Menu

حول الأساس الفلسفي لفكر جرامشي

غازي الصوراني

غزة_بوابة الهدف

يقول المفكر الماركسي الراحل محمود أمين العالم "قد يكون من تحصيل الحاصل القول: بأن الأساس الفلسفي لفكر جرامشي هو الفلسفة الماركسية أي المادية الجدلية والمادية التاريخية"، إلا أن هذا القول لا يحدد وحده خصوصية الأساس الفلسفي لفكر جرامشي أو خصوصية هذا الفكر نفسه. وجرامشي ليس بصاحب مذهب أو نسق فلسفي يحمل إجابات معينة في المجالات الفلسفية المتخصصة كالانتولوجيا والابستومولوجيا والاكسيولوجيا شأن الفلاسفة التقليديين والمحترفين عامة للفلسفة، وما ابعده هو نفسه عن هذا المفهوم التقليدي الاحترافي للفلسفة، إنه صاحب رؤية نظرية مستنده بغير شك إلى الفلسفة الماركسية، وتتضمن مساهمات في الإجابة على بعض مشكلات هذه المجالات الفلسفية المتخصصة، إلا أنه صاحب رؤية خاصة لمفهوم الفلسفة ذاتها ومداها ودلالتها، وهي رؤية تختلف اختلافاً جذرياً عن المفهوم التقليدي للفلسفة، وهي رؤية مستمدة بغير شك من منهجيته الجدلية ، وماركسيته بوجه عام، إلا أننا نستطيع القول _كما يضيف أ. محمود العالم_ بأن الفلسفة الهيجلية وهي جذر فلسفي أساسي للماركسية كما نعرف – كانت ذات تأثير كبير مباشر على فكر جرامشي رغم اختلافه المنهجي معها وربما بفضل هذا الاختلاف كذلك ، ولعل هذا التأثير هو ما دفع بعض الناقدين لجرامشي إلى وصف فكره بأنه " ما بعد هيجلي" أو ما بعد كروتشي – نسبة إلى الفيلسوف الإيطالي اليهجلي بنيتو كروتشه، ودون الدخول في تفاصيل تاريخ الفلسفة نكتفي بالإشارة السريعة إلى ان جوهر الهيجيلية يتمثل في نقل الأفكار المطلقة المثالية – كتلك التي أقامها أفلاطون في عالم المثل – نقلها إلى قلب الوجود الواقعي ، فالفكرة المطلقة عنده هيجل محايثة، أي موجودة متجسدة في قلب صيرورة العالم الواقعي وكل الأشياء ليست إلا تطور جدليا متصلاً للفكرة المطلقة التي تتجلى وتتمظهر في أنحاء وأشكال وأشياء مختلفة طبيعية كانت أو مادية ، ولهذا فالوجود هو الفكر متجلياً متجسداً محايثاً في تطور جدلي متصل ، وهنا تتلاقى وتتواحد الفكرة النظرية والفكرة العملية، ويتلاقى ويتوحد المنطق والتاريخ.

فمن المعروف أن ماركس هو امتداد جدلي لهيجل إلا أنه امتداد يتجاوز مثالية هيجل، ويعكس اتجاهها فبدلاً من أن يكون الفكر هو الذي يتجلى في الواقع ويتماهى معه، يصبح الفكر هو التجلي –بشكل أو بآخر- لما في الواقع من علاقات وصراعات دون إلغاء فاعليته في هذا الواقع. على أن ماركس يستبقى من الهيجلية جدليتها وتاريخيتها، كما يستبقى هذه العلاقة الحميمة المتوترة بين الفكر والواقع، ومسبغا عليها طابعاً مادياً.

ولكن هذه الجدلية وهذه التاريخية، وهذه العلاقة الحميمة المتوترة بين الفكر والواقع ما أكثر ما كانت تحول في بعض الدراسات الماركسية إلى نزعة ميكانيكية أو نزعة اقتصادية أو نخبوية أو إرادوية متعالية، ولهذا كان الاستيعاب والتعامل النقدي مع هيجل كما فعل لينين من قبل في كراسته الفلسفية بالذات ومن بعده جرامشي مصدراً – في تقديري من مصادر إغناء الماركسية وتعميق طابعها الجدلي التاريخي، أو بتعبير آخر تعميق طابعها الصراعي والذاتي والانساني والفكري في ارتباط عميق حميم مع طابعها المادي والموضوعي.

