Menu

الانتخاباتُ الخامسة... مزيدًا من التّعرية!

أكرم عطا الله

نشر هذا المقال في العدد 44 من مجلة الهدف الإلكترونية

بما أنّ إسرائيل كانت بحاجةٍ إلى هذه الانتخابات كي نرى كلّ هذا الوضوح الذي حاولت إخفاؤه بمساحيقَ علمانيّةٍ حكمتها لعقودٍ ماضيّة، كانت الانتخابات الأخيرة تعود بهذه الصراحة نحو الجذور، لدولةٍ تأسّست بالدين وتمَّ حملُها على أرجل خشبيّة علمانيّة، سارت بها مسافةً من الزمن، ولكنّها عجزت عن الاستمرار بحملها أطول، لتصدم من لم يقرأوا السياق التاريخي الهادئ لتلك الأصول، منذ تشكّل الدولة في أربعينات القرن الماضي، عندما لم يجرؤ "بن غوريون" على إعلانها إلا بصفقة مع أغودات إسرائيل، يتعهّد فيها بالالتزام بتقاليد الديانة، ومن هنا حاولت العلمانيّة اختراع زواجٍ قسريٍّ مع الدين، لكن في النهاية انتصرت القوى الدينيّة على علمانيّة، حاولت العيش في دولةٍ تقوم أساساتها على اليهوديّة وكتابها.

الحاخامات يحكمون إسرائيل، لو كان هرتسل حيًّا لأصيب بصدمةٍ وهو الذي كان قاطعًا في كتابه "دولة لليهود"، بضرورة عزل الحاخامات في كنسهم ومنع تدخّلهم في السياسة، كان يدرك أزمة الدين في دولة يريدها دولةٍ حداثيّة، حين كان خارجًا بأفكاره من تراث العلمانيّة الأوروبيّة، وفي عمليّة تشكيل الحكومة، يبدو أنّ الدور الأكبر في التشكيل ومرجعيّاته حاخامات الصهيونيّة الدينيّة وحاخامات حزب شاس وحاخامات يهدوت هتوراة. كلّ هؤلاء من يضعوا الخطوط العريضة والشروط، وفقًا للفتاوى الحاخاميّة.

"إسرائيل الدولة العلمانيّة في الشرق الأوسط"، تلك مقولة في طريقها للنهاية، فقد عراها صندوق الانتخابات الأخيرة الذي أطاح بأحزابها العلمانية: ميرتس الذي ألقى به في الخارج، وحزب العمل الذي قام بهندستها، وفقا لرؤيته العلمانية، واستدعي رجال الدين وأحزابه ثلاثة من أربعتهم هم من يشكل حكومة نتنياهو القادمة، يقف جزء من رجال الدين في مكاتب الوزارات وخلفهم تقف مرجعيات دينية كبيرة، ستدير الدولة حسب النصوص.

"إسرائيل الدولة الديمقراطية في بحر من الدكتاتورية"، تلك المقولة صفعتها نتائج الجولة الأخيرة ومن يتابع تصريحات أعضاء الائتلاف وحجم العنصرية المنفلتة، تجاه الآخر، ليس العربي فحسب، بل حتى اليهودي المُختلف، يدرك أن إسرائيل تسير نحو ظلامية لا مثيل لها في المنطقة، وربما أن الدكتاتوريات في الشرق الأوسط، ليست دكتاتوريات دينية، وهذا أقل وطأة، لكن في إسرائيل، فإن دكتاتورية رجال الدين وأحكامهم التي تستمد من تراث يعود للعصور الظلامية ستجعلها في المراتب المتأخرة.

في إسرائيل هذه المرة، انتصرت العقيدة على السياسة، وانتصرت الدولة الدينية على "الدولة العلمانية"، وتلاشت الاعتبارات التي أقيمت الدولة على أساسها. اعتبارات الدولة العلمانية والقانون والشفافية، كل تلك لم يتعدَ مهمة وألقى بها الناخب الإسرائيلي في مهملات التاريخ، فقبل سنوات كانت شبهة فساد واحدة تكفي لتدمير مستقبل أي سياسي في إسرائيل، لكن إسرائيل وفي هذه الانتخابات هرعت نحو الصندوق، لتعيد الثقة بالرجل الذي تلاحقه الشبهات والملفات التي تتداولها المحاكم من الرشاوى حتى خيانة الأمانة. ليس هذا وحسب، بل أن أقوى الرجال في هذه الحكومة شأنهم في معايير الدولة العلمانية، ليست أفضل حالا، ما يعكس مزاج الناخب وأولوياته التي حسمها باتجاه دولة الفساد، لا دولة القانون والأمانة، فأرييه درعي زعيم حركة شاس كان قد اعتقل قبل عقدين في سجن مسعياهو بتهمة السرقة والاختلاس، حين كان وزيرا للداخلية، والأسوأ أنه عاد وكرر فعلته مرة أخرى: ها هو سيعيد تسلم الوزارة بكل ثقة، بل وبترقية كنائب رئيس الوزراء ومثله يتسليل سموتريتش المتهرب من الخدمة العسكرية الكاملة، كان يطالب بوزارة الدفاع، ثم قبل بوزارة المالية، وليست السخرية ببعيدة عن بن غفير الذي سيتسلم وزارة الداخلية التي تشرف على الشرطة وتطبيق القانون: في تاريخه ما يحمل خمسون لائحة اتهام لمخالفات القانون... تلك هي الصورة بلا مساحيق.

تتكامل الأشياء والبني الاجتماعية والسياسية، وفقا لهرم بوروخوف، ولا يمكن لهذه التوليفة القادمة من عمق المزاج الشعبي والاجتماعي أن تتوقف عن القشرة السياسية العليا والطوابق الأولى، فالعقل الذي ينتخب الفاسدين والخارجين عن القانون هو عقل يبتعد كثيرا عن أنماط الدول الحضارية، ورجال الاختلاس مع توليفة رجال الدين، لن تنتج سوى دولة بدائية. لا يعني هذا أننا سنشهد هذا حالا، وفي كل مرة أشير لهذا المسار في مقالاتي... لا يفوتني القول: أن ذلك سيأخذ وقتا ما، فلا زالت الأرجل الخشبية موجودة. ستسير إسرائيل بالدفع الذاتي، لكن من الواضح أن هذه الانتخابات أخرجتها تحت الشمس وأوصلتها إلى محطة، بدأت تتشابه فيها مع الأنماط البدائية، هذا بات واضحا في العينة السياسية الفوقية، ولكن تلك العينة، تملك رؤى مختلفة تماما عن الشكل القديم، سواء لجهة المؤسسة التي يتوقف التغيير فيها على مدى مقاومتها أو لجهة الشكل العلماني الذي ستطيح به الفتاوى القادمة أو للديمقراطية التي سيعبر عنها سموتريتش وبن غفير أو لجهة دور الدين في الدولة.

إن هذه الانتخابات كانت فارقة في تاريخ الدولة، نحن أمام تغير هائل سيطال شكلها ومضمونها: القانون والمؤسسات والاستيطان والجيش وكل شيء، وسيسدل الستار على إسرائيل التي حاولت إخفاء أو تغطية أصولها، مستعينة بقوى عظمى ذات طابع حداثي، وكانت لإسرائيل رغبة بتقليدها، لكن الآن كان أول تصريح يصدر عن أحد أقطاب الحكومة: أن على تلك الدول أن تكف عن التدخل في الشأن الإسرائيلي، وتلك ستعني الكثير لدولة قامت وتربت في كنف تلك الدول. لقد كشفت الانتخابات الشكل الجديد ودعونا نرى تطبيقاته العملية.