كثيرةٌ هي المسائل والقضايا السياسيّة والفكريّة التي تشغل حركة التحرّر الوطنيّ الفلسطينيّة بشكلٍ عام، والإنسان الفلسطينيّ بشكلٍ خاص، الذي يشكّل لبنتها الأساسيّة. ولكن من أهمّ هذه المسائل هي مسألةُ التمثيل الوطنيّ والسياسيّ، ومرجعيّة هذا التمثيل التي يمكن العودة لها لتحديد مدى الانحراف، وخاصّةً عن الأسس والمبادئ الاستراتيجيّة في حقل السياسة، وعن خطورة التخلي عن الثوابت الوطنيّة التاريخيّة التي: ترسم حدود أرض الوطن، وتدافع عن روايته الأصلية منذ عصور الميثولوجيا والآلهة الكنعانيّة حتّى الآن.
والسّؤالُ الذي يفرضُ نفسه ويضغط على "دماغ" الحركة الوطنيّة، كما على دماغ المواطن الفلسطينيّ، هل ممكن الاتفاق على تمثيلٍ موحّدٍ ومرجعيّةٍ موحّدةٍ في الظروف الجديدة، أي فيما يعرف بمرحلة أوسلو؟ ولمزيدٍ من التبسيط، هل هذا ممكنٌ في ظلّ موازين القوى المحليّة والإقليميّة والدوليّة وازدياد تكثيف ترابط وتشابك المصالح الطبقيّة الاستراتيجيّة لأطراف الحلف الإمبرياليّ الصهيونيّ الرجعيّ العربيّ، بما فيه فريقُ أوسلو الفلسطينيّ؟
في الواقع، الإجابةُ على هذه الأسئلة لا تحتاج فقط لجرأةٍ فردية، بل لصدق وجرأة من قبل القوى الوطنية، بكل انتماءاتها الفكرية، التي ما زالت ترفع راية التحرير الكامل وتطهير فلسطين والوطن العربي من الصهيونية ماديًا وروحيًا، وكما نعلم هذا هو الطريق الأصعب، ولكنه الاقصر.
ليس جديدًا القول: أن الحركة الوطنية الفلسطينية، منذ بدايات النضال ضد الغزو الصهيوني الإمبريالي لفلسطين، لم تتفق على تمثيل موحد، لأنها ورغم شدة الهجمة الاستعمارية ووضوحها، لم "توحد" موقفها من طبيعة ونوايا واستراتيجية العدو، رغم اتفاق كافة أطرافها على تسميته ورؤيته بالعين المجردة والإشارة له بالأصبع. لم يكن السبب تخلف أو أمية "القيادة"، بل بسبب تكوينها الطبقي اقتصاديًا، والعشائري اجتماعيا، مما أدى إلى غربتها عن جسمها المقاتل المناضل والمضحي، هذه "الغربة"، ساهمت في فصل "الجسم الشعبي" عن "الرأس القيادي"، وفي السماح للقيادة السائدة والمتنفذة، أن تمعن في التساوق مع "وعود" الاستعمار البريطاني والانخراط في مشاريعه التي كان هدفها إقامة "دوله لليهود" في فلسطين. إنّ "فشل" الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة ومعها الأنظمة العربيّة، التي نصبها الاستعمار، في منع إقامة الحركة الصهيونيّة "لدولتها" المركزيّة في فلسطين، وبرغم اقتراف المجازر بحق شعبنا، ومحو مئات القرى التاريخية عن وجه الأرض وتفتيت الشعب وتهجيره وحصول ما يعرف بالنكبة، لم يؤدِ كل هذا إلى إنهاء الشعب وتاريخه وروايته، رغم انتهاء وجود "القيادة التقليدية" وموتها الفعلي والسياسي. هذه الحقبة التي امتدت من النكبة عامي 47 ـ 48 من القرن المنصرم، حتى عام 67 من نفس القرن، سنة احتلال ما تبقى من فلسطين وأراضي عربيه أخرى، الجولان السوري وسيناء المصرية، أثبتت أنه من المستحيل القضاء على الشعب الفلسطيني وروايته وتاريخه وأحلامه وطموحاته، وأثبتت ايضًا أن الشعب هو مصدر السلطات والتمثيل والمرجعية، وهذه ما هي إلا أدوات، تموت أو تتجدد، بما يتلاءم مع وظيفتها المنشودة لتلبية هدف استراتيجي لمرحله تفرضها الضرورة التاريخية. منظمة التحرير الفلسطينية، التي أسسها الرئيس المصري القومي الراحل، جمال عبد الناصر، والتي حظيت على شرعية