Menu

بمناسبةِ ذكرى رحيلِ حكيمِ الثّورة عن التّلاقحِ التّاريخيّ بين الفكرين القوميّ والماركسيّ

وسام رفيدي

نشر في العدد 46 من مجلة الهدف الرقمية

كاتبٌ وباحثٌ في علمِ الاجتماعِ السياسيّ/ فلسطين

أدّى الفكران؛ القوميّ والماركسيّ باختلاف تلاوينهما الحزبيّة دورًا سياسيًّا محوريًّا منذ الثلث الأوّل من القرن العشرين وحتّى الآن، على اختلاف مستويات ذلك الدور بين عهود وعهود. ففي مجال النضال ضدّ المستعمِر الأوروبيّ والأمريكيّ، في النضال ضدّ المستعمِر الصهيوني، وفي السعي لتحقيق التنمية والاستقلال، وأخيرًا في المحاولات لبناء الدولة ال قطر يّة، وفي محاولات تحقيق الوحدة العربيّة، كان لهذين التيّارين من المحيط إلى الخليج دورًا مشهودًا له.

ومع ذلك يصعبُ القول: إنّ العلاقةَ بين التيّارين، خاصّةً في عقود الأربعيناتِ والخمسيناتِ والستيناتِ كانت على أفضل حال، فعديدٌ من القضايا الخلافيّة فجّرت صراعاتٍ حقيقيّةً بين التيّارين في العقود الثلاثة المذكورة أعلاه. الموقف من موضوعة الوحدة العربيّة؛ الموقف من المشروع الصهيوني الاستيطاني وكيانه في فلسطين؛ الموقف من قضيّة الديموقراطيّة الاجتماعيّة والسياسيّة؛ الموقف من قضايا الصراع الطبقي؛ هذه بتقديرنا كانت أبرز القضايا الخلافيّة بين التيّارين. كان الجسر بين التيّارين والحال هكذا يبدو وكأنّه ضربٌ من المستحيل.

كان التيّار القوميّ على اختلاف تعبيراته الحزبيّة وأبرزها حزب البعث والقوميّين العرب؛ يضعُ الوحدة العربيّة في صلب برنامجه السياسي، فيما الماركسيّ ممثّلًا بالحركة الشيوعيّة العربيّة لم تحتلَّ تلك القضيّة مكانةً محوريّةً لديه: لا في البرنامج ولا في الممارسة. أمّا الموقفُ من المشروع الصهيونيّ الاستيطانيّ وكيانه في فلسطين؛ فتلك كانت أهمَّ نقاط الخلاف/ الصّراع، ففيما رفض التيّار القوميّ ذلك المشروع وشرعيّة كيانه انسجامًا مع رفضه لقرار التقسيم؛ اتّخذت الحركةُ الشيوعيّةُ موقفًا مؤيّدًا لتقسيم فلسطين واعترفت بالكيان الصهيونيّ، باستثناء الحزب الشيوعي السودان ي الذي رفض الاعتراف القطعي بقرار التقسيم، ومن ثَمَّ بالكيان الصهيوني، وكذلك صوّب الحزب الشّيوعيّ اللبنانيّ موقفه في مؤتمره العام عام 1968.

وما زاد تعقيدُ العلاقة بين التيّارين طبيعة البنية الفكريّة الأساس للتيّارين؛ ففيما تنهضُ بنية الفكر الماركسي على الموقف والتحليل الطبقيين، فإنّ التيّار القوميّ لم يُولِ المسألة الطبقيّة ذلك الاهتمام، حتّى لو كان مصطلح (الاشتراكيّة) جزءًا من برنامجه واسمه، مثال: حزب البعث والتجربة الناصرية. كان التيار القومي ممثّلًا مخلصًا للفئات الوسطى الجديدة التي توسّعت بشكلٍ هائلٍ مع مجانيّة التّعليم من جهة، وبناء الدولة القُطريّة من جهةٍ ثانية، في دول، مثل: مصر والعراق وسوريا؛ فيما أعلنت الحركة الشيوعيّة انحيازها وتمثيلها للطبقة العاملة والاشتراكيّة بالمفهوم الماركسيّ حصرًا؛ بغض النظر عن مدى انسجام هذا الإعلان مع مستوى تبلور الطبقة العاملة طبقةً لذاتها وبذاتها.

