Menu

105 سنوات على وعد بلفور

غازي الصوراني

لا يمكن فهم مقدمات ونتائج وعد بلفور وزرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي، دون قراءة سياقاته التاريخية التي تبدأ من خضوع أغلب بلدان الوطن العربي للاحتلال العثماني على مدى أربعمائة عام متواصلة، حيث تكرس خلالها كل عوامل الفصل بين أوصاله وبروز كل عوامل التخلف والانحطاط والابتعاد عن العلم وشروطه، في المقابل كانت القوى الاستعمارية الكبرى تعد مخططاتها ضد الوطن الممزق باستعمارها أيضًا، حيث كانت اتفاقية سايكس بيكو التجزيئية، التي اتفق عليها بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية، التمهيد الأولي لصدور وعد بلفور بعدها بسنة فقط، على طريق إنشاء دولة العدو الصهيوني، التي جرى احتضانها ورعاية ودعم مشروعها الصهيوني وحركتها العدوانية الاستعمارية العنصرية من قبل هذه القوى الاستعمارية، بحيث تمكنت من إعطائها قوة دفع مستمرة لتحقيق مشروعها وأهدافه، ولم تتخلَ الدول الغربية الاستعمارية عن هذا الدور اتجاه الحركة الصهيونية ومشروعها، حتى بعد أفول نجم الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة، حيث قامت الولايات المتحدة الأمريكية بذات الدور، لكن في إطار رؤيتها الاستعمارية الإمبريالية التي سعت من خلالها للهيمنة والاحتواء للبلدان العربية وخلق مفاعيل التجزئة والتقسيم باستمرار، ونهب خيراتها، واحتجاز تطورها، وصولًا للمساومة التاريخية على الحقوق العربية والفلسطينية باسم اتفاقات السلام من كامب ديفيد وأوسلو والإبراهيمية. 

(1)

مقارنه بين الوعد 1917 والواقع الفلسطيني والعربي 2022...

في الثاني من نوفمبر/2022 انقضت مائة وخمسة سنوات على وعد بلفور في ظروف وأوضاع فلسطينية وعربية في هذا العام 2022، هي الأكثر سوءً وانحطاطاً على كافة المستويات السياسية والاجتماعية مما كان عليه الوضع العربي إبّان صدور الوعد عام 1917، بحيث لا نبالغ في القول أن لحظة صدور "الوعد البريطاني" تميزت بتفتح بذور الأفكار الوطنية والقومية التوحيدية، لدى فئة قليلة من النخب الليبرالية المثقفة، التي افتقرت إلى العمل المنظم أو القاعدة الشعبية بسبب خصوصية الحالة الاجتماعية والسياسية المتخلفة في تلك المرحلة، ورغم ذلك فإن تلك النخب _ بداية القرن العشرين_ مثلت حالة متقدمة في رؤيتها وأهدافها الوطنية والقومية، أفضل مما تمثله النخب الطبقية الحاكمة السائدة في المرحلة الراهنة ارتباطاً بتبعيتها وهبوطها السياسي وخضوعها وارتهانها للشروط الامبريالية/الصهيونية، ولكونها كرست حالة التراجع بالنسبة للأهداف الوطنية والقومية التوحيدية الكبرى.

(2)

مقدمات وعد بلفور...

بدأت فعليًا مقدمات الوعد قبل نهاية الحرب العالمية الأولى بسنوات عديدة، وترسمت بعد أن اتضحت معالم هزيمة التحالف الألماني التركي وانهيار الإمبراطورية العثمانية، حيث قررت دول التحالف الاستعماري آنذاك (بريطانيا وفرنسا) تنفيذ مخططهم الاستراتيجي الخاص لتقسيم الوطن العربي، فكان الإعلان عن توقيع اتفاق سايكس/بيكو عام 1916 كاستجابة للمصالح الاستعمارية من ناحية وارتباطاً بالمشروع الصهيوني ووظيفته في خدمة المخطط الاستعماري من ناحية ثانية، بما يضمن المصالح الرأسمالية الاستعمارية، وتفكيك الجغرافيا السياسية العربية بما يحول دون توحدها من ناحية واستمرار تخلفها واحتجاز تطورها من ناحية ثانية، وبالتالي كان إصدار وعد بلفور تتويجاً للرؤية الاستعمارية البريطانية / الفرنسية الخاصة بإقامة الدولة الصهيونية في فلسطين تحقيقاً لتلك المصالح ارتباطاً بوظيفة ودور الحركة الصهيونية ودولتها.

