Menu

الجيوسياسةُ مصدرًا للشرعيّة!

حسن شاهين

نشر في العدد 43 من مجلة الهدف الرقمية

تناولَ مقالٌ سابقٌ لي هنا في الهدف (مع لنين ضد بوتين) خطابَ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عشيّةَ الحرب التي شنّتها بلادُهُ على أوكرانيا مدخلًا لفهم الحرب والاعتبارات الجيوسياسيّة التي كانت في نظر بوتين كافيةً لتقدّم بلاده على اقتطاع أجزاء من أوكرانيا إلى جانب الأسباب المباشرة التي ساقها. وسيحاولُ هذا المقال التوسّع أكثر في نقاش مسألة صلاحيّة الاعتبارات الجيوسياسيّة مصدرًا للشرعيّة في السياسة الدوليّة.

الجيوسياسة "Geopolitics" حسب الموسوعة البريطانيّة هي "تحليل تأثيرات الجغرافيا على علاقات القوّة في العلاقات الدوليّة". وتأثيراتُ الجغرافيا متعدّدةٌ تشملُ الطبوغرافيّة والمناخ والموقع الجغرافي والسمات الثقافيّة للبشر. وظهر المصطلح في بداية القرن العشرين، وأخيرًا شاع استخدامه حتى أصبح هناك خلط غير صحيح بينه وبين السياسة الدوليّة. فالجيوسياسة هي عاملٌ مؤثّرٌ في السياسة الدوليّة إن فهمنا السياسة الدولية بمعناها العاري كعلاقات القوّة بين الدول، كما ورد في تعريف الموسوعة البريطانية أعلاه، بعيدًا عن خلطٍ آخر خاطئ يحصل بين مفهومي السياسة الدوليّة والعلاقات العامة. كذلك الجيوسياسة مفهومٌ يعكسُ حقائقَ تاريخيّةً تشكّلت على المدى التاريخي، الذي يفوق بكثير المدى الزمني للممارسة السياسيّة حتى في مستواها الاستراتيجي، ومن ثَمَّ الجيوسياسة تُفهم وتُستوعب ويُدرس تأثيرها لكن لا تمارس، بينما السياسة الدولية هي فعلٌ وممارسة.

لفهم كيف تؤثّر الجيوسياسة على السياسة الدولية يمكن طرح مثالين؛ الأول الصين التي تسعى للتحول إلى قوة عالمية أولى تنافس هيمنة الولايات المتحدة والغرب، لكنها في مسعاها ذلك يواجهها تحدي جيوسياسي جدي، يتمثل في إرث تاريخي من الصراع مع كل جيرانها تقريباً، ويضاف إلى الإرث التاريخي نزاعات حدودية معقدة كما هو الحال مع الهند، حتى مع فيتنام لم يشفع التقارب الأيديولوجي بين نظامي البلدين في إقامة علاقات ودّية طبيعية، ونرى اليوم كيف أن فيتنام أقرب إلى الولايات المتحدة منها إلى الصين.

وعلى العكس من نموذج الصين، ليس لدى الولايات المتحدة مثل ذلك الإرث التاريخي من الصراع مع أي دولة من دول العالم، نظراً لبعدها الجغرافي عن العالم القديم وحداثة نشأتها نسبياً، ما سهل هيمنتها العالمية ومكنها من لعب أدوار سياسية مباشرة وغير مباشرة في كل أقاليم العالم؛ ذلك على الرغم من أنها أكثر دولة في العالم خاضت حروباً خارجية منذ منتصف القرن الثامن عشر، وتتهم باستمرار بالتدخل في الشأن الداخلي للدول، لكن كل نزاعاتها الدولية يمكن أن تحل بقرار سياسي إن أرادت ذلك، سواء مع إيران أو كوريا الشمالية أو كوبا، وهو ما تم بالفعل مع فيتنام التي شنّت عليها حربًا راح ضحيتها نحو مليون ونصف من سكانها. لكن كيف يمكن حل الصراع التاريخي بين تركيا واليونان، أو الهند وباكستان أو أرمينيا وأذربيجان بقرار سياسي؟

الجيوسياسة مصدرًا للشرعيّة

إن الاعتبارات الجيوسياسية تؤثر كما أسلفنا على سياسة البلد الخارجية، لكن هل تعطي تلك الاعتبارات مشروعية قانونية وأخلاقية لأي دولة لتقوم بفرض أمر واقع فيه تغيير للحدود أو السيادة داخل دولة أخرى؟

لمحاولة الإجابة على هذا السؤال من المفيد العودة إلى خطاب فلاديمير بوتين الذي أُشير إليه في مقدمة المقال بالإضافة إلى الإفادة التي أدلى بها وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن في جلسة استماع أمام الكونغرس، في حزيران، يونيو 2021 حول وضع الجولان السوري.