وفي بداية القرن العشرين نشطت حركة فلسفية هيجلية في إيطاليا كان عمادها بنيدتو كروتشه وجيوفاني جنتيله، وكان لها تأثير كبير على الثقافة الإيطالية والمثقفين الإيطاليين عامة، وباختصار شديد يذهب – كروتشي امتداداً للفلسفة الهيجلية – إلى أن الطبيعة ليست عالماً قائماً بذاته ، بل هي جزء من الواقع الذي تقوم بينه وبين العقل هوية كاملة أي ان العقل قائم متجسد في التاريخ ، ولهذا فالفلسفة والتاريخ علم واحد ، ولكنه رغم تبنيه لجدلية هيجل إلا أنه في الحقيقة كان يجمدها ، وتكاد فلسفته أن تكون خطوة إلى الوراء بالنسبة لهيجل ، وخاصة في رؤيته للواقع بأنه لا تقوم حركته على التعارض والتناقض فقط ، وإنما على مجرد المغايرة أو الاختلاف، وبهذا – على حد تعبير جرامشي – سلب كروتشه من الواقع جدليته.

طبعاً هناك جوانب أخرى لفلسفة كروتشه _ كما يستطرد أ. محمود العالم _تعبر عن تجليات العقل أو النفس في مجال الوجود والمعرفة والفن ولا مجال لها هنا ، ولا تختلف فلسفة جنتيله في الجوهر عن فلسفة كروتشه في انتسابها إلى ما يسمى بالهيجلية الجديدة، فالحقيقة الواقعية عند جنتيله - المادية والروحية على السواء – من صنع الفعل المحض للعقل ، فالعقل المحض – كما يذهب – هو فعل محض ، ولهذا فكل مشاكل الوجود ترجع إلى جدل باطن في الذات المفكرة ، والوجود كله مدرج متضمن في المعرفة ، وكلا الوجود والمعرفة متحدان في فعل الفكر الذي لا يدرك شيئاً خارجه، ولهذا ينكر جنتيله وجود أي موضوع خارج الذات ، وبهذا يتمادى جنتيله بعيدا في مثاليته التي خرج بها عن جدل العلاقة بين الذاتي والموضوعي عنه هيجل ، واختلف كذلك بها عن كروتشه ، وهو اختلاف انعكس عملياً في موقف كل منهما من الفاشية، فكروتشه يرفضها وان لم يشتبك معها في معركة، بل ظل معارضاً لها في صمت ، ولكنه عندما اسقطت الجماهير الحكم الفاشي عام 43، اخذ يشترك في اعادة تأسيس الحزب الليبرالي الذي حله موسوليني ، واشترك في اول حكومة ديمقراطية في جنوب إيطاليا بعد تحريرها في ابريل 1944 ، أما جنتيله فقد شارك بنزعته المثالية الإرادوية المتعالية في أول حكومة شكلها موسوليني ، كوزير للتعليم عام 1922 ، وقد قام بادخال تدريس الدين في المدارس الابتدائية مبرراً ذلك بتصور هيجل أن الدين هو طفولة الانسانية ، ثم أصبح بعد ذلك أول رئيس للمعهد القومي الفاشتى للثقافة ، ولقد اغتيل عام 1944 عندما بدأ تحرير إيطاليا؛ ولقد خاض جرامشي صراعاً فكرياً حاداً ضد هذه الهيجلية الجديدة في ايطاليا ، فاضحا ما وراء مثاليتها الخالصة المجردة من تشابك فكري ومصلحي مع الواقع السياسي والاقتصادي الايطالي ، ورغم احترامه للدور التنويري الثقافي العام لكروتشيه ، فإنه كان يعتبر كروتشه وجنتيله المعبرين الفكريين عن الرأسمالية الكبيرة الايطالية ، والمسئولين عن صرف العديد من المثقفين الايطاليين عن الارتباط بحركة الطبقة العاملة ، وحركة الفلاحين فضلاً عن انخراطهم موضوعياً في دعم أيديولوجية سلطة الطبقة الرأسمالية السائدة، كان كروتشيه مثلاً وزيراً للتعليم الوطني في وزارة جوليتي (20-1921) ، أثناء الاستيلاء على المصانع في أبريل 1920.

وفي تقديري ان هذا التعامل النقدي مع الفكر الهيجلي الجديد، كان مصدراً من مصادر ابراز الدور الكبير للعامل الذاتي والثقافي والسياسي والبنية القومية، والتركيز بشكل خاص على البعد التاريخي ، وعلى المبادرة التاريخية في فكر جرامشي.

