Menu

تهريب الثروات من -الجنوب- إلى -الشمال- (عرض كتاب)

الطاهر المعز

من الصعب قياس مدى نهب ثروات البلدان الأفريقية من قبل الشركات متعددة الجنسيات التي تُهَرِّبُ رؤوس الأموال والأرباح التي تحقّقها في إفريقيا (أو غيرها من بلدان "الجنوب") إلى المصارف "الغربية" الكبرى والملاذات الضريبية، ما سمح باستمرار انتشار الفقر في أفريقيا الغنية بالثروات، ولهروب رؤوس الأموال آثار سلبية عديدة واسعة النّطاق. 

تُقدّر خسارة منطقة إفريقيا (جنوب الصّحراء الكبرى) جراء تهريب الأموال، بنحو تريليونَيْ دولار، بين سنتي 1980 و 2018، وتُقدّر الخسائر السنوية، منذ سنة 2018، بنحو 65 مليار دولار تهرّبها الشركات العاملة في قطاعات المعادن والمحروقات والإنتاج الفلاحي (الكاكاو) والماس، وهي مبالغ أعلى من قيمة الديون الخارجية، وتراوحت التدفقات الخارجة السنوية بين 3,3% و 5,3% من الدخل القومي (أي الناتج المحلي + عائدات الاستثمارات أو تحويلات المُهاجرين ومجموع الأموال الداخلة من الخارج)، وتمثل نيجيريا وجنوب إفريقيا وأنغولا وساحل العاج معظم تدفقات رأس المال الخارجة من إفريقيا جنوب الصحراء، فيما يطالب المواطنون بتوفير الخدمات الأساسية والتعليم والوظائف والسّكن اللائق والرعاية الصحية والكهرباء والمياه النّقِيّة والصّرف الصّحِّي وما إلى ذلك...  

إن تَوفُّر الموارد والثروات الطبيعية لا يؤدّي حَتْمًا إلى تطور القُوى المنتجة، أو إلى زيادة الإنفاق الحكومي على برامج التنمية، لأن الشركات الأجنبية العابرة للقارات تفرض شروطها، بتواطؤ مع الأنظمة القائمة في دول إفريقيا (كما في غيرها من البلدان) التي تنال رَشْوةً تتمثل في حصة صغيرة من الأرباح، لتَيْسِير عملية الاستغلال الفاحش للثروات وللعاملين، فيما تجمع فئة قليلة ثروات خاصة هائلة يتم تحويلها بشكل غير قانوني إلى الخارج، خصوصًا منذ "التحرير الاقتصادي" الذي فَرَضتْه المؤسسات المالية الدّولية، وتُشكل دولة ساحل العاج نموذجًا لاقتصاد الرّيع المرتبط بزراعة "الكاكاو" (المادة الأولية لصناعة الشوكولاتة) حيث ارتبط المزارعون مباشرة بالشركات الأجنبية التي فرضت شروطًا تُبْقِي المزارعين في حالة فقر دائم، بتواطؤ مع جهاز الدّولة، وأدّى انخفاض أسعار الكاكاو (ومجمل المواد الأولية) بداية من منتصف ثمانيات القرن العشرين، إلى أزمة سياسية بلغت ذروتها في الحرب الأهلية، ما وضَعَ حدًّا للرفاهية النّسبية، بل أصبحت الدّولة غير قادرة على تسديد حصص ديونها الخارجية، لكن ذلك لم يُخفّض من مبالغ الأموال المتدفقة إلى الخارج...

ما حصل في ساحل العاج، تكرّر في أنغولا، أحد أكبر منتجي النّفط في إفريقيا إلى جانب نيجيريا والجزائر، حيث يعيش معظم الأنغوليين في حالة فقر مدقع، باستثناء نخبة صغيرة من المُقرّبين من السّلطة، تواطأت مع الشركات النّفطية الأجنبية العابرة للقارات، وحصل نفس الأمر تقريبًا في جنوب إفريقيا - ثاني أكبر اقتصاد في إفريقيا جنوب الصحراء بعد نيجيريا – الغنية بالمعادن والموارد الطبيعية، حيث مَكّن "التحرير الاقتصادي" (بعد وضع حدّ لنظام الميز العنصري) من تعزيز نفوذ شركات المعادن الأجنبية التي أبدَعَتْ في ابتكار وسائل التّهرب من تلبية مطالب العُمّال، والتّهرّب من الضرائب، وأبدعت في ابتكار طُرُق تهريب رأس المال، بمشاركة بعض أجنحة السّلطة والأُسَر الثّرية، مثل أسرة "غوبتا" التي كانت مُقرّبة من الرئيس جاكوب زوما، الذي خلفه رجل أعمال ثري (رامافوسا) بعد سُقُوطه...

من المُؤسف أن تتحول ثورة أنغولا التي قادها أغوستينو نيتو (1922 – 1979) ورفاقه، أو نضال رُوّاد مكافحة نظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا، إلى نماذج للفساد والاستغلال الفاحش للعاملين وإلى نموذج للتفاوت الطّبَقِي وتهريب الثروات إلى الخارج، بالتواطؤ مع الشركات الأجنبية التي دعمت الاستعمار ونظام الميز العنصري وحركات الانفصال.

لقد سهلت الشبكات المالية العابرة للقارات تدفقات رأس المال، وتحويل الثروات إلى الخارج على حساب الاستثمارات في القطاعات المنتجة وعلى حساب الوظائف اللائقة والرفاهية الاجتماعية، كما أدى هروب رأس المال إلى تفاقم فجوة التمويل وارتفاع عجز ميزانية الدّول وزيادة الفقر والبطالة، بدعم من المؤسسات المالية الدّولية مثل صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي وصندوق التنمية الإفريقية وغيرها من المؤسسات التي يَسّرت النّزيف الذي يُشكّله غسيل وهروب رؤوس الأموال من جنوب الكرة الأرضية إلى شمالها، وغَطّت هذا التواطؤ بشعارات جوفاء مثل "الحَوْكَمَة" و"الحُكم الرشيد"، بدل دعم التنمية المستدامة.   

سمح النهب بتشكيل طبقة متميزة تمكّنت من جَمْعِ ثروات خاصة ضخمة تم نقلها بشكل غير قانوني إلى الخارج. يُمَثِّل هروب رأس المال والتهرب الضريبي وتراكم الثروة في الخارج شكلا من أشكال النقل الهائل للثروة من الجنوب إلى الشمال، وتعزز هذه الثروات المنهوبة والمُهَرّبَة نُفُوذ السلطة القائمة وتُعزّز نفوذ رأس المال الخاص سواء امتلكته أُسَر أو شركات، الذي لا يهتم بتطوير الاقتصاد الوطني بل بتعظيم الرّبح، مما يعيق الاستثمار في القطاعات الإنتاجية التي تهدف تلبية احتياجات السكان.

تتطلب مكافحة هروب رأس المال وتزييف الفواتير التجارية، عند توريد وتصدير السلع، وغسيل الأموال والتهرب الضريبي والاستحواذ على الأصول العامة من قبل النخب، تنسيقًا يتجاوز الحدود الإقليمية إلى المستوى العالمي، ضمن خطة شاملة تتضمن إلغاء الدّيون "الكريهة" (أو "البغيضة") واستثمار قيمتها في القطاعات المنتجة والخدمات الأساسية...

* تتبع مسالك هروب رأس المال من إفريقيا – تأليف ليونسي نديكومانا وجيمس بويس – نشر جامعة أوكسفورد 2022.