ذلك هو مغزى وهدف وعد بلفور الذي جاء انعكاساً لمقتضيات المصالح الرأسمالية في بداية القرن العشرين، ومن ثم تسخير الأوهام الدينية التوراتية –التي تفتقر لأي أساس تاريخي – في خدمة تلك المقتضيات والمصالح.

(3)

وعد بلفور انعكاس لمقتضيات المصالح الرأسمالية...

 جاء وعد بلفور انعكاساً لمقتضيات المصالح الرأسمالية في بداية القرن العشرين ومن ثم تسخير الأوهام الدينية التوراتية –التي تفتقر لأي أساس تاريخي – في خدمة تلك المقتضيات والمصالح.

وتأكيداً لهذه الحقائق لا بد لعودة سريعة للتاريخ الذي يؤكد أن ما يسمى بأرض الميعاد أو المسألة اليهودية أو الحركة الصهيونية، لم يكن سوى ذريعة استخدامية لتكريس مصالح النظام الاستعماري البريطاني في بلادنا الذي امتد وجوده حتى عام 1957، حيث تولت الولايات المتحدة الأمريكية –منذ ذلك العام- قيادة النظام الرأسمالي في صيغته الإمبريالية المعولمة، عبر استخدام نفس الذرائع التوراتية والأفكار الصهيونية العنصرية رغم كل حقائق التاريخ التي تؤكد على انقطاع الصلة بين فلسطين واليهود منذ عام 135 ميلادية ، ما يعني أن ما يسمى بـ "العودة اليهودية" إلى بلادنا فلسطين، ليست عودة توراتية أو تلمودية دينية، وإنما هي "عودة " إلى فلسطين خططت لها ووفرت مقوماتها الأنظمة الرأسمالية الاستعمارية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة، عبر دعمها للحركة الصهيونية التي استطاع روادها انضاج العامل الذاتي "اليهودي" الذي توفرت لديه كافة عناصر الدافعية وآليات العمل والتنظيم لتحقيق أهداف الحركة الصهيونية، في مقابل ضعف وهشاشة العامل الذاتي، على الصعيدين الفلسطيني والعربي آنذاك (وما زال على حاله حتى اللحظة) الذي اقتصر في رفضه لوعد بلفور والحركة الصهيونية على شعارات عامة عجزت عن تأطير نفسها ضمن عمل منظم وممأسس، بسبب تعمق مظاهر التخلف في ظل الهيمنة العثمانية من جهة وبسبب الطبيعة المهادنة للشرائح الطبقية من أشباه الإقطاعين والقمم العشائرية من جهة ثانية، الأمر الذي كان عاملاً أساسياً مهد لنجاح المشروع الاستعماري الصهيوني، ولم يكن ممكناً لأوهام "العودة التوراتية" أن تتحقق دون ذلك.

(4)

في كتابه "موجز التاريخ" يقول المؤرخ البريطاني "ج . هـ . ويلز" "كانت حياة العبرانيين في فلسطين تشبه حالة رجل يصر على الإقامة وسط طريق مزدحم فتدوسه الحافلات والشاحنات باستمرار، ومن البدء حتى النهاية لم تكن ممتلكاتهم سوى حادث طارئ في تاريخ مصر وسوريا وآشور وفينيقيا ذلك التاريخ الذي هو أكبر وأعظم من تاريخهم".

يؤكد على ذلك المسار التاريخي لأصحاب الديانة اليهودية منذ أن طردهم "هادريان" من فلسطين عام 135م حتى نهاية القرن التاسع عشر - حوالي 1750 عام - لم يعرف التاريخ أية دلائل أو مؤشرات جدية لحركة أو تجمع سياسي يهودي يسعى إلى إقامة دولة إسرائيل، وظلت هذه المسألة محصورة ضمن الرؤية الدينية التي تخلى عنها عدد كبير من اليهود إبان عصر النهضة وبداية عصر الرأسمالية ومصالحها الإستراتيجية التي اقتضت تأطير أو صياغة الفكرة السياسية لما أسموه "الوطن القومي" لليهود.

في هذا الجانب يقول المفكر الراحل الدكتور جمال حمدان في كتابه "اليهود أنثروبولوجيا"، "إن إسرائيل استعمار سكاني مبني على نقل السكان من الخارج إلى فلسطين"، فاليهود هم بالدرجة الأولى جزء من الظاهرة الاستعمارية-الاستيطانية الاحلالية العامة، ومع هذا فثمة ملامح خاصة فريدة لهم: العودة اليهودية إلى فلسطين ليست عودة توراتية أو تلمودية أو دينية وإنما هي "عودة" إلى فلسطين بالاغتصاب وهو غزو وعدوان غرباء لا عودة أبناء قدامى، إنه استعمار لا شبهة فيه بالمعنى العلمي الصارم، يشكل جسماً غريباً دخيلاً مفروضاً على الوجود العربي؛ فهم ليسوا عنصراً جنسياً في أي معنى بل جماع ومتحف حي لكل أخلاط الأجناس في العالم.

