Menu

إسرائيلُ من قاعدةٍ متقدّمةٍ للإمبرياليّةِ إلى محورِ حلفٍ إقليميّ

حسن شاهين

نشر هذا المقال في العدد 39 من مجلة الهدف الإلكترونية

لا شكَّ أنّ إسرائيلَ حقّقتْ منذُ توقيعِ اتّفاقيّات أوسلو عامَ 1993، مكاسبَ كبيرةً على صعدٍ مختلفة؛ أهمُّها تعزيزُ تمركزِها داخلَ حدودِ فلسطين التاريخيّة، وتحطيمُ المشروعِ الوطنيّ الفلسطينيّ، وهو أمرٌ لا يمكنُ حتّى للقيادةِ التي سارت في طريقِ التسويةِ أن تنكرَهُ تمامًا. فأيُّ نظرةٍ موضوعيّةٍ للمشهدِ اليوم في الأرضِ المحتلّة، والمقارنة بينه وبين المشهد قبل أوسلو لا بدَّ أن تلحظَ التغيّرَ الفادحَ الذي تحقّق لصالحِ الاحتلالِ والمشروعِ الصهيونيّ.

ففي جردةِ حسابٍ سريعةٍ نجد أنّ الاستيطان تضاعفَ في الضفّة الغربيّة، ووصل عددُ المستوطنين في الضفّة شرقي القدس نحو 700 ألف نسمة بزيادة 12% عن عام 2016، حين صدر قرارُ مجلسِ الأمنِ رقم 2334، الذي عدَّ أنّ المستوطناتِ الإسرائيليّةَ تشكّلُ انتهاكًا للقانون الدولي، كما أزيح عن كاهل الاحتلال همُّ إدارة السكّان في الضفّة والقطاع، وتمكن من عزلهما تمامًا عن بعض، وتتعرّضُ الضفّةُ لعمليّةِ تجزئةٍ وتفتيتٍ ممنهجةٍ عبرَ الاستيطان والجدار العازل والطرق الالتفافيّة، حتّى أصبحَ وصفُ كنتوناتٍ ينطبقُ إلى حدٍّ بعيدٍ على التجمّعات السكانيّة الفلسطينيّة فيها.

في مقابل كلّ ذلك لم يحصل الفلسطينيّون سوى على سلطةِ حكمٍ ذاتيٍّ دون مستوى الدولة، بلا سيادةٍ ومنزوعةِ السلاح، وتابعةٍ اقتصاديًّا لدولةِ الاحتلال، ورغمَ هذهِ الحصيلةِ الهزيلةِ لمسيرة 30 عامًا ما زالت القيادةُ الفلسطينيّةُ الرسميّةُ تراهن على أنّ طريقةَ التسوية يمكن أن يوصل إلى ما كان هدفًا مرحليًّا في يوم من الأيّام، وأصبح نهائيًّا اليوم، وهو دولةٌ فلسطينيّةٌ على حدود 1967. وهذهِ المراهنةُ بلا مقوّماتٍ واقعيّةٍ تدعمُها، فميزانُ القوى مختلٌّ بشكلٍ كاسحٍ لصالح العدوّ، خاصّةً عندما نزيلُ المقاومةَ من الحساب، كما ترغبُ القيادةُ الرسميّة، فلا يتبقّى سوى الشعارِ السياسيّ المستندِ إلى موقفٍ دوليٍّ من الواضح أنّه يعبّرُ اليوم عن حالةِ ستاتيكو سياسيّ حولَ القضيّة الفلسطينيّة من قبل "المجتمع الدولي" أكثر منه إرادةً فعليّة.

على الجهةِ المقابلة، لم يعد هناك قوّةٌ مؤثّرةٌ داخلَ المجالِ السياسيّ الإسرائيليّ تتبنّى علانيةً حلّ الدولتين، تحت أيّ سقفٍ أو شرط. قبل ذلك وفي السنواتِ القليلةِ التي تلت أوسلو، كانت الأحزابُ الإسرائيليّةُ الرئيسيّةُ المشاركةُ في لعبة تداول الحكم تعلن استعدادَها القَبول بدولةٍ فلسطينيّةٍ وَفْقَ شروطٍ أهمُّهما التراجعُ عن مبدأِ حدودِ ما قبل حزيران 1967؛ حينها كانت المعارضةُ الفلسطينيّةُ وبعضُ الأصواتِ المغرّدةِ خارجَ السربِ في حركةِ فتح يعدّون ذلك الموقفَ الإسرائيليّ من باب المناورة السياسيّة لا أكثر. اليوم لم يعد هناك في الحكومةِ الإسرائيليّةِ ولا المعارضة الصهيونيّة الرئيسيّة من يناور، أصبحت الدولةُ الفلسطينيّةُ خارجَ الحسابات السياسيّةِ حتى المعلنة لقادة إسرائيل.

