الولايات المتحدة وعلى مدى عقود هي المسبب والمبادر الأساسي وراء الحروب المحلية في جميع أنحاء العالم، وتشرع الإدارات الأمريكية بمختلف أقنعتها جمهورية كانت أم "ديمقراطية"، وهي تتطلع لعمل عسكري ما في وراء البحار، في محاصرة الرأي العام على الجبهة الداخلية- وخلال الحرب ضد النازية في أوكرانيا- أيضا محاصرة الرأي العام العالمي- كساحة للمعركة التي تشكل فيها التلفيقات الإعلامية السلاح الرئيسي، ويصبح فيها دعم الحرب انتصارا، ويتم السعي، منذ البداية، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا الى خلق صورة اجماع افتراضي وراء سياسة الولايات المتحدة الإمبريالية، خادمة طبقة رأس المال العالمي وخاصة العسكري.
ووسائل الإعلام الغربي داعمة طبقة رأس المال وخادمتها تسعى إلى كسب القلوب والعقول في الداخل الأمريكي، وعالميا، في الذهاب إلى أقصى حد لإقناعنا بأن الحرب كل حرب تقوم بها وتخطط لها *الإمبراطورية* الأمريكية والتي تمارس سياسة القطب الواحد المتوحش عالميا، جيدة بقدر ما يمكن للحرب أن تكون جيده- ضرورية لها مبرراتها صالحه وجديرة بالأحزان التي ستخلفها وراءها.
وهذا ما جرى خلال احتلال العراق، وهذا ما يجري الآن من خلال الحرب الاقتصادية والسياسية والإعلامية ضد روسيا التي تحارب النازية في أوكرانيا.
ولكي نتوسع في شرح سياسات الحروب المحلية للإمبريالية العالمية وخاصة الولايات المتحدة، علينا أن نعود لأحداث كثيرة جرت قبل عقود وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وممارسة سياسات الحرب الباردة والحروب "الميسرة" التي قامت بها الولايات المتحدة في جميع قارات العالم خدمة لطبقة رأس المال العالمي وخاصة الأمريكي، شركات صناعة السلاح، وخدمة للصهيونية العالمية وإسرائيل القاعدة الأمامية للإمبريالية العالمية في الشرق الاوسط.
وهنا بودي أن أذكر بأن وسائل الإعلام الغربي ووسائل إعلامية على مواقع التواصل الاجتماعي كانت تتساءل أثناء الحرب العدوانية المتوحشة الأمريكية على العراق، كيف يمكن لمسيحي أن يعارض حرب مسيحية ضد العراق؟
وهذا الدعم الأصولي المسيحي لطبقة رأس المال العالمي، وخاصة الماسونية والصهيونية، لم يكن مبنيا على الكتاب المقدس بل مبنيا على خطط إجرامية ضد الشعب العراقي، وهنا أذكر بأن بيلي جراهام BILLY GRAHAM الأصولي المسيحي قدم الصلوات مع الرئيس بوش قبل بدء الحرب الإجرامية البربرية المتوحشة ضد الشعب العراقي.
وبودي أن أعود إلى صنع روزنامات الحروب الأمريكية الإمبريالية ضد الشعوب المضطهدة بهدف فرض سياسات هيمنة القطب الواحد خلال الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي وبعد انهياره، الأمر الذي سمح للولايات المتحدة أن تمارس سياسات غطرسة القوة عالميا وفي الشرق الأوسط من خلال قاعدتها الأمامية إسرائيل، والتدخل المتغطرس الإسرائيلي من خلال عدوانيتها العسكرية المتكررة على سوريا أكبر مثل.
وعودتي إلى التاريخ تقودني إلى جمهورية الدومينيكان التي عانت على مدى ثلاث عقود دكتاتورية رفائيل تروخيو الضاربة المستبدة إلى أن أتاح اغتياله في عام 1961 فرصا جديدة للدولة الكاريبية.
