Menu

العودةُ إلى الجذور... في البعدينِ القوميّ والأمميّ

محمد صوان

نشر هذا المقال في العدد 45 من مجلة الهدف الإلكترونية

على مدارِ نصفِ قرنٍ ويزيد مرّت حركةُ المقاومة الفلسطينيّة بمراحل صعودٍ وتجدّدٍ وضمور... ثمَّ تأمّل، وتمرُّ اليوم التجربةُ الفلسطينيّةُ بواحدةٍ من المنعطفاتِ الصعبة، وذلك بسببِ كثافةِ الصراعِ على الأرض، وتكاثر الأسئلةِ الوجوديّةِ والخوفِ من المستقبل، إضافةً لنهوضٍ نضاليٍّ وسياسيٍّ جديد.

في الجوهر لا تستطيعُ فصائلُ العمل الوطنيّ الفلسطينيّ الرسميّة وشبه الرسميّة التحرّك إلا ضمنَ مساحةٍ ضيّقة، وذلك بحكم أوضاعها البنيويّة والسياسيّة، وهذا واضحٌ في واقع سلطة رام الله المكبّلة بالتنسيق الأمنيّ والاتفاقيّات الدوليّة، والمحاصرة... كما هو حال "الحصار" على قطاع غزة، في ظلّ القيود المفروضة على حريّات الفلسطينيين وحركتهم من الجانبين "الإسرائيلي والمصري".

إنّ تواصل القهر والاحتقان والاحتلال أدّى مع الوقت إلى ظهور قوى فلسطينيّةٍ جديدةٍ تحملُ بعدًا سياسيًّا وكفاحيًّا ومضمونًا فكريًّا مختلفًا، ويقع على هذه القوى مسؤوليّة ملء هذا الفراغ، كما حدث مع "الجبهة الشعبيّة وحركة فتح" عقب هزيمة حزيران 1967.

في محاولةٍ لتحليل ظاهرة "ملء الفراغ" فإنّنا نتلمسُ عناصرَ القوّة والقدرة والاستبسال، وأخرى من الضعف والتفتت... لننظر على سبيل المثال إلى مكانة النضال الفلسطيني وعمقه القوميّ الحاضن في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، عندما كان التركيز على تحرير الأرض والإنسان وفي ظلّ تصوّرٍ متقدّمٍ يدعو إلى "إقامة الدولة الديمقراطيّة الواحدة" المتحرّرة من الصهيونيّة على كامل فلسطين التاريخيّة، التي تتعايشُ فيها جميع الأديان والمذاهب والطوائف والأقليّات... ذلك التصوّر الذي تجلّى في مرحلةِ نهوضٍ وقوّةٍ تمَّ بلورتُهُ في حينِهِ على يدِ حركاتٍ سياسيّةٍ وكفاحيّةٍ جديدةٍ مثل: "حركة فتح والجبهة الشعبية" في محاولة للإجابة على تساؤلات الإقليم والعالم عن "مصير اليهود"، لكن ذلك التصوّر بالتحديد تحوّل اعتبارًا من عام 1973 إلى "برنامجٍ مرحليّ" لإقامة دولةٍ فلسطينيّةٍ في حدود عام 1967، وهو برنامجٌ لم يتصادم في حينها مع "الحلّ الجذريّ" على كامل فلسطين التاريخيّة.

عبر دروسٍ من التاريخ، لا يمكن إعادة عجلة التاريخ المتوقّد بكل تفاصيلها إلى الوراء.. لكنها تعلّمنا كثيرًا، وتساعدنا على قراءة وتحليل عناصر النجاح والإخفاق من خلال انعطافاتها المفصلية، الأمر الذي يملي على الجميع العودة إلى تلك القدرة والوعي بأهمية "الوحدة مع التنوّع" التي ميّزت المناضلين الفلسطينيين والمؤيدين لهم.. ففي مرحلة من التاريخ النضالي منذ عام 1967 استطاع جميع المناضلين في صفوف حركة المقاومة من صياغة نموذج "وحدة الاتفاق والاختلاف" في إطار برنامج تعمل على هدْيه مؤسسات سياسية ومدنية كـ "منظمة التحرير الفلسطينية، المجلس الوطني الفلسطيني، الاتحادات المهنية والنقابية والمنظمات الشعبية".

لقد تمكنت حركة المقاومة الفلسطينية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي من تذليل التباينات فيما بينها، وفي الوقت نفسه حشد الأصدقاء وعزل الأعداء، وفي حالات كثيرة كسب صداقات عدد من اليهود اليساريين الذين يعارضون الاستيطان الكولونيالي والحركة الصهيونية بوصفها مشروعاً عنصرياً.

إذا كان النموذج الذي أشرنا إليه أعلاه شكّل قوة جذب للمشروع الوطني الفلسطيني، فإن الواقع الراهن تسبب بتشظي المشروع الوطني بين مشروع "الدولة في حدود عام 1967" من جهة، ومشروع تحرير كامل التراب الوطني "الدولة الديمقراطية الواحدة" من جهة أخرى وسط حالة تشوّش الرؤية والأهداف في ظل سلطتين وحكومتين  متناقضتين إحداهما مع الأخرى.