وتراجعُ إسرائيلَ عن مواصلة ما كان يعرفُ بمفاوضاتِ السلام رغمَ شكليّتها جاءَ نتيجةَ عواملَ عدّة على رأسها ترسّخُ الدورِ الوظيفيّ للسلطة الفلسطينيّة، والحديث عن دورٍ وظيفيٍّ هو توصيفٌ لواقعٍ لا اتّهام، حتّى أنّ الرئيسَ عبّاس اعترفَ بهِ في أحدِ خطاباتِهِ وهدّد غاضبًا بالتراجعِ عنه، وكأنّ تركيبةً مؤسّسيّةً واقتصاديّةً جرى تكرسُيها على مدارِ ثلاثةِ عقودٍ يمكن إلغاؤها بقرارٍ منه!

عاملٌ ثانٍ مهمٌّ لانتقال إسرائيل من قَبول حلِّ الدولتين إلى رفضِه، وهو التغييرُ الكبير الذي أحدثته على الأرض الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة والقدس كما أسلفنا، الذي جعل إقامةَ دولةٍ فلسطينيّةٍ أمرًا غيرَ واقعيّ. وقد لحظ تقريرٌ حقوقيٌّ إسرائيليٌّ صدرَ العام الماضي الأثرَ الذي أحدثته كتلُ المستوطنات في تضاريس الضفّة الغربيّة عبرَ تقطيعِها عرضيًّا من شرقها إلى غربها: كتلةُ المستوطناتِ الأولى أقيمت جنوب بيت لحم، وتشمل من الغرب مستوطنتين مدينيّتين هُما "بيتار عيليت" و"إفرات"، ومستوطنات يجمعُها مجلسٌ إقليميٌّ "غوش عتصيون" تطوّق بيت لحم وقُراها حتى أطراف بريّة الخليل في الشرق، في منطقةِ مستوطنة "نوكديم". كتلة المستوطنات الثانية أقيمت وسطَ الضفّة الغربيّة، وتشملُ كلًّا من "أريئيل" و"رحليم" و"عيلي" و"معليه لبونه" و"شيلو" والبؤر الاستيطانيّة التي حولها؛ تقطعُ هذهِ الكتلةُ الضفّةَ الغربيّةَ عرضيًّا، وتمتدُّ اليوم حتّى سفوح الجبال المطلّة على منطقة الأغوار (بتسِليم وكِرِم نابوت، آذار 2021).

لقد جاءت خطّةُ الرئيس الأميركيّ السابق دونالد ترامب المعروفة إعلاميًّا بـ"صفقة القرن" لتقرَّ هذا الواقع وتعترف به، وفي اعتقادي ما كان لإدارةٍ أميركيّةٍ مهما كان تفكيرُ رئيسِها وتوجّهاته أن تقدّم خطّةً تتعارضُ مع سياسةٍ راسخةٍ للمؤسّسةِ السياسيّةِ في أميركا، إلا إن كانت تلك السياسيّةُ من باب العلاقات العامة وليست جديّة، وهناك قناعةٌ داخليّةٌ بعدم إمكانيّةِ إقامةِ دولةٍ فلسطينيّةٍ على حدود 67.

أمّا العاملُ الثالثُ للتراجع في الخطاب الرسمي الإسرائيليّ عن حلّ الدولتين فهو أزمةُ التمثيل الفلسطينيّة، بعد تهميش منظّمة التحرير الفلسطينيّة، والانقسام السياسي بين غزّة والضفّة الذي هَيّأت إسرائيل له قبل وقتٍ طويلٍ بالفصل الديموغرافيّ المتدرّج بين الضفّة والقطاع، علاوةً على تراجع المشاركة السياسيّة للشتات الفلسطينيّ في النضال الوطنيّ لأسبابٍ موضوعيّةٍ أهمُّها تدميرُ المخيّمات الفلسطينيّة في سوريا وعمليّة التهجير الصامت لفلسطينيي لبنان.