وأجريت انتخابات حرة في كانون الأول عام 1962 حصل فيها خوان بوش على ما يقارب ثلثي أصوات الناخبين، إلا أن انقلابا عسكريا أطاح برئاسة بوش بعد ذلك بسبعة أشهر.
اكتسبت الانتفاضة الشعبية زخما في أواخر نيسان عام 1965، إلى أن بدا أنها على وشك إعادة بوش إلى السلطة. لكن الرئيس ليندون جونسون سارع إلى إرسال المارينز وظهر عبر التلفزيون ليشرح ضرورة العمل العسكري لإنقاذ أميركيين، وسرعان ما تبعت ذلك تبريرات أخرى.
وبعد أربعين عاما على ذلك، أي على اجتياح واحتلال الدومينيكان استذكر أحد مساعدي جونسون ريتشارد غولدوين ما جرى وراء الكواليس، وكتب أنه "ما أن أصبحت قواتنا في الجو حتى دعا جونسون إلى اجتماع للبيت الأبيض لشرح القرار الذي سبق له اتخاذه. اجتمعنا في غرفة الحكومة حيث أخبرنا وليام رابون، الذي سيصبح الرئيس التالي لـ " سي. أي. إيه" بأن الشيوعيين قد اخترقوا، بل ربما سيطروا على انتفاضة بوش، وهذا الاعتقاد هو بالطبع السبب الحقيقي لتدخل جونسون وليس أي حمام مفترض للدم. وتابع غولدوين: بعد الاجتماع التقينا بيل مويرز وهو أيضا مساعد لجونسون، وأنا على انفراد مع بعض موظفي الـ "سي. أي. إيه" وسألناهم، من هم هؤلاء الشيوعيون، وكيف لنا أن نعرف؟ فأعطي لنا دليل واه في شكل لا يعقل. على غرار ان أحد حلفاء بوش شوهد في مبنى سكني يشتبه في ايوائه خلية شيوعية، وهذا لا يثبت شيئا. ومع ذلك أرسل عشرون ألفا من المارينز لإحباط العدو المشكوك أصلا في وجوده".
ولاحظ الباحثون عن تلك الحرب "الميسرة" على الدومينيكان، بأن جونسون عمد في سعيه إلى تقديم التفسير المناهض للشيوعية، "إلى القيام بقفزتين نوعيتين في منطقة. الأولى هي أن المتمردين تدربوا في كوبا والثانية هي أن كاسترو هو الذي يتولى قيادة الذين تدربوا في كوبا، ووجد في الظاهر دليلا واهيا على الأول، بينما انتفى أي دليل على الثانية. ومع ذلك قام جونسون بالقفزتين بسهولة، وفعل ذلك ليتمكن من تبرير التدخل على أساس أن الولايات المتحدة حالت دون عدوان شيوعي دولي".
لطم وخدع جونسون، الشعب الأمريكي لا بل والرأي العام العالمي، وخاصة العالم الغربي ذلك المبرر تدريجيا، فامتنع في خطابه التلفزيوني في 28 نيسان الذي أعلن فيه نزول المارينز في سانتودومنغو، عن الادعاء بأن الهدف من هذا العمل هو مواجهة الشيوعية، بل إنه ركز في تشديده الأولي على حماية المواطنين الأمريكيين في البلاد أي في الدومينيكان. بعد ذلك بعقود، لاحظ كاتب الافتتاحيات الصحافية جان غلايدول الذي شارك في الغزو كعنصر شاب في المارينز، "قال جونسون أنه تم إرسالنا لحماية حياة الأمريكيين، لم يسبق لأي من تحدثت معه أن شاهد أمريكيا لا يرتدي الزي العسكري أو يضع شارة الصليب الأحمر".