تجد الأجيال الجديدة في الوضع الفلسطيني الراهن صعوبة في أن تحتل مكاناً لها في قيادة العمل الفلسطيني، بينما في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي فإن كل من قاد حركة المقاومة كان من جيل الشباب.. لقد شاخت الحالة الفلسطينية عندما لم تجد آلية منطقية يتبوأ فيها الشباب مواقع القيادة بصورة فاعلة، وباتت تشبه النظام العربي الرسمي في فساده واستبداده وجموده أكثر مما تشبه نفسها في سبعينيات القرن الماضي.

في تلك المرحلة التأسيسية.. لم يكن ظهور شخصيات "كاريزما" شابة في بداية صعودها كـ " جورج حبش ، ياسر عرفات، أبو جهاد الوزير، نايف حواتمة، وغيرهم.." أمراً عارضاً أو استثنائياً.. ولم يكن ظهور شخصيات ثقافية كـ "محمود درويش، إدوارد سعيد، غسان كنفاني، ناجي العلي، فدوى طوقان، سحر خليفة وغيرهم.." في المناخ الفلسطيني خارج السياق.. بل لم يكن صدفة ظهور قادة ميدانيين شبّان فلسطينيين وعرب، خاضوا غمار النضال بحزم، وسقطوا شهداء في ظل الكفاح المسلّح في غور الأردن وجنوب لبنان، ودفاعاً عن المخيمات المحاصرة أثناء الحروب الأهلية التي فرضت على الشعب الفلسطيني.

كانت التجربة الفلسطينية في حينها قادرة على فهم واستيعاب كل من يتداخل معها، وكانت مكانة المناضلين القوميين والأمميين في النضال الفلسطيني نماذج لهذا التداخل. لقد سمح النضال الفلسطيني الذي تأسس بوصفه ليس صراعاً عرقياً أو طائفياً أو وطنياً مغلقاً، ليلتحق به مناضلون من مجتمعات مختلفة – عربية وغير عربية – وبالتالي الدفاع عن الشعب وقضيته العادلة والتعلّم من دروسها.

أما اليوم فإن الرؤية القومية للقضية الفلسطينية تبدّلت، وغاب الإجماع بشأنها، وباتت تتجاذب المجتمعات العربية مدرستان: إحداهما تنحاز للإسلام السياسي، وأخرى للنظام العربي الرسمي - بعجره وبجره - !

لم تعد الحالة الفلسطينية عاملاً محركاً للإقليم، كما أن قيادة العمل الوطني لم تعد داعماً لحركات التحرر الوطني والديمقراطي في العالم، كما كان عليه الحال في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، ولم تعد قادرة على احتواء الاستقطاب الأيديولوجي كما فعلت "الجبهة الشعبية وحركة فتح" وغيرهما على قاعدة "الوحدة مع التنوّع ".. بل أصبحت اليوم منغمسة في صراع أيديولوجي مع النصف الآخر في غزة!

ومع ذلك لا تزال القضية الفلسطينية في عمق الوجدان الشعبي العربي، ففي ميادين وشوارع بلدان "التطبيع مع الاحتلال" كان ولا يزال للقضية الفلسطينية مكانة خاصة، إذ لا يمكن أن تكون عربياً: مصرياً، عراقياً، يمنياً، مغربياً، خليجياً، سورياً، وساعياً للحرية والديمقراطية، دون أن يكون لك موقفاً من الصهيونية و"إسرائيل" بوصفهما تعبيراً عن العنصرية والاستبداد وانتهاك الحقوق الوطنية والقومية، ولهذا رفعت في مونديال قطر 2022، وفي ميادين وشوارع بلدان "الاتفاق الإبراهيمي" الأعلام الفلسطينية والرايات والشعارات التي تندد بالممارسات العنصرية الصهيونية، وتدعو إلى عزل "إسرائيل" وفك العلاقة معها.

نحو استراتيجية وطنية جديدة 

كل ما سبق يشير إلى أن المشهد القومي العربي في مرحلة مقبلة لن يخرج من أزمته دون مواجهة مفتوحة مع المشروع الصهيوني بوصفه معادياً للنهوض القومي العربي المستقل، ولكل توجه عربي تحرري وديمقراطي، كما أن الاستراتيجية الفلسطينية لا بد أن تدرك حجم الترابط بين التحررين القومي العربي والوطني الفلسطيني.. وبين مشروع النهضة القومي العربي – إن وجد – والمشروع الفلسطيني، فمن دون استراتيجيا تأخذ بالاعتبار عمق هذا التداخل والتفاعل لن يتحرر الشعب الفلسطيني وسيبقى وحيداً يواجه تمدد المشروع الصهيوني ومخاطره.