ولعل هذا ما دفع بعض نقاد جرامشي إلى اتهامه بالهيجلية الجديدة أو الكروتشيه الجديدة، ولكن هذا الاتهام جاء أساساً من بعض الماركسيين أصحاب التوجه البنيوي الذي حاولوا تنقية الماركسية من كل أثر هيجلى، ولعلى أشير إلى التوسير بالذات الذي استفاد كثيراً من جرامشي وخاصة في نظريته حول أجهزة الدولة الأيديولوجية، رغم نقده لما يسميه يهيجلية جرامشي.

ولهذا ففي تقدير أ. محمود العالم أن المناخ الفلسفي الهيجلى في إيطاليا في عشرينات هذا القرن قد أسهم إسهاماً إيجابياً في تنمية خصوصية فكر جرامشي، الذي لم يصبح بعد هيجليا _ كما يقال أحياناً_ بل أصبح امتداداً تجديدياً خلاقاً للماركسية وللينينية بصفة خاصة، في مرحلة تاريخية خاصة من حياة الحركة الشيوعية الإيطالية والعالمية عامة. وكانت هذه المرحلة الخاصة مصدراً فكرياً كذلك من مصادر تنمية خصوصية فكر جرامشي.

ولعل أبرز ما تتميز به هذه المرحلة ظواهر ثلاث كما يحددها المفكر محمود العالم:

أولاً: إخفاق الحركة الشيوعية في أكثر من بلد أوربي وخاصة في ألمانيا وإيطاليا، ثانياً: بداية بروز الفاشية في إيطاليا، ثالثاً: انتقال التجربة السوفيتية إلى مرحلة ما بعد اللينينية، التي أخذت تتفاقم فيها المظاهر البيروقراطية الستالينية.

في إطار المناخ الصراعي مع الهيجلية الجديدة، وبروز هذه الظواهر الثلاث أساساً أخذ ينضج فكر جرامشي.

ولم يكن صراع جرامشي مع الفكر المثالي الهيجلي صراعاً ذا طابع نظري خالص، بل كان صراعاً ضد أيديولوجية الطبقة السائدة، وكان هذا الصراع يكشف لجرامشي عن مدى تعبير هذه الفلسفة المثالية عن علاقات الإنتاج الاجتماعية السائدة، وعن مصالح الطبقة المسيطرة وخدمتها لها كوسيط بين هذه الطبقة وسلطتها من ناحية، والجماهير من ناحية أخرى، كما كان يكشف له عن وحدة العلاقة بين ما هو اقتصادي وما هو سياسي وما هو ثقافي. بل يبرز له أهمية السياسي والثقافي بوجه خاص. وكانت هذه التجربة الصراعية الفلسفية مصدراً من مصادر بلورة العديد من مفاهيمه مثل: دور المثقفين ومفهوم الكتلة التاريخية ومفهوم الهيمنة.

وكان فشل تجربة مجالس المصانع في تورين، وعجزها عن أن تنتقل من مستوى الاقتصادي المهني إلى المستوى الشامل، وعجز الحزب الشيوعي الإيطالي عن توحيد صفوفه من مختلف القوى الاشتراكية مما أتاح للفاشية أن تنتصر، فضلاً عن عجزه عن تحقيق التحالف بين عمال الشمال وفلاحي الجنوب، إلى جانب وعزل المثقفين عن النضال الجماهيري، واكتشاف جرامشي أن الفلاح الجنوبي مرتبط بالمالك الكبير بواسطة المثقف، فهناك كتلة ثقافية فوق الكتلة الزراعية المستغلة تحميها وتدعمها، أقول: كان لهذه المعطيات السياسية والاجتماعية أثر كبير كذلك في إنضاج بعض المفاهيم الأساسية في فكر جرامشي مثل أولوية السياسي على الاقتصادي "وهو من أبرز المبادئ اللينينية"، ودور الثقافة والمثقفين وضرورة التحالف العمالي الفلاحي في تشكيل الكتلة التاريخية إلى غير ذلك.

وكان هناك ذلك التحول السلبي في السلطة السوفيتية، الذي أخذ يكشف عن تقلص البعد السياسي، وبروز الجانب الاقتصادوي المركزي، وما صاحبه من انسلاخ عن السيرورة التاريخية الجدلية، وتقليص العامل الإنساني الذاتي، وما أفضى إليه ذلك من بيروقراطية في الحزب والسلطة.

