Menu

ولو في الصين

سعاده مصطفى أرشيد

عقد مؤتمر يالطا عقب نهاية الحرب العالمية الثانية بين المنتصرين في الحرب، بهدف تقاسم العالم، وبناء نظام عالمي من قطبين، الشرقي الشيوعي بقيادة الإتحاد السوفيتي، والغربي الرأسمالي، الذي يضم الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. كان الطموح الأميركي واضحا لتسلم قيادة ذلك القطب، مما دعا واشنطن لأن تتوجس من الشركة مع إنكلترا وفرنسا (قوى الاستعمار التقليدي)، وعملت في التعاطي مع هذه المسألة على خطين: الأول في إعادة إعمار أوروبا، ودعم اقتصاد الشريكين بالمعونات المشروطة (مشروع مارشال)، والثاني بمحاصرة نفوذهما، ووراثته خارج القارة العجوز، وبداية بمناطق النفط وجوارها.

كانت الخطوة الأولى بزيارة الرئيس الأميركي روزفلت للمنطقة فور انتهاء أعمال مؤتمر يالطا، ولقاء قادة الدول المستقلة في حوض البحر الأحمر فاروق مصر وهيلاسيلاسي الحبشة والملك السعودي عبد العزيز، وذلك على متن السفينة كويتسي قبالة جدة، وهو اللقاء الذي حقق معه أفضل النتائج. فقد عقد الزعيمان اتفاقية على نمط زواج كاثوليكي بين شخصيهما وبلديهما، أصبحت بموجبه الولايات المتحدة راعية وحامية للعرش السعودي، وأخرجت النفوذ الإنكليزي لمصلحة واشنطن. هذه الاتفاقية بقيت راسخة ومتينة على مدى عقود، وإن شابها بعض التباين الطفيف في وجهات النظر في بعض المراحل.

لكن بما أن بقاء الحال من المحال، وأن الثبات والجمود ليسا من صفات السياسة في عالم متحرك، فقد جرت المياه في أودية السياسة، وتخلخل النظام العالمي ذو القطب الواحد الذي ورث نظام يالطا، ثم تعاقبت الأجيال في السعودية، ثم وجد في البيت الأبيض رؤساء مختلفون عما عرفته واشنطن، مثل ترامب العدواني العنيف، وبايدن المتهالك الضعيف، فأخذت السعودية محمد بن سلمان فرصتها للخروج من عباءة روزفلت- عبد العزيز، وأخذت بالبحث عن علاقات متنوعة صرح عنها ولي العهد، فيما لم تستطع طريقة واشنطن القديمة أن ترهبه بدعم بعض أبناء عمومته في السباق نحو العرش، أو أن تبتزه في قضايا منافقة كإثارة ملفات حقوق الإنسان والحريات وحادثة مصرع خاشقجي.

جاءت الحرب الروسية - الأوكرانية، لتعطي سياسات ولي العهد فرصة ثمينة للسير قدما في تنويع علاقات بلاده مع روسيا، التي التزم معها بعدم زيادة إنتاج النفط بالضد من إرادة واشنطن، ومع تخفيف التوتر مع إيران، ومع الصين التي توج انفتاحه عليها بزيارة تاريخية للرئيس الصيني للسعودية، وترتيب عقد أكثر من قمة، تؤكد خلالها زعامة السعودية وولي عهدها للمنطقة قدرته على الخروج عن الإرادة الأميركية.

في زمن مضى، أقام شيخ العشيرة السعودية- السلطان ثم الملك عبد العزيز زعامته على الجزيرة العربية، من خلال تقديم نفسه كحاكم قوي وكرجل قادر على جمع شيوخ البدو في خيمته، وأن يمثلهم جميعا امام اي قوة خارجية، أما في الزمن المعاصر فإن حفيده محمد بن سلمان قد استطاع تقديم نفسه كزعيم إقليمي، وذلك بحشد ثلاثين رئيس دولة وشخصية إقليمية في القمم التي عقدت في السعودية، على هامش الزيارة التاريخية التي وإن أغاظت الشريك القديم في معاهدة كوينسي ومعه الأوروبيون ومنافسو ابن سلمان في العائلة السعودية والإقليم، إلا أنها ولا شك كان لها أهداف ونتائج تتجاوز ذلك.

جمع السعودية مع الولايات المتحدة العداء للاتحاد السوفيتي الملحد الكافر، وقيل – ولا أجزم بدقه ما قيل- ان من شروط السعودية للاعتراف بالاتحاد السوفيتي، كانت أن تعترف موسكو الشيوعية بوجود الله، ولكن كانت هناك حاجة سعودية لملء الفراغ الذي سينشأ عن خروج الإنكليز من بلادهم، ولحماية ورعاية واشنطن، فيما كانت حاجة واشنطن للسيطرة على منابع النفط وأسواقه شرطا لزعامتها للقطب الغربي.

وهو ما حصل لدرجة ارتباط النقد الأميركي بالنفط الذي حمل اسم البترودولار، لكن السعودية اليوم يجمعها بالصين أيضا أمور أخرى مهمة، فزيادة على الشركة الاقتصادية، هناك طموحات متشابهة، تستدعي تطوير مجالات الاستثمار، فالرياض تملك صندوقا سياديا به وفرة من المال، منها ارتفاع أسعار البترول كنتيجة للحرب الروسية الأوكرانية، الصين تملك الخبرة والإنسان القادر على استثمار ذلك بشكل مشترك، بما يعود بالفائدة للطرفين ودولة الحزب الواحد لا يوجد بها كونغرس منافق ولا ديموقراطيون وجمهوريون وإنما صين واحدة، هذا عدا  التعاون في التكنولوجيا والثقافة ومجموعة العشرين وإعادة إحياء طريق الحرير.

في ختام الزيارة التي تستحق أن تصنف بالتاريخية، صدر إعلان الرياض من أربعة وعشرين بندا، صيغ الإعلان بلغة أنيقة لفظيا، ونمطية في عمومياتها، التي شملت الحضارات والثقافات والبيئة والمناخ و مكافحة الإرهاب وغير ذلك كثير، وتضمنت بندا خاصا بالصراع حول فلسطين، وأكد الإعلان على ضرورة إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس ، وعلى عدم مشروعية المستوطنات والمطالبة بعقد مؤتمر دولي، وعلى أحقية الأردن برعاية الأماكن الدينية في القدس، ثم التأكيد على وحدة الأراضي السورية واليمنية والليبية، لكن كل ذلك لا ينفي أن اتفاقات أخرى قد عقدت دون إعلان وبمعزل عن بيان الرياض، وتفوقه أهمية وتتعلق بتعميق التوجه السعودي نحو تنويع علاقاتها وخياراتها السياسية، والبحث عن «شراكات» مع الصين بما يتجاوز التبادل التجاري وطرق التحرير وغيرها، وصولا إلى «شراكات» سياسية وأمنية بينهما، فهل هذا سيكون توجها دائماً أم أنه مرتبط ببقاء الأمير محمد بن سلمان في موقع القرار؟