هكذا يتوجب تحليل "وعد بلفور" ومنطلقاته ارتباطاً بمصالح ومقتضيات المصالح الاستعمارية الرأسمالية - بصورة رئيسية – التي تشكل الحقيقة الموضوعية والتاريخية التي لا بد من العودة إليها عند البحث في العوامل الرئيسية لقيام "دولة إسرائيل" وخاصة سايكس بيكو، ثم وعد بلفور، ثم الانتداب البريطاني على فلسطين، ومن نافل القول إن "دولة إسرائيل" لم يكن ممكناً ظهورها على الخريطة دون هذا الانتداب.

(5)

نتائج وعد بلفور...

لم يذكر التاريخ أن أحداً تناول المسألة اليهودية خلال المرحلة التي كانت أوروبا فيها تعيش في ظل النظامين العبودي (حتى القرن الرابع الميلادي) والنظام الإقطاعي الذي استمر حتى القرن الثامن عشر.

ومع بداية عصر النهضة ونشأة النظام الرأسمالي في أوروبا، الذي بدأ –انطلاقاً من تراكم وتطور وتوسع حركة رأس المال - في التفكير والبحث عن السبل الكفيلة بحماية مصالحه الاستراتيجية في المشرق العربي، تقاطعت هذه الرؤية الاستراتيجية للنظام الرأسمالي مع إعادة إحياء المسألة اليهودية بعد حوالي 17 قرن من غيابها في الذهنية السياسية الأوروبية قبل عصر النهضة، وبالتالي فقد حرص النظام الرأسمالي الجديد على إعادة إحياء الطابع الديني للمسألة اليهودية وتشجيع الفكر الصهيوني ورواده على النقيض من عقلانية عصر النهضة وفلسفته التنويرية والإنسانية القائمة على الديمقراطية والمواطنة، لكن قوة المصالح الرأسمالية طغت على كل الشعارات والأسس الفكرية التي ميزت عصر النهضة، وذهبت صوب إحياء البعد الديني التوراتي الغيبي كذريعة تختفي ورائها تلك المصالح الرأسمالية لتحقيق هدفها الاستراتيجي في اقامة حاجز بشري قوي وغريب على الجسر البري (فلسطين) الذي يربط أوروبا بالعالم القديم، ومن ثم كان تشجيعها لعقد المؤتمر الصهيوني الاول 1897، ثم عقد مؤتمر لندن 1907 او ما يعرف بـ "مؤتمر كامبل بنرمان" ثم اتفاقية سايكس بيكو، ثم وعد بلفور وصولاً إلى صك الانتداب 1922 والاعتراف الرسمي بالوكالة اليهودية ودورها في فلسطين حتى عام 1948، واستمرار وتواصل الصراع ضد العدو الصهيوني عبر آلاف الشهداء من ابناء العمال والفلاحين والفقراء الذين كانوا – وما زالوا – وقوداً للنضال والثورة، في كل مراحلها التاريخية، وصولاً إلى حالة الانحطاط السياسي والمجتمعي الذي نعيشه اليوم، في فلسطين كما في كل البلدان العربية، في ظل أنظمة تابعة ومتخلفة لا مصلحة لحكامها وللشرائح الطبقية المتنفذة فيها سوى الحفاظ على مصالحهم عبر الخضوع والارتهان للإمبريالية الأمريكية وشريكها الصهيوني في بلادنا، في ظل حالة الانحطاط التي أصابت مجمل حركة النضال الوطني والقومي، بحيث أصبح المشهد الراهن أو العامل الذاتي، الفلسطيني والعربي الرسمي، صورة ممسوخة وأكثر تشوهاً مما كان عليه العامل الذاتي عند صدور وعد بلفور، إذ أن القيادة البورجوازية الرثة، الفلسطينية والعربية، تفوقت في تنازلاتها في هذه المرحلة على القيادة الإقطاعية التي رفضت رغم رخاوتها وعد بلفور، بمثل ما رفضت قرار التقسيم أو الاعتراف بإسرائيل، في حين أن قيادة م.ت.ف اعترفت بدولة العدو وتراجعت 180 درجة من شعار الكفاح المسلح لتحرر فلسطين إلى الاعتراف بدولة العدو دون أي مقابل.

(6)

حديث عن هرتزل وبلفور والدور الوظيفي للكيان الصهيوني...