حقاً، يقول العالم إن المرحلة الستالينية كلها لم تتكامل صورتها عند جرامشي بسبب سجنه، إلا أن ما توفر له عنها من معلومات، أتاح له تلمس هذا التحول الستاليني، وأن يتضمن فكره نقداً مبكراً له، وأن يكن بشكل غير مباشر، ويتمثل هذا أساساً في إبرازه لأولوية السياسي ولأهمية البعد الثقافي والديمقراطي، وأنه لا سلطة بغير هيمنة بالمعنى الخاص الذي يتضمنه مفهوم الكتلة التاريخية عنده.

في تقديري إذن، إن التعامل النقدي مع الهيجلية ، فصلاً عن هذه الأوضاع الموضوعية السلبية في التجربة الشيوعية السوفييتية و الأوروبية في عشرينات هذا القرن، كانت بمثابة الجذور الفلسفية والموضوعية التي أسهمت في إنضاج العناصر الأساسية في فكر جرامشي.

وبرغم تعدد وتنوع هذه العناصر، فهي تشكل وحدة فكرية متسقة عضوية، يفضي كل عضو فيها إلى بقية العناصر الأخرى، بل يكاد كل عنصر منها أن يحتوي بقية العناصر الأخرى، مما يشكل تصوراً عاماً متسقاً موحداً عضوياً للعالم عبر هذه العناصر جميعاً، ولنعرض بشكل سريع ومبسط لهذه العناصر في تفردها ووحدتها.

و لعل أول هذه العناصر التي يتشكل منها تصوره هذا_ وخاصة عندما نتحدث عن الأساس الفلسفي لفكر جرامشي_ هو مفهوم جرامشي للفلسفة، وهو في الحقيقة مدخل لبقية عناصر فكره وأن يكن يتضمنها كذلك، الفلسفة عنده ليست نسقاً متعالياً من التصورات، أو نشاطاً عقلياً خاصاً بفئة من العلماء والفلاسفة المحترفين، بل هي نشاط فكري تلقائي يقوم به الناس جميعاً تعبيراً عن تصوراتهم للعالم، ولهذا فكل إنسان فيلسوف، ونستطيع كما يقول جرامشي: أن نجد هذه الفلسفة في أشكال مختلفة، نجدها في اللغة التي هي مجموعة أفكار ومفاهيم، كما نجدها في ما يسميه بالحس المشترك، كما نجدها في الدين الشعبي، وبالتالي في كل المعتقدات وطرائق الرؤية والسلوك الموجودة فيما يسميه بالفولكلور، ومادام كل انسان فيلسوفاً فلكل إنسان طريقته _ بشكل واع أو غير واع في أبسط أنشطته الفكرية والسلوكية التي تتجسد فيها فلسفته، فالفلسفة تتجسد في السلوك إلى جانب تجسدها في الفكر، وهذه الفلسفة مفروضة على الإنسان منذ ولادته ومن خلال الوسط الذي يعيشه، وطبيعة العلاقات التي تربطه بمجتمعه والممارسات التي يمارسها. على أنه لا بد من الارتفاع بهذا المستوى من التفلسف الذي يمكن أن نسميه بالموقف الامتثالي الاستقبالي، أو موقف التلقي بأن نتخذ منه موقفاً نقدياً، لا بالنسبة لتصوراتنا الخاصة فحسب بل لمختلف التصورات الفلسفية الأخرى السابقة والراهنة والسائدة، أو نضعها جميعاً بشكل نقدي في إطار سيرورتها التاريخية. بهذا ننتقل بفلسفتنا من الامتثالية والتلقائية والتلقي السلبي إلى الوعي بالذات، وبهذا يتحقق للإنسان استقلاله التاريخي، على أن الفعل الفلسفي عند جرامشي لا يقف عند حدود الموقف النقدي للامتثالية بشكل فردي، أو حتى عند ابداع اكتشافات فلسفية بشكل فردي، وإنما يعني تشريك الفلسفة، أي نشرها نشراً اجتماعياً، بل يذهب جرامشي إلى حد القول: بأن توجه كتلة من الناس إلى التفكير بطريقة متسقة موحدة نقدية في الواقع الحاضر هو فعل فلسفي أكثر أهمية من أي اكتشاف يقوم به فيلسوف عبقري واحد، ويظل هذا الاكتشاف مجرد تراث لمجموعة صغيرة محدودة من المثقفين.

