة. ومع ذلك يبدو التوصيف، ولأنّه تحريضيًّا، فهو سياسيًّا وأقلّ جوهريّةً من الناحية العلميّة. إنّ التوصيفَ الأدقَّ بتقديرنا أنّه علاقةٌ بنيويّةٌ اندماجيّةٌ بين جهاز السلطة وحركة فتح، تطلبُهُ واقعُ طبيعةِ مشروعِ السلطةِ الذي يستدعي نظامًا زبائنيًّا بامتياز، نشأ عنه توزيعٌ للحصص بالضرورة، والنظام الزبائنيّ، وإن كان ينشأ ويتشكّل بقرارٍ لنخبةٍ/طبقةٍ معيّنةٍ إلا أنّه يحملُ في طيّاتِهِ استدعاءً موضوعيًّا لا يمكنُ التفلّتُ منه.

أين يكمنُ ذلك الاستدعاءُ الموضوعيّ؟ يكمنُ في أنّ تشكيلَ جهاز السلطة من قبل (قيادة الثورة) وهي تحديدًا تحت هيمنة حركة فتح عنى ضرورة البحث عن شرعيّةٍ ما، خاصّةً أنّ مبادرةَ حملِ السلاحِ التي أعطت فتح، وكلّ الفصائل، شرعيّتها، انتهت بتوقيع اتفاقيّة أوسلو، وبتوقيع تلك القيادة الفتحاويّة على بند (إدانة العنف)، والمقصود الكفاح المسلّح، في رسالة عرفات لرابين عام 1994. ومن ثَمَّ ينبغي البحثُ عن (قاعدةٍ جماهيريّةٍ ما) تعوّض عن الشرعيّةِ المفتقدةِ بفعلِ التخلّي عن نهج الثورة، وتلك القاعدةُ توفّرها فتح بامتداداتِها الجماهيريّةِ الواسعةِ وكادرها الذي حازَ عبرَ النضالِ الدامي مكانةً مرموقةً في الأوساط الشعبيّة، وذلك تمَّ عبرَ آليّاتٍ عديدةٍ أهمُّها توظيفُ عشرات الآلاف منها في جهاز السلطة، وتمكين الكادر الفتحاويّ من احتلالِ مواقعَ قياديّةٍ في الجهازين المدني والأمنيّ للسلطة.

هنا تبدو العلاقةُ البنيويّةُ الاندماجيّةُ في أبهى صورها: من ناحيةٍ باتت فتح بكادرها وعناصرها وجماهيرها في موقع المستفيد الأوّل، عبرَ توظيفِ عشراتِ الآلافِ من أعضائِها وكادرها في جهاز السلطة، وما نتج عن ذلك من امتيازاتٍ ومكاسبَ ونفوذٍ ورأسمال اجتماعيٍّ يصعبُ تصوّرُ تنازلِهم عنه، وعلى المقلب الآخر فالسلطةُ باتت تتمتّع بقاعدةٍ جماهيريّةٍ واسعةٍ إلى حدٍّ ما هي بأمسّ الحاجةِ لها في ظلّ التشكيكِ بشرعيّةِ السلطةِ من الأساس، قاعدة يوفّرها 97% من كادرِ السلطةِ الفتحاويّ بعلاقاتِهِ القرابيّةِ ونفوذِهِ وعلاقاتِهِ وتاريخِهِ الوطنيّ. ومع تتالي السنين نما في ظلّ هذهِ الزبائنيّةِ والعلاقةِ البنيويّةِ الاندماجيّةِ مظهرانِ إضافيّان؛ الأوّل: تنامي مراكز نفوذٍ فتحاويّةٍ وتعزّزُها داخلَ الجهازِ نفسِهِ مع تراكمِ الثروةِ والامتيازاتِ والدعمِ الخارجيّ والعلاقاتِ مع الصهاينةِ حتّى باتت الجماهير تتلمّس حقيقة، تلك (الامبراطوريّات) الخاصّة بفلانٍ وعلانٍ في جهاز السلطة. والثاني: دخول الرأسمال الفلسطينيّ الخاصّ على خطّ العلاقةِ مع جهازِ السلطة، وخاصّة الرأسمال الكمبرادور الذي وجد ضالته في العلاقة الاقتصاديّة مع الرأسمال الصهيونيّ، وفي ظلّ التسهيلاتِ المقدّمةِ له من الصهاينة، وفي ظلّ إشرافِ السلطةِ على تلك العلاقةِ واستفادةِ جماعاتِها من ذلك، دون نسيانِ عودةِ الرأسمال الخدماتيّ المهاجر، وافتتاح العديد من البنوك وشركات التأمين والاتّصالات.

وبعد، فالحديثُ عن الانفكاكِ بين فتح والسلطة يبدو والحال هذا مستحيلًا، ولن يتمّ في الظرف الحالي، إلا بتوفّر أحد المتغيّرين: انتهاء حركة فتح، وهذا مستحيلٌ ولن يحصل، أو تفكّك جهاز السلطة بفعل النضال التحرّري، وحينها تنفكّ العلاقة من أساسها، وينطرحُ وقتئذٍ السؤال: وماذا عن حركة فتح؟