أخيرًا نصِلُ للعامل الرابع المرتبط بعنوان المقال، وهو أنّ إسرائيلَ مطمئنةً إلى أنّها ليست مطالبةً بدفعِ أيّ ثمنٍ لتقويضِها الإمكانيّةَ العمليّةَ لإقامةِ دولةٍ فلسطينيّة، ذلك رغم كلّ ما يمكن أن يقال عن تراجع أهميّة إسرائيل بالنسبة للغرب خلال السنوات الماضية تبعًا للتغيّر النسبيّ في ميزان القوى الدولي، وهو صحيحٌ إلى حدٍّ ما، لكن وَفْقَ معاييرِ السياسة الدوليّة لمرحلة الهيمنة الأميركيّة المباشرة الآخذة بالأفول؛ فأمريكا منذُ الولايةِ الثانيةِ لباراك أوباما تديرُ عمليّةَ انتقالٍ من الهيمنةِ المباشرةِ على مناطقَ إقليميّةٍ أو دولٍ في تلك المناطق إلى التحالف مع حليفٍ قويٍّ أو أكثرَ في كلّ إقليمٍ في مواجهة المنافس الإقليميّ المباشر ومحاولات قوى عالميّةٍ أخرى أن تمدَّ نفوذها داخلَ الإقليم، خاصّةً الصين. من هنا يمكنُ فهمُ موجةِ التطبيع الأخيرة بين دولٍ عربيّةٍ وإسرائيل، التي تنتقلُ اليوم من موقعِ القاعدةِ المتقدّمة للهيمنة الإمبرياليّة الغربيّة - الأميركيّة إلى محور تحالفٍ إقليميٍّ مرتبطٍ بالمصالح الغربيّة لكن بتبعيّةٍ أقل، وفي الوقت نفسه يعمل على كبح نموّ النفوذِ الصينيّ في المنطقة.

هذا الاستنتاجُ الأخيرُ هو تقديرٌ يحتاجُ إلى نقاش، وأخذه بعينِ الاعتبارِ يعني أنّ هناك عددًا من قواعد وأساليب إدارة الصراع يمكن أن تتغيّر؛ فعلى سبيل المثال شهدنا خلال السنوات الماضية تنامي الوعي حولَ القضيّةِ الفلسطينيّةِ في الغرب، الذي تُرجم إلى تبلورِ حركاتٍ داعمةٍ لفلسطين كحركة المقاطعة "BDS"، وتزايد الداعمين للقضيّة داخلَ البرلمانات الغربيّة بما فيها الكونغرس الأميركي وهو أمرٌ غيرُ مسبوق، كما تجرّأ عددٌ من المشاهير على إعلان رفضهم للظلم المستمرّ الواقع على الشعب الفلسطيني. كلّ ذلك جيّدٌ بلا شكّ، لكن لو أنّه حصل قبل عقدين من الزمن لكان له وقعٌ أكبر. فعلى الأرجح – بحسب اعتقادي - أنّ قواعدَ العمل الدوليّ الجديدة الآخذة بالتبلور ستسمحُ بهامشِ حريّةٍ أكبرَ للقوى الإقليميّة، كما سيتراجعُ تأثيرُ المنظّمات الدوليّة والقانون الدوليّ، وشهدنا ذلك بوضوحٍ شديدٍ حين طرحت إدارةُ ترامب خطّتها للسلام ضاربةً بعرض الحائط مجموعةً من قرارات مجلس الأمن والجمعيّة العامة للأمم المتّحدة ومبادئ القانون الدوليّ، دونَ أن يطرف لها جفن.

في النهاية... هذا المقال حاول أن يقدّم تقديرًا للواقع الحالي، خاصّةً دور ووظيفة إسرائيل في المنطقة في مرحلةٍ جديدةٍ يفترض المقالُ أنّها آخذةٌ في التبلور، دون أن يحاول الإجابة على سؤال ما العمل. لكن موضوعيًّا. إنّ لكلِّ مرحلةٍ جديدةٍ شروطَها الخاصّة، التي تستدعي إعادة تقييمٍ للبرامج ومهام النضال والخطاب السياسيّ لمواجهتها، ومن نافلة القول إن ذلك لا يمكن أن يتم، على الأقلّ على مستوى فلسطينيٍّ كُلّيّ، دون تجاوز أزمةِ شرعيّةِ التمثيل.