وبعد ذلك في أحد خطاباته حل جونسون كل الكوابح البلاغية وأبلغ مشاهديه عبر التلفاز أن "ما بدأ كثورة شعبية ديمقراطية ملتزمة، الديمقراطية والعدالة الاجتماعية تبدد بعد فترة قصيرة جدا واستولت عليه عصبة من المتآمرين الشويوعيين" (من خطاب جونسون في 2 أيار عام 1965). والادعاء الذي وفرته وسائل الإعلام الأمريكية هو أن انتفاضة حزب الثورة الدومينيكاني التابع لبوش قد سقطت تحت "سيطرة شيوعيي كاسترو وغيرهم من المتطرفين العنيفين". وكان هذا الادعاء الكاذب ورقة التين التي ساعدت الولايات المتحدة على تبرير هذا العدوان الأمريكي، بهدف تضليل الشعب الأمريكي وشعوب العالم بأن هذه "الحرب الميسرة" كانت ضرورية من أجل الدفاع عن الشعب الأمريكي ومصالحه، وهذه الوسائل من التضليل تستمر في ممارستها الولايات المتحدة حتى الآن وهذه سياسة التضليل حتى الموت.
ومنذ بضعة عقود وحتى الآن وأمريكا اللاتينية والعديد من دول العالم موجودة تحت مرصاد القتلة المحترفين من وكالة المخابرات الأمريكية، ويرتبط النشاط الإجرامي للأجهزة الخاصة الأمريكية ضد شعوب أمريكا اللاتينية، بأن بلدان هذه القارة تعتبر منذ زمن بعيد موضع اهتمام خاص من الرأسمال الاحتكاري الأمريكي الذي يحصل على أرباح هائلة من نهب ثرواتها الطبيعية بلا رحمة واستغلال عمالها بلا شفقة.
ونذكر بأن بعد ذلك بأربعين عاما تقريبا وفر كولن بأول خدمة مماثلة- ولكن على نطاق أكبر بكثير – في خلال الاستعدادات الطويلة لاجتياح العراق. وهنا أذكر بأن صحيفة الواشنطن بوست نشرت على الصفحة الأولى من عددها بتاريخ 15 أيلول عام 2002 مقالة عنوانها "النفط هو المسألة في سيناريو الحرب العراقية": عين المنقبين الأمريكيين على بحيرة ضخمة من النفط. وقال أحمد الجلبي "الزعيم" لا بل العميل الأمريكي الذي كان في ذلك الوقت يعيش في الولايات المتحدة في المقالة أنه يفضل إنشاء كونسورتيوم بقيادة الولايات المتحدة لتطوير حقول النفط في حقبة عراق ما بعد صدام حسين: "ستمتلك الشركات الأمريكية فرصة كبيرة في النفط العراقي".
وكتب أيضا في ذلك الوقت أحد عملاء الولايات المتحدة والذي عمل لدى شركة "أوبنهايمر أند كومباني" والخبير في صناعة النفط كتب يقول: "ما عليكم إلا أن تعتبروا العراق قاعدة عسكرية يوجد تحتها احتياطي ضخم جدا من النفط"، وأضاف "لا يمكن المرء أن يطلب ما هو أفضل من ذلك". وعلق العميل إياه، وكان قد أمضى أكثر من ربع قرن في تتبع أعمال النفط، بالقول: "اعتبروا العراق أرضًا بكرًا... إنه سوبر ستار المستقبل. وهذا هو السبب الذي يجعل منه العقار الأكثر طلبًا على وجه الأرض". (ظهرت تعليقات المذكور فاضل غيظ في 19 أيلول عام 2004 في تورونتوستار، في مقالة لليندا ماكويغ مقتبسة من كتاب لها).
هكذا رأى عملاء الولايات المتحدة في العالم العربي، "عقار" للبيع، وهذا ما تقوم به الأنظمة الاستبدادية الرجعية في العالم العربي الآن من خلال ممارسة الهرولة والتطبيع مع إسرائيل والعمل على إقامة ما يسمى "ناتو" شرق أوسطي سيحول كل الوطن العربي إلى "عقار" في خدمة الولايات المتحدة وإسرائيل. وزيارة بايدن الآن لإسرائيل والسلطة والسعودية، هدفها ليس السلام وليس العمل الجاد من أجل حل عادل للقضية الفلسطينية وإنهاء الحرب العدوانية على اليمن أو سوريا، بل تهدف إلى خدمة هيمنة وسيطرة طبقة رأس المال العالمي، وخاصة شركات النفط وصناعة السلاح، وهيمنة الحركة الصهيونية وإسرائيل على منطقة الشرق الأوسط.