المهم كما يؤكد أ. العالم "أن الفعل الفلسفي عند جرامشي هو في جوهره ليس مجرد فعل إبداعي في المنطلق أو نخبوي معزول، وإنما هو فعل تثقيفي اجتماعي نقدي. وبهذه التثقيفية الاجتماعية تصبح للفلسفة تاريخيتها بارتباطها بحركة الحياة والمجتمع والجماهير عامة، ولهذا كذلك يمكن أن تشكل كتلة ثقافية وأخلاقية تجعل من الممكن سياسياً تحقيق تقدم ثقافي للجماهير، إن قيمة الفلسفة إذن في فاعليتها العملية، وفاعليتها العملية هي معنى قيمتها ودلالتها التاريخية.. وهكذا يبرز الإرتباط الصميم بين الفلسفة والفعل السياسي، بين الفكر والممارسة، بين الفكر والتاريخ" وعلى هذا فالفكر ليس شيئاً محايثاً في الواقع كما يقول الهيجليون القدامي والجدد، بل هو ثمرة لهذا الواقع، وهو كذلك وفي الوقت نفسه قوة متحركة ومحركة فيه، وهو وسيلة للتوحيد الاجتماعي في الفعل السياسي وفي المبادرة التاريخية، عبر تصور نقدي للعالم.

ومن هنا يبرز دور المثقفين في التغيير الاجتماعي والتاريخي، فكل طبقة سياسية لها مثقفوها العضويون المعبرون عن مصالحها والناشرون لإيديولوجيتها، والمثقفون هم الوسائط بين الطبقات الحاكمة والجماهير، وبهم تتحقق هيمنتهم على الجماهير، بما ينشرونه من تصور للعالم يوحد فكرهم وسلوكهم، وسلطة الطبقة الحاكمة لا تقوم على السيطرة فحسب أي على القمع، وإنما تقوم أساساً على الهيمنة، بل أن الهيمنة هي شرط لاستيلاء الطبقة على الحكم، بل هي شرط بقائها إلى جانب أجهزة القمع فالدولة ليست مجرد أجهزة اجرائية عميقة بل هي هيمنه أساساً، بمعنى تواجد رابطة سياسية ثقافية أخلاقية بين الجماهير والسلطة، بين المحكومين والحاكمين، متداخلة في كل مستويات المجتمع السياسي والمجتمع المدني، ولهذا فالهيمنة تمثل عند جرامشي تحالفاً طبقياً اجتماعياً كبيراً يتجاوز الحدود الطبقية والمصالح الاقتصادية المحددة، ليشكل وحدة سياسية قومية، وما كان يخشاه جرامشي ويتوقعه هو أن تقوم في الاتحاد السوفيتي دكتاتورية بغير هيمنة، أي لا تخرج السلطة السوفيتية من المرحلة الاقتصادية الحرفيةcor-porative ولا تحقق بناء سياسياً أخلاقياً، ولا تشيع ثقافة جماهيرية ديمقراطية بل تؤبد العلاقة بين المثقف وغير المثقف، بين الحاكم والمحكوم وهو ما حدث بالفعل في المرحلة الستالينية.