مؤسس الحركة الصهيونية "تيودور هرتزل" كان مدركاً بقوة طبيعة العلاقة العضوية بين الحركة الصهيونية من ناحية ومصالح النظام الاستعماري الرأسمالي من ناحية ثانية، ما يؤكد على أن "إسرائيل" انطلاقاً من دورها ووظيفتها، لم تنشأ إلا لخدمة مقتضيات التوسع الرأسمالي، وكان وعد بلفور أحد أهم ثمار تلك المقتضيات لخدمة المصالح الاستعمارية البريطانية، وبعد أفول السيطرة الاستعمارية والدور البريطاني لحساب السيطرة الأمريكية في الشرق الأوسط منذ عام 1957 انتقلت "إسرائيل" إلى التعاطي مع الإمبريالية الأمريكية لتصبح أداة طيعة في تنفيذ مخططاتها وحماية مصالحها في الوطن العربي، ومع هزيمة حزيران 1967، تحولت دولة العدو الإسرائيلي تدريجياً إلى شريك حقيقي للإمبريالية الأمريكية، خاصة في ظروف العولمة الراهنة وخضوع الشرائح الحاكمة في معظم النظام العربي الرسمي لمقتضيات وشروط التحالف الصهيوني الإمبريالي، عبر اتفاقات "كامب ديفيد" و "وأوسلو" و "وادي عربة" وبداية مسلسل التطبيع مع "إسرائيل".

ولعلنا لا نبالغ في القول أن استشراء الظاهرة الدينية العنصرية في "إسرائيل" ليست بعيدة أبداً عن كونها ظاهرة في خدمة مقتضيات العولمة الإمبريالية الراهنة، والهادفة إلى اشعال النزعات الدينية العنصرية، الطائفية في كل البلدان العربية التي باتت في حالة غير مسبوقة من الخضوع والتبعية والتخلف، لإثارة المزيد من النزعات الطائفية والمذهبية والاثنية فيها تكريساً لتجزئتها وتفكيكها كما هو الحال في العراق و السودان واليمن ومصر، إذ أن هذا الضعف العربي كان وسيظل أحد أهم الأسباب التي عززت قوة دولة العدو الصهيوني وغطرستها وعدوانيتها وعنصريتها البشعة المتمثلة في رفع شعار "يهودية الدولة" كشرط اول لما يسمى بعملية التفاوض الجارية مع قيادة م.ت.ف صوب المزيد من الخطوات الاستسلامية باسم السلام المزعوم.

(7)

هل بات عنوان المرحلة الراهنة اليوم هو: الانتقال من التسوية الى التصفية للقضية الفلسطينية؟

في ظل استمرار تراجع القوى الوطنية الفلسطينية والعربية (بمختلف ألوانها وأطيافها)، وفي ظل استمرار الانقسام والصراع على المصالح الفئوية بين فتح وحماس في ظروف دولية وعربية وإقليمية أفقدت الفلسطينيين بوصلتهم وقدرتهم على فرض رؤيتهم وقرارهم الوطني من أجل الحرية والاستقلال والعودة، ومن ثم تكرست الهيمنة الخارجية على راهن القضية الفلسطينية لإفراغها من مضامينها وأهدافها النضالية التحررية، تلك الهيمنة يتزعمها اليوم التحالف الأمريكي الصهيوني والقوى الإقليمية، خاصة تركيا ، إلى جانب معظم بلدان النظام العربي الرسمي ودعوته الصريحة للاعتراف والتطبيع مع دولة العدو الصهيوني.

ففي مثل هذه الحالة من الانحطاط والخضوع العربي الرسمي للمخططات الإمبريالية الصهيونية، يبدو أن عنوان المرحلة الراهنة هو: الانتقال من التسوية إلى التصفية للقضية الفلسطينية بالتعاون مع عدد من الفلسطينيين من اصحاب المصالح الانتهازية، فقدوا وعيهم الوطني بذريعة ما يسمى بالتسوية أو ما يسمى بالعملية السلمية أو بذريعة الاعتدال، وكلها ذرائع لا تخرج ولا تتناقض مع شروط العدو الصهيوني الأمريكى وتركيا و السعودية ودويلات الخليج التي تتوزع الأدوار المشبوهة فيما بينها.