احتلالُ كاملِ فلسطين عام 67 كما هو معلوم؛ فجّر النقاش النظريّ داخل حركة القوميين العرب، وهي حركةٌ تمكّنت من تحقيق امتدادٍ تنظيميٍّ من المحيط للخليج، وتمكّنت من إطلاق (جبهات مسلّحة) في أكثرَ من موقع، وحرّرت جنوب اليمن من المستعمِر، وبنت دولةً ديموقراطيّةً شعبيّةً على رأسها حزبٌ ماركسيّ. كانت إرهاصاتُ النقاش النظريّ قد بدأت في الحركة منذ مطلع الستينات، وتمثّلت في الاقتراب أكثر من الفكر الماركسي؛ لدرجة إرسال البعثات للدول الاشتراكيّة لدراسة الماركسيّة، ومن ثَمَّ كانت الظروف الموضوعيّة قد توفّرت، خاصّةً مع هزيمة الأنظمة الوطنيّة في سوريا ومصر؛ صاحبة التوجّه القوميّ؛ للشروع بما نعتقده عملية التلاقح بين الفكرين الماركسي والقومي؛ وشخصيّة قياديّة على المستوى القومي كالرفيق الراحل جورج حبش كانت مؤهّلة، بما تمتلكه من قدرةٍ على التأثير وخصائص كاريزميّة، مع حفنةٍ من القياديين في حركة القوميّين العرب، على تأدية الدور الرئيس في إنجاز التلاقح المقصود، الذي نعتقد أنّه تجسّدَ أساسًا في برنامج الجبهة الشعبيّة، وفي موقف وتوجه الحكيم الراحل الذي انعكس بشكلٍ ما في برنامج الجبهة.

كان السؤالُ الأبرزُ في تلك المرحلة هو سؤال الهزيمة: لماذا انهزمت الأنظمة الوطنية ذات التوجه القومي؟ سؤال شبيه بذلك الذي أطلقه "شكيب أرسلان" مطلع القرن العشرين: لماذا تقدّم الغرب وتأخّر الشّرق؟

سؤال الهزيمة هذا سريعًا ما تبلور عبر الممارسة الثوريّة للكفاح المسلّح والجدل النظري لوضع الإجابة التي عليها أن تخضع؛ لامتحان الممارسة، كي لا تغدو عمليّة ذهنيّة فحسب، لا ترقى لما هو مؤمّل من قادةٍ مناضلين تاريخيين.

هنا بالذات بتقديرنا كان إسهام الرفيق جورج حبش والحفنة القياديّة المحيطة به؛ كانت الإجابة هي بتحقيق التلاقح بين الفكرين القومي والماركسي. إنّ جوهر الفكر القومي بتحقيق نهضةٍ عربيّةٍ حقيقيّةٍ تتجسّد في دولةٍ موحّدةٍ للأمة العربية، هو ليس فقط توجّهٌ سياسيٌّ ينسجمُ مع خصائص الأمّة العربيّة وتوجّهها وطموحها، ومن ثَمَّ فهو توجّهٌ مشروعٌ وصحيحٌ وتاريخيّ، بل هو أيضًا الردُّ على هزيمة الأنظمة الوطنيّة ذات التوجّه القوميّ، التي ثبتت بهزيمتها محدودية قدرات المشروع القطري لبناء الدولة الوطنية، ليس فقط عن تحقيق تنميةٍ حقيقيّةٍ ذات توجّهٍ اشتراكيٍّ حقيقيّ، بل فشلها في الردّ على المشروع الصهيونيّ.