فالهيمنة ليست دكتاتورية البروليتاريا كما يقال، ولم يسكها جرامشي كتعبير يمكن تمريره من رقابة السجن، بل هي معنى أصيل أكبر واوسع من المعنى الضيق لدكتاتورية البروليتاريا، واقرب إلى مفهوم التحالف الجماهيري السياسي والثقافي بين فئات اجتماعية ذات مصلحة مشتركة ، ولهذا فهو ليس الاتفاق العام consensus كما قد يقال أحياناً. لأن الاتفاق العام قد يحمل معنى سلبياً ، على حين أن الهيمنة عند جرامشي ذات دلاله ايجابية ، تقوم على الوعي والتصور النقدي والتحالف والعمل على تجاوز الواقع الراهن الى واقع اكثر تقدماً ، وعلى إضعاف الطبقي الضيق لمصلحة الاجتماعي والقومي وإضعاف المجتمع السياسي لمصلحة المجتمع المدني ، كما يتيح انتقال الجماعات المحكومة إلى قوى حاكمة ، ولهذا فالهيمنة والديمقراطية مترادفان عند جرامشي. وتتحقق هذه اليهمنة بتوفر ما يسميه جرامشي بالكتلة التاريخية التي يتحقق بها وحدة البنية التحتية وأبنيتها الفوقية ، وحدة الحكام والمحكومين، بواسطة الدور الفعال الذي يقوم به المثقفون ويقوم به الحزب الذي هو المثقف الجمعي أو الأمير الحديث على حد تعبير جرامشي، ولعل مفهوم الكتلة التاريخية هو الإضافة النوعية الخاصة التي أضافها جرامشي إلى الماركسية وإن كانت قد أخذها عن Sorel في دراسة له عن فيكو وأخرى عن العنف وان كان مفهوم الكتلة عن سوريل يغلب عليه الطابع المثالي الخالص ، وفي مفهوم الكتلة التاريخية تتداخل مختلف عناصر فكر جرامشي حول الثقافة والايديولوجية والمثقفين والهيمنة . ولعل أبرز ما يعنيه مفهوم الكتلة التاريخية عنده هو استبعاد النزعة الاقتصادية (الاقتصادوية) ، وإبراز أهمية الأفكار في الفعل التاريخي ، وأهمية التحالف الواسع بين مختلف القوى الاجتماعية المنطلقة للتغيير الجذري ، فضلاً عن الربط بين القيادة السياسية والقيادة الثقافية والاخلاقية . حقاً ، ان هذه التاريخية ليست وقفاً على الفئات التقدمية بل هي أداة القوة الرجعية كذلك لتحقيق هيمنتها ، ولهذا تتميز الكتلة التاريخية لقوى التقدم والاشتراكية بالديمقراطية أساساً كما يرى جرامشي ، أي بالترابط والتداخل بين القيادات والقواعد ، بين الحكام والمحكومين ، بين البنية التحتية والبنية الفوقية إلى درجة استيعاب المجتمع المدني شيئاً فشيئاً للمجتمع السياسي ، وحل الاشكالية الماركسية الخاصة بتلاشي الدولة ، وهذه الكتلة التاريخية تسعى لتحقيق هدفها التاريخي بخوض ما يسميه جرامشي بحرب المواقع، أي الامتداد في أجهزة المجتمع المدني، والنظام السياسي تحقيقاً للهيمنة ، وإلغاء للإنقسام السياسي بين الحكام والمحكومين ، ولتكوين السلطة الثورية الجديدة.

وحرب المواقع هذه على نقيض حرب التحركات ( أو حرب المواجهة) التي تمثلت في ثورة أكتوبر عام 1917 ، والتي أخذت تتقلص وتتحول إلى بنية اقتصادية – بيروقراطية ضيقة بتخليها عن هذه الكتلة التاريخية السياسية الثقافية – الاخلاقية وفقدانها للهيمنة، أي بتحولها إلى مجرد دكتاتورية سلطة قمعية.

من هذه العناصر المتداخلة ، والمتمثلة أساسا في الثقافة ودور المثقفين ، وفي مفهوم الهيمنة ، ومفهوم الكتلة التاريخية يتشكل ما يسميه جرامشي بفلسفة الممارسة (لا الفلسفة الاجرائية كما يترجم بعض الكتاب مصطلح الـ Praxis والذين يحولونها بهذا التعبير، أو هذه الاجرائية إلى مفهوم وضعي خالص) وهي ليست – كما يقول بعض الكتاب كذلك- تسمية من أجل أن يتجنب جرامشي كلمة الماركسية تمريرا لكتاباته من رقابة السجن ، بل هي تعبير حقيقي عن مضمون فلسفته ، بل عن جوهر الفلسفة كما عبر عنها ماركس في الأطروحة الحادية عشرة من اطروحاته على فيورياخ، القائلة بأنه ليس المهم الآن تفسير العالم فحسب، بل المهم هو تغييره، كما أنها يمكن أن تفسر القول المشهور، بأن الحركة العمالية الألمانية هي وريثة الفلسفة الألمانية التقليدية أي أنها تتضمنها ولكنها تحولها إلى قدرة على الفعل التغييري، أن فلسفة الممارسة عند جرامشي لا تعني إلغاء الفلسفة باسم الممارسة، وإنما تعني وحدة الفلسفة والممارسة كما لاحظنا في عرضنا السريع باعتبارها تصوراً للعالم محايثاً متجسداً متحركاً فاعلاً في سلوك الناس، والنظرية التي لا تصبح حقيقة تاريخية فعالة ومصدراً للسلوك الاجتماعي، لا تكون نظرية صحيحة: إن فلسفة الممارسة هي جوهر الماركسية بتنقيتها من النزعة الميكانيكية، والنزعة التأملية التجريدية، والنزعة الاقتصادية، والنزعة التجزئية والنزعة السكونية التوفيقية والنزعة النخبوية، أنها صراع التناقضات وحركتها ووحدتها، وهي اللقاء الحميم النقدي الفاعل المنتج المبدع بين الإنسان والطبيعة، بين التاريخ والطبيعة، بين العلم والممارسة، بين المعرفة والسيطرة، بين المثقف والجماهير، بين الفكر النظري والمبادرة التاريخية، أي الانتقال في النهاية من الموضوعي إلى الذاتي، ومن الضرورة إلى الحرية.