ووحدانية تمثيلها للشعب الفلسطيني بقيادة البرجوازية الفلسطينية، فشلت في تحقيق أي من أهداف برنامجها السياسي. الهدف الاستراتيجي تم "تجميده" طوعًا، من قبل قيادتها، عندما أقرت ما سُمي بالبرنامج المرحلي، وفي ركض ذات القيادة ولهاثها، لتحقيق هذا "البرنامج"، ولكي تثبت حسن نواياها وثقتها "بالجار" الجديد، أقدمت على الانتفال من حالة "التجميد" للهدف الاستراتيجي المتمثل بتحرير فلسطين التاريخية، إلى الغائه رسميًا وبشكل احتفالي مشين من أعلى سلطه للشعب الفلسطيني، المجلس الوطني، والذي قامت على أساسه "منظمة التحرير". هذا التطور النوعي الجديد أنهى موضوعيًا مرحلة الإجماع الشعبي على شرعية تمثيل "المنظمة الجديدة" للشعب الفلسطيني، وكرس "سلطة الحكم الذاتي"، المنبثقة من رحم اتفاقيات أوسلو، و"المنظمة الجديدة" كناطق باسم "الشعب" و "ممثل للسكان" في الأراضي المحتلة، التي كرستها اتفاقيات أوسلو كأراضي متنازع عليها، مما أنهى وطنيًا وعمليًا وحدانية وشرعية التمثيل من جهة، وأفقد الحركة الوطنية التي رفضت كل هذا النهج وتلك الاتفاقيات المرجعية الوطنية الثورية.
الشرائح البرجوازية الفلسطينية وخاصة الكومبرادور، صاحبة مشروع التسوية السلمية وحاضنته وتنظيماتها اليمينية، وخاصة حركة فتح، جعلت من برنامجها الأوسلوي الجديد، الموافق عليه من كل أطراف معسكر الأعداء، الممثل والمرجعية "للحركة الوطنية" التي ما زالت تدعي قيادتها وتمثيلها، وتتعاطى معها كورقه استعمالية من أجل الابتزاز، وعرقلة ومنع ميلاد البديل القيادي والبرنامجي الوطني الثوري الحقيقي، الذي بدونه لن يحرر الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية نفسهما من أزمة طبقية برنامجية وقيادية تاريخية، القادر على إطلاق طاقات الشعب إلى رحاب وآفاق النضال ضد العدو الصهيوني وحلفائه الحكام العرب وداعميه الإمبرياليين.
إن من حق القوى الرافضة لاتفاقيات أوسلو وبرنامج اليمين الفلسطيني، الذي يعتبر حدود "الوطن"، أقل من الأراضي المحتلة منذ سنة 67، ويقر بحق الكيان الصهيوني في الوجود الشرعي على الجزء الأكبر من أرض فلسطين، أن تصارح الشعب الفلسطيني بالمدى الذي قطعته قيادة هذا اليمين وتوغلها في أوحال الحلول الصهيوإمبريالية، وما يترتب على ذلك من مخاطر على النضال الفلسطيني وانجازاته وإدخال العلاقات والحوار الفلسطيني في حلقة مفرغة، غير مجدية وعميقة في آن.
إن كسر الحلقة المفرغة هذه يتطلب كسب الجماهير والتفافها حول برنامج القوى الوطنية الجذرية، من خلال توحدها في "جبهة مقاومة وطنية"، إذا أمكن، أو بشكل فردي، ودحر اليمين عن سلم القيادة، التي يتبوأها لأسباب وعوامل موضوعية، يوفرها له المعسكر المعادي أو المعروف بمعسكر التسوية السلمية. إن القوى التي ما زالت متمسكة باستراتيجية التحرير الكامل وتقاتل العدو بكافة الوسائل، بما فيها بعض قواعد قوى منخرطه في المشاريع التصفية، عليها أن تحسم أمرها في المراهنة على إمكانية تحقيق الوحدة الوطنية على من لم يعمل من أجلها في الماضي، ويعبث الآن بما هو قائم من تعايش وطني بحدوده الدنيا، لتفوز بتمثيلها للشعب المكافح المجاهد والمناضل، وفرضه عاجلًا أم آجلًا على المجتمع الدولي، الذي عليه أن يقبل بنا كما نحن نريد، لا أن نكيف حالنا ونقصقص أطرافنا، ليقبل بنا ويدخلنا في قوالب معده سلفًا، لتدجيننا وتزيين المحافل بنا.