وتمتد المصالح والمنافع المالية للحروب الإمبريالية للولايات المتحدة إلى أبعد كثيرا مما يخطر عادة في الذهن لدى التفكير في الصفقات والعقود العسكرية، وهذا ما حدث خلال احتلال العراق وهذا ما يحدث الآن من خلال حرب الناتو والولايات المتحدة ضد روسيا في أوكرانيا. وهكذا تعاني الشعوب حول العالم من أمريكا اللاتينية وإلى إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط من اضطهاد وسفك دماء ومعاناة إنسانية بسبب الحروب الإمبريالية حول العالم، وأخرها ما يجري من مواجهة عسكرية فرضتها الولايات المتحدة وحلف الناتو على روسيا. وما تقوم به روسيا في أوكرانيا هي حرب على النازية وضد طبقة رأس المال وشركات صناعة السلاح في العالم الإمبريالي، التجارة بدم الشعوب.
أتمنى أن تستطيع روسيا أن تنتصر في حربها على النازية في أوكرانيا بأسرع وقت، وأن يؤدي ذلك أيضا للنهوض أوروبا من الغيبوبة الطويلة التي أعاقت إدراكها بأنها في الطريق للتحول ليس لأن تصير تابعة بل إلى أن تكون مستعمرة أمريكية.
وهنا نقول بأنه في قلب أوكرانيا وقلب العديد من شركاء الولايات المتحدة في أوروبا، يتحكم القادة الصهاينة أمثال عائلة روتشيلد، وطفلها ماكرون، الذين هم في الوقت ذاته محركو القرار الأمريكي وسادته، بشأن إدارة الرأي العام والهيمنة عليه، فلهم القدرة على الإيقاع به وتضليله، بفضل قبضتهم المحكمة على الإعلام، بوسائله المختلفة من السينما إلى النشر ومن الراديو والتلفزيون إلى الصحافة المكتوبة، إنهم يتمكنون ولو إلى حين من إخفاء الوجه القاتل لمعطيات سياسة الهيمنة الإمبريالية الأمريكية التي يوجهونها ويحددون أهدافها: مثلا بالعراق لتدميره أولا بالسلاح، ثم بالحصار الذي يقتل أكثر مما قتل السلاح، وهذا ما يمارس ضد كوبا وفنزويلا وبوليفيا واليمن وسوريا وإيران ومحور المقاومة، وكل اللذين يرفضون فرمانات هيمنة طبقة رأس المال وهيمنة صندوق النقد الدولي- القاتلة لكل الشعوب – ويرفضون الهيمنة الأمريكية.
والأحداث الأخيرة على الساحة الدولية، وخاصة خلال مواجهة روسيا لحلف الناتو، تتبدى طفيلية الإمبريالية العالمية بأكبر قدر من الوضوح في عسكرة الاقتصاد، وفي تخصيص قدر أكبر فأكبر من الدخل الوطني لإنتاج المنتوجات الحربية وهذا ما يحدث الآن في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا خاصة. والحرب الإمبريالية التي يخوضها الناتو ضد روسيا تصرف موارد مادية هائلة وخسائر بشرية هائلة، والقوى العسكرية في الغرب الإمبريالي تسكب بوقاحة وصفاقة دموع التماسيح لكون سيف الحرب النووية قد تعلق فوق العالم كسيف ديموقليس.
في الصورة: مجزرة طريق الموت صباح 27 شباط 1991. الرئيس العراقي أمر جنوده بالانسحاب من الكويت استجابة لقرار الأمم المتحدة رقم 660، لكن إدارة جورج بوش الأب أمرت القوات الأمريكية: "لا تدعوا أي شخص، أو أي شيء عائد من الكويت، حيا".. فسقط 11 ألف ضحية بينهم أطفال ونساء ورجال مدنيون كانوا في القوافل العائدة