إنها ليست تغليباً للممارسة على النظرية، بل اتخاذ الممارسة معياراً لصحة النظرية وإغناؤها بها، وجعل النظرية منفتحة باستمرار على الممارسة بكل تناقضاتها الموضوعية، منفتحة دائماً على النقد للفكر السابق والسائد، ومنفتحة دائماً كذلك على نقد ذاتها باستمرار بحيث لا تكون نسقاً فكرياً مغلقاً أو نموذجاً عملياً نهائياً، بل تلاؤماً خلاقاً مع ضرورات الواقع وملابساته الموضوعية، هذه هي الخطوط العامة لفلسفة الممارسة عند جرامشي وأتساءل مجتهداً: ألا يمكن أن نتبين من هذا التصور المتفتح الديناميكي للماركسية صدى للخبرة النظرية العملية اللينينية في مرحلة الإصلاح الاقتصادي أي النيب؟ وفي مواجهة ما كان يسميه بالثورة السلبية في المجتمعات الرأسمالية الغربية!؟

وأيا كان الأمر ففي تقدير المفكر الماركسي الراحل محمود العالم أن هذا التصور لا يعد خروجاً عن الماركسية أو اللينينية، بل تأكيداً وتعميقاً حيالها، بل تصحيحاً لها في مواجهة محاولات الجمود والتنميط، وهذا ما يجعل من فكر جرامشي فكراً فاعلاً في الحوار الدائر اليوم حول أزمة الماركسية وضرورة تجديدها فكراً وممارسة.

في ضوء هذا كله في ضوء مستجدات الواقع، هل يمكن أن نتلمس أخيراَ تلمساً أولياً بعض المفاهيم الأساسية التي تمثل روافع أو آليات في فكر جرامشي لتكن محاولة تمهيدية سريعة...؟

لعل أول هذه المفاهيم مفهوم الوحدة، أنه مفهوم غالب كاسح في كل صياغات جرامشي الفكرية ومبادراته السياسية. سنجد هذا المفهوم _ الآلية أو هذا المفهوم الرافعة متجسداً في مفهوم الكتلة، عنده سواء كانت ثقافية هذه الكتلة أو سياسية أو تاريخية، أو أخلاقية. كما نجدها في مفهوم الهيمنة، وفي العلاقة والبنية التحتية وفي دور المثقفين ومفهوم المثقف العضوي، أنها مفهوم سائد متغلغل في فكره ومفاهيمه عامة. ولهذا في تقديري لم يكن اعتباطاً أن يسمى جرامشي بنفسه مجلة الحزب الشيوعي الإيطالي الاتحاد.

لقد كانت الوحدة، وكان الاتحاد هو أهم وأبرز المفاهيم _ والآليات الفكرية والسياسية في النظرية والعملية في بنية فكر جرامشي، وربما كان ذلك تعبيراً عن حاجة المجتمع الإيطالي آنذاك، فضلاً عن حاجة الحركة الثورية إلى هذه الوحدة، وقد يكون من المفارقة أن نجد هذه الدعوة إلى الوحدة رمزاً كذلك في اسم حركة موسوليني "الفاشية" التي يعني اسمها الحزمة المترابطة. وإذا كانت الوحدة في فكر جرامشي تعني الوحدة الجدلية الديمقراطية التاريخية، الزاخرة بالصراعات والتناقضات والمبادرات التاريخية لتحقيق سلطة المنتجين، فإن الحزمة الفاشية هي وحدة متركزة حول أراء زعيم متسلط لإلغاء وطمس كل صراع وتناقض ومبادرة جماهيرية ديمقراطية، وفرض وحدة قهرية مصمتة، تحقيقاً لأهداف شوفينية طبقية رجعية، وعلى خلاف ذلك نجد مفهوم الوحدة عند جرامشي في تعابيرها المختلفة مثل الكتلة والهيمنة وغيرها مرتبطا بمفهوم آخر نجده متكرراً سائداً أغلب تعابيره هو العضوية أي العلاقة العضوية. فهذه الأشكال المختلفة من الوحدة هي وحدات عضوية، أي علاقات حية بين عناصر مختلفة ذات طابع صراعي تاريخي.