الملاحظ في الإطار التاريخي أن القضية الفلسطينية برمّتها تذوي عندما تبتعد عن جذورها التي كوّنتها، وعن ذكرى المدن والمعالم والقرى المدمّرة والمهجّرة التي حددت مغزى وجودها وأساس انبعاثها، فقوة هذه القضية واندفاعها في تمثيل الشعب كما الأمة الأوسع تتمحور بمدى قدرتها على حماية حصنها الأخلاقي وروايتها التاريخية، وعمقها القومي والإسلامي والإنساني، وذلك بهدف إعادة اكتشاف منابع جذورها وقوتها على الأرض التي كوّنت بداياتها.

المقاومة الفلسطينية بالوسائل المتاحة ليست نهاية المطاف بحد ذاتها، وينبغي ألا يُنظر إليها بمعزل عن الاحتلال والاضطهاد والعنصرية التي تمارس على أجساد أبناء وبنات الشعب الفلسطيني، حيث المدن والقرى المدمّرة والمنازل المصادرة والحقوق المسلوبة، فالمقاومة اليوم أقرب إلى المقاومة التي مارسها أبناء وبنات جنوب إفريقيا لعقود ضد عسف وقهر الفصل العنصري.. غير أن هذه المقاومة – على بسالتها – تجد نفسها اليوم في " مرحلة الفراغ " وهي مبادرات فردية وبلا قيادة، وتعكس حالة الضمور والانقسام وغياب الحاضنة القومية والأممية.. إنها مقاومة حتى الآن بلا سقف سياسي يمكن استثماره، لكن ربما هي تجسيد لحالة لم تكشف لنا عن ديناميتها بعد.

من الطبيعي عندما نفكر في المستقبل أن نتساءل أين يقف الكفاح الوطني، من تحديات بناء مجتمع نامٍ وعادل وديمقراطي؟! فالكثير من تعبيرات الحالة الفلسطينية الراهنة ليست أكثر من " علم ونشيد وسجادة حمراء وسلطة مسخ.."، وهذا قطعاً لا يكفي، ولن يكفي، وهو يتحول إلى كابوس مقلق.. فأي دولة دون مقومات وسيادة ومؤسسات فاعلة متطورة.. لا سيما في ظل توحّش الاستيطان والتهويد والاقتلاع والاعتقال، تتحول إلى عبء مضاعف على القضية الحاضنة لها.

إن فلسطين حالة كفاحية عابرة للدول، فهي في كل مكان من العالم وعلى أرضها التاريخية.. إنها في حيفا والناصرة وأم الفحم كما في جنين ونابلس وغزة، كما في جميع مخيمات اللجوء والشتات.. وهو ما يمثّل قوتها رغم مصادرة حقوقها الوطنية والقومية المشروعة، وهذا يستدعي من ممثلي القضية التمسك بمتن الرواية التاريخية بجميع فصولها الأخلاقية والقومية والأممية، كما لابد من بلورة تصوّر فكري وسياسي يتجاوز المشروع الصهيوني فيما يتصل -على الأقل- بمصير اليهود، إذ يجب طرح تصوّر التعامل معهم ومع "المسألة اليهودية" التي جنّدتها الصهيونية وطوّعتها لمصلحة مشروعها العنصري الاستيطاني.

ولا بد لهكذا تصوّر سواء كان "دولة ديمقراطية واحدة" أم "دولة ثنائية القومية" أن يتضمن أبعاداً تتفوق في قيمتها الانسانية والأخلاقية على المشروع الصهيوني.. كما سبق أن وجد شعب جنوب إفريقيا طريقاً للحل مع "الأقلية البيضاء" ضمن حقوق متساوية مع السكان الأصليين.

في هذا العصر الذي يشهد فيه الوطن العربي والعالم تحوّلات كبرى، يجب استلهام تجارب جنوب افريقيا والهند، والحقوق الوطنية والمدنية في مجتمعات شتى، فهذا مفيد للاستراتيجية الفلسطينية وتطوّرها.. كما أن وسائل وأساليب متعددة للمقاومة يمكن أن تفتح الآفاق على مرحلة جديدة من الكفاح.. فالمقاطعة وإحياء الذاكرة والمقاومة بواسطة الإعلام والفن والكتابة والتعبير والتعليم والثقافة والمسيرات المنظّمة والتنمية المستدامة وبناء المؤسسات ودعم الإبداع وزرع الأشجار وتحدي الحواجز وحماية الحريات والسعي لكسب الأنصار والمؤيدين في جميع أنحاء العالم، قد تكون من الأساليب الناجعة للمقاومة.. وسيكون الالتصاق بالبعد القومي والأممي فرزاً للإيجابي في ظل واقع سلبي.. وفي لحظة التحوّل يمكن لهذه الوسائل تعزيز القضية الفلسطينية وتقويتها.. كما يمكن لقيم جديدة وأفكار متقدمة من هزيمة العدو في مشروعه وأخلاقه وعنصريته قبل هزيمته في ساحة القتال.