نكادُ نجزمُ أنّ جوهر التلاقح بين الفكرين/التيّارين؛ كان بالذّات هو التّلاقحُ بين المشروع القوميّ النهضويّ العربيّ على مستوى الوطن العربي وبين تحرير فلسطين من المشروع الصهيوني؛ مستندًا، نعني هذا التلاقح؛ لتأصيلٍ نظريٍّ ماركسيٍّ وجد في الماركسية ضالته في تنظيرها حول خصائص الأمّة وتقرير المصير، وحقيقة الترابط العضوي بين المشروع الصهيوني والإمبريالية العالمية، وطبيعة الخدمات الوظيفية للرأسمال الصهيوني لمجمل الرأسمال العالمي. وعبر التجربة السياسية والنضالية الملموسة للقادة المناضلين، وفي المقدّمة منهم الرفيق الراحل الحكيم؛ تأكد لهم بما لا يدع مجالًا للشكّ أنّ جماهير المخيّمات المتحوّلة من فلاحين لعمال ومستخدمين؛ هم كطبقات وفئات اجتماعية؛ المؤهلين لقيادة النضال الوطني لتحقيق النصر بتحرير فلسطين، وبتأدية دورٍ قوميٍّ بتحقيق مشروعٍ نهضويٍّ تقدميٍّ يتجسّدُ بدولةٍ موحّدةٍ للأمة العربيّة.

في كل مفاصل البرنامج السياسي للجبهة الشعبية منذ انطلاقتها، وفي الاستراتيجيّة السياسيّة والتنظيميّة عام 1969 وفي طرح موضوعة التحوّل لحزبٍ ماركسيٍّ يمكن الوقوف على مفاصل عمليّة التلاقح هذه بين الفكرين؛ القومي والماركسي.

لم تقتصر عملية التلاقح هذه على الساحة الفلسطينية، بل امتدت لتطال مختلف البلدان العربية بما يمكن اعتباره؛ مرحلة بروز منظّمات يسارية ماركسية؛ ذات توجه قومي؛ نشطت فترة السبعينات في الأساس، وبتأثيرٍ واضحٍ من الراحل الحكيم والجبهة الشعبية: في عُمان و البحرين والكويت واليمن والمغرب وتونس ولبنان والأردن والسعودية، وسواءً بتحوّل فروع القوميين العرب لحزب العمل العربي الاشتراكي، أو بتأسيس جبهاتٍ وأحزابٍ جديدةٍ تجسّد في برنامجها ذات التلاقح.

وإن بدا هذا التلاقحُ وكأنّه ردًّا على موقف الحركة الشيوعيّة العربيّة من موضوعتي الوحدة والاعتراف بالكيان وقرار التقسيم، إلّا أنّه من باب السذاجة والتبسيط المخلّ؛ اعتبار هذه العمليّة مجرّد ردٍّ على موقف؛ إنّها إعادةُ تصويب الفكرين وتجسيداتهما البرنامجيّة والنضاليّة في الساحة العربيّة: تصويب الفكر القومي بتضمينه المحتوى الطبقي، وتخليصه من شذراتٍ شوفينيّةٍ لازمته وتجسّدت في موقفه من القوميّات، وتحديدًا الأكراد، مثلًا: في سوريا والعراق، وتصويب الفكر الماركسيّ في موقفه من موضوعة الوحدة العربيّة والمشروع الصهيوني في فلسطين، وكذا في أشكال النضال ضدّ هذا المشروع والرجعيّات العربيّة.

بهذا المعنى؛ فإنّ عملية التلاقح تجاوزت حدود الرد لتصل إلى حدود إعادة صياغة وتصويب الفكر في الساحة العربية؛ عبر الممارسة النضالية والتنظير السياسي والجدل داخل حركة القوميين. إن شئتم فهو تعريبٌ للماركسية من جهةٍ و(مركسةٌ) للفكر القومي من جهةٍ ثانية؛ هنا بالذات مأثرة الحكيم النظرية والسياسية على مستوى الساحة العربية، وتاليًا مأثرة الجبهة الشعبيّة.