أما المفهوم الثاني فهو مفهوم السيرورة التاريخية، المرتبطة بعلاقات الإنتاج الاجتماعية. فالتاريخية عند جرامشي ليست تأريخاً متتابعاً، وليست حركة ميكانيكية فارغة من الدلالة، بل هي حركة متصارعة متشابكة معبرة عن علاقات إنتاج موضوعية، وهي ليست حركة تلقائية بحتة بل تنظمها المبادرات التاريخية الإنسانية الواعية الإرادية، ولهذا فالسيرورة التاريخية تجمع بين الأسس الموضوعية المتمثلة في علاقات الإنتاج، وبين الفعل الإنساني أو المبادرة الإنسانية التي تكاد تقترب عند جرامشي من الفعل الإرادي المثالي عنه كروتشه وجنتيله مما يدفع البعض إلى اتهامه بذلك.

وفي تقديري أن مفهوم السيرورة التاريخية، ومفهوم المبادرة التاريخية خاصة عند جرامشي الخروج بالمادية التاريخية من النسق المغلق ذي الاتجاه الأحادي الذي يحكمه انتظام على ثابت في حركة التاريخ، وهو مفهوم ميكانيكي جامد للمادية التاريخية قام بنقده عند بوخارين وبليخانوف.

والمفهوم الثالث هو مفهوم "التوسط" فمن العديد من الظواهر التي يعرض لها جرامشي هناك أداة للتوسط بينها، أي للترابط والتداخل والتواحد فهنالك توسط العمل بين الإنسان والطبيعة، وهناك توسط المثقفين بين الحكام والمحكومين، وهناك توسط الجدل بين المتناقضات، وهناك التوسط بين الاقتصاد والسياسة الذي يتحقق بالتطهر الكاثرسيس وهناك توسط الكتلة التاريخية نفسها، بل توسط مفهوم الهيمنة.

ويرتبط مفهوم التوسط بمفهوم يمكن تسميته بالعلائقية لو صح التعبير هو التعبير عن التداخل والتفاعل بين كل ظاهرة وظاهرة أخرى في عالم جرامشي الفكري والعملي، وهي بغير شك قاعدة من قواعد المنهج الجدلي عامة، ولكنها عند جرامشي تتخذ طابعاً منهجياً بارزاً

والمفهوم الرابع هو مفهوم العلم "الفعل" وهو مختلف تماماً عن المفهوم المثالي للفعل عند جنتيله باعتباره فعلا محضاً مفروضاً على الواقع الذي هو بدوره من صنع الفعل، وإنما العلم _الفعل عند جرامشي مرتبط بالتداخل الجدلي بين موضوعية العلم وذاتية الفعل، ولعل هذا هو ما عمق الإحساس بالقومية في تناول جرامشي للعديد من القضايا، ولكن القومية عنده لا تعني الشوفينية بقدر ما تعني الخصوصية أو الملموسية التاريخية والموضوعية والتراثية.

وهناك أخيراً مفهوم الامتداد أو الانبساط أو التفتح expansion الذي نجده في توصيفه لبعض الظواهر، وخاصة ظاهرة الكتلة التاريخية كما نجده في سيرورة الانتقال من الاقتصادي إلى السياسي، من البنية التحتية إلى البنية الفوقية، إلى وجدان الناس، من الموضوعي إلى الذاتي من الضرورة إلى الحرية ويقصد به جرامشي الخروج من الدائرة المغلقة، والنسق النهائي إلى آفاق أفسح باستمرار وأقرب إلى خبرة الحياة والإنسان.

وكان يطلق على حركة الانتقال هذه أو الامتداد التطهر بمعنى يختلف كثيراً عن معنى التطهر المسرحي الأرسطي.

هذا تلمس أولى سريع لبعض معالم الأسس الفلسفية لفكر جرامشي_ كما قدمها أ.محمود العالم _ولبعض معالم منهجيته الفلسفية عامة.

أرجو أن يكون مدخلاً لعمل علمي حقيقي نعمق به فهمنا لجرامشي ونجدد به رؤيتنا للماركسية، ونتلمس به واقعنا الخاص تلمساً منهجياً خالياً من البرجماتية والنصية والتجزئية والجمود عامة.

* المصدر: كتاب " الإنسان موقف " – محمود أمين العالم – دار قضايا فكرية للنشر والتوزيع – القاهرة – 1994.