خرج بوتين في خطابه ذاك (قبله في مقال سياسي نشره عبر موقع الكرملين) باستنتاج أن أوكرانيا بلد مصطنع خلقه فلاديمير لينين والبلاشفة وأنها أداة يستخدمها الغرب ضد بلاده، متخذاً من ذلك، إلى جانب ذرائع سياسية راهنة أساساً  لشن حرب هدفها تقسيم واقتطاع أجزاء من أوكرانيا. من جهته دعم أنتوني بلينكن في إفادته بقاء سيطرة إسرائيل على الجولان المحتل، طالما كانت سوريا تشكل تهديداً لإسرائيل، هذا رغم أن جبهة الجولان ظلت هادئة منذ نهاية حرب 1973 أي لنحو نصف قرن. إن بوتين وبلينكن اتفقا ضمنياً على أن الاعتبارات الجيوسياسية كافية لشرعنة فرض أمر واقع فيه تغيير لحدود أو الوضع القانوني لإقليم أو دولة أو شعب. طبعاً هما لا يستطيعان أن يقولا ذلك بعبارات صريحة لأنه ينافي بشكل صارخ مبادئ القانون الدولي الذي كان لدولتيهما إسهام كبير في وضعها.

إن الاعتبارات الجيوسياسية تؤثر في السياسة الدولية للدول كما أسلفنا، لكن لا تكسبها شرعية. لقد تم الاستقرار في عملية تراكمية تاريخية على مبدأ أولوية حفظ السلم الدولي حتى على حساب الاعتبارات الجيوسياسية. يكفي النظر إلى التغيرات التي طرأت على جغرافيا العالم السياسية خلال القرن العشرين، خاصة في نصفه الأول الذي شهد الحربين العالميتين لتبيّن أن هناك دولاً لم تعد قائمة وأخرى تشكلت، وإمبراطوريات تفككت، وحدود تحركت. كل ذلك حصل على حساب الاعتبارات الجيوسياسية لكثير من دول العالم، لكن في النهاية تم الإقرار والقبول بمعظم تلك التغييرات حفظاً لحالة السلم. ولو اعتبرت كل دولة أن تطلعاتها الجيوسياسية تعطيها الحق في فرض أمر واقع على حساب الدول الأخرى لأصبح العالم ساحة حرب مفتوحة لا تنتهي.

فلسطين ونقاش الجيوسياسة

إن قضية فلسطين هي بالضرورة في حالة تناقض مع منطق قبول الاعتبارات الجيوسياسية كأساس لشرعية السياسة الدولية لأي دولة تجاه أخرى، ومن يتفق مع هذا المنطق هو إسرائيل، التي كانت الاعتبارات الجيوسياسية الغربية من أسباب إنشائها. لذلك من الرعونة واللا مسؤولية إظهار دعم مبررات روسيا في حربها على أوكرانيا من أي طرف فلسطيني، مهما كان المبرر. فإن قبلنا ما قاله بوتين كيف لنا أن نرفض منطق بلينكن؟ ناهيك عن منطق حكومات إسرائيل بعد أوسلو في رفض إقامة دولة فلسطينية، الذي يقول إنه للدفاع عن حدود 1948 لا بد من إبقاء الاحتلال على حدود 1967، رغم إبرامها معاهدتي سلام مع الدولتين العربيتين اللتان تحدان الضفة وغزة، واستعداد القيادة الفلسطينية لمناقشة مسألة دولة منزوعة السلاح.

إن قضية فلسطين ظلت في حالة انسجام مع الحقوق التي أقرتها الشرائع الدولية الرافدة للقانون الدولي، خاصة حق تقرير المصير وحق الشعوب في العيش والازدهار على أرضها، وهذا من أهم عوامل قوة القضية، ومن غير المقبول أن تعكر السياسة الفلسطينية الرسمية والفصائلية هذا الانسجام لاعتبارات سياسية راهنة مهما كانت.