إن هذا الوضع الكارثي الذي يحيق بقضيتنا الوطنية وبمجمل الأهداف التي ضحى مئات الآلاف من أبناء شعبنا من أجلها، يفرض إعادة نظر جذرية بالنسبة لطبيعة القوى- وخاصة الفلسطينية - التي أوصلتنا إلى هذه اللحظة، لأن يأسها ومصالحها الخاصة هو الذي بات يحركها وليس القضية الوطنية، ما يؤكد على أن الحلقة الخبيثة لمسلسل التنازلات على يد اليمين الانتهازي الفلسطيني المستسلم (بكل تلاوينه ومسمياته وافراده وجماعاته) هي بمثابة بئر بلا قرار، وإن المآل الذي وصلته قضيتنا الوطنية، يشير إلى وهم الحصول على دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة، بينما الدولة الصهيونية تسرق الزمن من أجل فرض شروطها في ظل المأزق الفلسطيني الراهن... دون إلغاء وتجاوز الحديث أو التخطيط لإقامة دويلة ممسوخة في قطاع غزة.

لذلك لا بد من المجابهة لإنهاء وتجاوز الانقسام الكارثي لكي نستعيد وحدتنا الوطنية التعددية على قاعدة الالتزام العميق بالثوابت والأهداف الوطنية ومواصلة النضال التحرري والديمقراطي بكل أشكاله من أجل الحرية والاستقلال والعودة، ولا سبيل أمامنا سوى الحوار الوطني الديمقراطي الشامل بمشاركة كافة القوى والشرائح المجتمعية الوطنية، فإما الحوار الوطني الفلسطيني الشامل والاتفاق على إنهاء وتجاوز الانقسام والمأزق الراهن أو أن نتحول جميعا إلى عبيد أذلاء في بلادنا بعد أن نخسرها ونخسر أنفسنا وقضيتنا، وأعتقد أننا في اللحظة الراهنة على هذا الطريق طالما ظل الانقسام، وطالما ظل العدو الأمريكي الإسرائيلي متحكماً في مقدرات شعبنا وطالما بقي الملف السياسي الفلسطيني ملفاً إسرائيليا بلا قيود، وفي مثل هذه الأحوال يضيع الحاضر وتنغلق أبواب المستقبل ويحق علينا قول محمود درويش "أيها المستقبل : لا تسألنا من أنتم ؟ وماذا تريدون مني؟ فنحن أيضاً لا نعرف!!".

إن الموقف الواضح ينطلق من الحقوق التاريخية لشعبنا في فلسطين التي تفترض استعادة فلسطين بإنهاء الدولة الصهيونية، هذه هي المسألة الجوهرية رغم ضخامتها، أو رغم التشكيك الذي يطالها لأن ميزان القوى الآن لا يساعد على تحقيقها. فنحن كقوى ثورية فلسطينية وعربية من يجب أن يعمل على تعديل ميزان القوى لكي تصبح ممكنة. وميزان القوى ليس مرتبطاً كلياً بالوضع الدولي، بل مرتبط بالرؤية والبرامج الوطنية والقومية الثورية لحركة التحرر العربية اليسارية ونضالها من أجل إسقاط أنظمة العمالة الكومبرادورية وتحقيق أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية التي تجسد تطلعات ومصالح قوى الشعب والجماهير الشعبية العربية وما تفرضه من تحولات ثورية تحررية وديمقراطية.

إن ما ترتبه الإمبريالية والصهيونية للمنطقة عموماً ولقضيتنا الوطنية ليس قدراً لا يرد، حتى في ظل النجاحات والانجازات النوعية والكبيرة التي حققها العدو الصهيوني/الإمبريالي في مرحلة الانحطاط الراهن، فهذا الواقع لن يكون أبدياً ونهائياً، وبهذا المعنى فإن الحركة الثورية الوطنية والقومية وبالاستناد إلى طبيعة المشاريع المعادية وتناقضها الجذري مع حقوق ومصالح شعبنا وأمتنا العربية، قادرة عبر قواها الوطنية التقدمية على الفعل والمجابهة وبما يؤسس لمرحلة نهوض جديدة أكثر نضجاً وأكثر استجابة لحركة الواقع الموضوعية والذاتية وطنياً وقومياً.

إن المرحلة تتطلب عقول وسواعد الجميع، كما تتطلب الإرادة والتصميم على استمرار الكفاح ومواصلة العمل لنقل مشروعنا الوطني التاريخي إلى مستوى التحقيق المادي الملموس، هذه هي النقطة التي يجب أن ننطلق منها، وهو الأمر الذي يفرض الربط بكلية الوضع العربي، أي بالنضال العربي ككل، شرط أن يكون النضال الفلسطيني في طليعته، انطلاقاً من أن الصراع هو صراع الطبقات الشعبية في الوطن العربي ضد السيطرة الإمبريالية، بما فيها الدولة الصهيونية، كونها أداة في مصلحة الشركات الاحتكارية الإمبريالية.