في مقبرة بروك وود الإسلامية في لندن، حيث يرتفع العلم الفلسطيني فوق قبر يحمل الرقم 230190، يسكن جسده، الشهيد الذي لم يكن مجرد رسام كاريكاتير، بل كان رمزاً للفن المقاوم وصوتاً مدوياً للحق. قبره هو الوحيد في تلك البقعة الهادئة الذي لا يحمل شاهداً، تاركاً المجال للعلم الفلسطيني ليكون شاهداً على إرثه العميق. لا حاجة لتفاصيل إضافية، فإن علم فلسطين الذي يرفرف، يروي قصة ناجي العلي، الذي عبر بلوحاته عن صرخات المقاومة وآلام الشعب الفلسطيني. ورغم بساطة مرقده، هو نصب تذكاري لعظمة فنه الذي ما زال يثير الجدل. مشيرا إلى أن الفن لا يموت، بل يتجدد ويواصل رسم قصص المقاومة والكرامة للأجيال القادمة.
حنظلة: رمز المقاومة أم انعكاس الوجود الفلسطيني الممزق؟
ناجي العلي، فنان وجودي يتجاوز حدود فن المقاومة. ناجي العلي، رسام الكاريكاتير الفلسطيني البارز، يُعدّ من بين أبرز الشخصيات الفنية في العالم العربي، فقد استخدم فنه للتعبير عن المقاومة الفلسطينية وتجربة الإنسان الفلسطيني بشكل عام. العلي لم يكن مجرد فنان كاريكاتير يعبر عن الأحداث السياسية، بل كان فيلسوفاً بصرياً يعبر عن عمق التجربة الإنسانية ومعاناتها. الوجودية في فن العلي تظهر من خلال تركيزه على الهموم الفردية والجماعية، على صراع الإنسان الفلسطيني مع ذاته ومع العالم المحيط به.
شخصياته، وعلى رأسها "حنظلة"، ليست مجرد رموز سياسية، بل هي تجسيد للإنسان الفلسطيني في صراعه الوجودي اليومي، الوجودية عند العلي تتجلى في تصويره للإنسان الفلسطيني في حالات القلق، الانتظار، والمعاناة، مما يجعله يعبر عن تجربة إنسانية عامة تتجاوز الخصوصية الفلسطينية.
العلي لم يكن مجرد ناقل للأحداث السياسية، بل كان أيضاً فيلسوفاً بصرياً يعبر عن أزمات الإنسان الوجودية في مواجهة الظلم والاضطهاد. فمن خلال رسوماته، يُظهر العلي الإنسان الفلسطيني ككائن عالق في حالة من الانتظار الأبدي، يبحث عن معنى لحياته وسط الفوضى والدمار. هذه الحالة من الانتظار والبحث عن المعنى هي جوهر الوجودية التي تظهر بوضوح في أعماله.
الفلسطيني بين المقاومة والهروب: اختبارات وجودية
الفلسطيني في رسومات العلي يواجه اختبارات وجودية صعبة، كل شخصية في رسومات العلي تعبر عن وجه من أوجه هذا الصراع الوجودي. فالمقاوم في رسومات العلي يظهر كرمز للصمود والشجاعة، ولكنه أيضاً يواجه حالة من القلق والتساؤل حول جدوى نضاله ومعنى تضحياته. من الرسومات التي تعبر عن هذه الحالات، نجد رسمًا يظهر فيه فلسطيني يجلس وحيدًا في زنزانة ضيقة، يعبر وجهه عن القلق والحيرة، بينما يظهر حنظلة في زاوية الصورة كمراقب صامت، مما يعكس الصراع الداخلي والضغط النفسي الذي يعانيه الأسرى الفلسطينيون. في رسم آخر، يظهر مقاتل فلسطيني يقف شامخًا رغم الجراح، يرفع علم فلسطين بيد ويرتدي ملابس ممزقة، مما يعبر عن روح المقاومة والصمود رغم الظروف القاسية.
تقول الناقدة البريطانية كاثرين كاسي، في دراستها عن الفن الفلسطيني، أن حنظلة يجسد "الطفولة المهدورة والهوية الفلسطينية المفقودة، ويعبر عن مراقبة دائمة للعالم وظلماته" (Cassie, 2020).
نبوءة الطوفان الكبير: استشراف المستقبل في فن العلي
ناجي العلي، من خلال رسوماته، لم يكن فقط يوثق للحظة الراهنة، بل كان أيضاً يستشرف المستقبل ويعبر عن نبوءة الطوفان الكبير. هذه النبوءة تظهر في العديد من رسوماته التي تعبر عن الفوضى والدمار المتوقعين، ولكنها أيضاً تحمل أملاً ضمنياً بالتغيير والتحرر. ففي رسومات العلي، نرى العديد من الرموز التي تعبر عن هذه النبوءة. الطوفان الكبير يمكن أن يُرى في صور الدمار والخراب التي تملأ رسوماته، ولكنه أيضاً يمكن أن يُرى في صور الصمود والمقاومة التي تعبر عن الأمل في التغيير.
العلي كان يعتقد أن هذا الطوفان ليس نهاية، بل هو بداية جديدة للفلسطينيين، حيث يعبر عن إيمان عميق بأن الصراع والمعاناة سيؤديان في النهاية إلى الحرية والعدالة. من بين الرسومات التي تعكس هذا التوجه، نجد لوحة تظهر فيها مدينة مدمرة، وأمامها حنظلة واقف يرفع يده بعلامة النصر، مما يرمز إلى الأمل بأن الدمار سيليه تجديد وبناء. رسم آخر يظهر فيه حنظلة يحمل زهرة تنمو من بين الأنقاض، مما يعبر عن فكرة أن الحياة ستستمر رغم الدمار، وأن الأمل لا يموت.
اشارت الباحثة الأمريكية جاكلين روز في كتابها "فن المقاومة: رسومات ناجي العلي" إلى أن العلي كان يستخدم الرمزية والوجودية لخلق رؤية مستقبلية تعبر عن الأمل والتحرر، وتقدم قراءة نقدية للواقع الاستعماري (Rose, 2021).
ناجي العلي ابن سياقه وابن بيئته، وحنظلة صغيره ما هو الا الإنسان الفلسطيني وصراعه الوجودي نحو الحياة والحق والعدل والبلاد، العلي ليس مجرد رسام كاريكاتير يعبر عن المقاومة الفلسطينية، بل هو فنان وجودي يعبر عن التجربة الإنسانية بكل تعقيداتها وصراعاتها. من خلال شخصياته ورموزه، يعكس العلي الصراع الوجودي للفلسطينيين ويخلق عالماً موازياً يعبر عن الزمن الفلسطيني.
أعماله تظل شاهداً حياً على قوة الفن في التعبير عن الأمل والحرية، وتمثل نصوصاً بصرية تحمل عمقاً نقدياً يعكس مأزق الإنسان الفلسطيني تحت الاستعمار، وتفكك آليات القهر والاستبداد التي يمارسها الاحتلال وحلفائه، وتستمر في تسليط الضوء على صمود الشعب الفلسطيني ونضاله المستمر
ناجي العلي لم يكن مجرد فنان كاريكاتير، بل كان مناضلاً يستخدم فنه كسلاح في معركة الوعي والنضال من أجل الحرية. تأثيره تجاوز حدود فلسطين ليصل إلى كل مكان يتواجد فيه الفلسطينيون في الشتات، حيث أصبحت رسوماته رمزاً للمقاومة والكرامة.