كاتبٌ صحفيٌّ فلسطينيّ/ بريطانيا
بمعزلٍ عن القراءات الاجتماعيّة والسياسيّة لمسار إسرائيل الصاعد نحو اليمين، لكن يمكنُ القول بعد إقرار خطة الإصلاح القضائي في العشرين من شباط إنّنا أمام دولةٍ مختلفةٍ عن التي أُقيمت عام 1948، وتلك الدولة المختلفة لم تكن بسبب خطّة الإصلاح نفسها، بل بفعل تطورات العقود الماضية، ووصولها إلى ما يعرّفه الدكتور أسعد غانم بالجمهورية الثالثة.
إنّ خطة الإصلاح لم تكن سوى تتويجٍ للمسار الذي أخذت تتبلور ملامحه منذ تسلّم نتنياهو السلطة للمرة الثانية بشكلٍ شبه متواصلٍ منذ عام 2009، وتلك الظاهرة لم تكن تعرفها إسرائيل التي اشتهرت بسرعة تغيير رؤساء وزاراتها، لكن نتنياهو الذي عاد للمرّة الثانية ليحكم اثني عشر عامًا متواصلةً؛ شهدت مرحلته هذا القدر من إعادة تشكيل الدولة؛ صحيح أن نتنياهو السياسي المجرّب أسهم كثيرًا في إعادة رسم تلك الملامح وتكريسها، لكن أيضًا كانت ميكانزمات المجتمع المتحرّكة تهيئ له مسرّح التغيير الآخذ بالتطوّر منذ البدايات وحمّلته جينات الدولة مبكّرًا؛ ليتوقّف عند محطّة التغيير عام 77 ليستأنفَ بعدها بتسارعٍ أكبر بعد تبلور التيّار الاستيطاني القوميّ في سبعينات القرن الماضي.
كلّ شيءٍ يبدو مختلفًا عن البدايات كان الباحث حسين أبو النمل، يطلق على هذا التصوّر قائلًا إنّ إسرائيل "تتمشرق" أي تصبح جزءًا من المنطقة بتفاصيلها، بعد أن تشكّلت بمنظومةٍ غربيّةٍ على يد النخبة الإشكنازيّة، ودفعت بيهود الشرق نحو الهوامش الاجتماعيّة السياسيّة الاقتصاديّة والجغرافيّة حتّى في مدن التطوير، لكنّهم أصبحوا الآن في رأس الدولة، وهذا يحدثُ منذ سنواتٍ طويلةٍ ويتعمّقُ أكثر مع الزمن.
قبل خطة الإصلاح القضائي، التي كما يقول معارضوها ستحوّل إسرائيل إلى دولةٍ تشبه كوريا الشماليّة و إيران في نظامها السياسي، كانت إسرائيل قد تحوّلت في العقد الأخير ما يشبه دولة الرجل الواحد بنيامين نتنياهو يشير لها الدكتور أسعد غانم بـ "النتنياهوية" وفي تلك كانت تتشابه مع دول العالم الثالث دول الزعيم الواحد والأوحد، وخصوصًا مع ما ترافق من إقصاء كلّ الخصوم السياسيين للزعيم الأوحد، ليس على مستوى الدولة بل على مستوى الحزب الحاكم أو الحزب المهيمن، فقد تمكّن نتنياهو في انتخابات الليكود الأخيرة من إقصاء كل معارضيه في الحزب أيضًا فيما يشبه دول العالم الثالث التي يهيمن عليها حزبٌ واحدٌ مركزيٌّ فيما تملأ المجال السياسي أحزابٌ مبعثرةٌ صغيرة.
قبل خطة الإصلاح القضائي كان هناك تكاملٌ بين المجتمع والنظام السياسي في تراجع معيار الشفافية والفساد، ففي العقود الماضية كان مجرّد خبرٍ صحفيٍّ عن حالة فسادٍ يتكفّل بالقضاء على مستقبل أي سياسيٍّ في الدولة، ويسارع بتقديم استقالته، لكن هذا لم يعد قائمًا في المرحلة النتنياهوية حيث تلاحق نتنياهو ملفّات فسادٍ من النوع الثقيل، ومع ذلك يصرُّ على الاستمرار في قيادة الدولة، يدعمه جمهورٌ كبيرٌ من التيّار المركزي في المجتمع يعيده للقيادة مع كلّ دورةٍ انتخابيّةٍ أيضًا على نمط العالم الثالث الذي يتعايش مع الفساد ويعدُّهُ جزءًا من مكوّنات العمل السياسي.
خطّة الإصلاح القضائي تتكوّن من أربعة مراحل، ما جرى النقاش حول المصادقة عليه هي المرحلة الأولى التي تُعنى بسيطرة السلطة التشريعية "الكنيست" على السلطة القضائية، وسحب صلاحياتها في الاعتراض على قرارات الحكومة وإعطاء الكنيست حصانة بـ 61 صوتًا لنقض قراراتها، وكذلك تحويل رأي المستشار القانوني للحكومة لرأيٍّ استشاريٍّ غيرِ ملزم، وكذلك المستشارين القانونيين بالوزارات، وإعطاء الوزير حقّ تعيينهم أو إنهاء خدماتهم، تلك هي المرحلةُ الأولى فقط من تحوّل إسرائيل نحو وجهتها الجديدة، لكن بعد أن تمرَّ هذه المرحلة الأولى، وتهدأ موجتها سينطلق الائتلاف نحو باقي المراحل، التي بمجموعها تعني إسدال الستار على إسرائيل القديمة بكل تفاصيلها بما فيها قوانين الحريات وحقوق الإنسان التي يتأتى في مرحلةٍ لاحقةٍ وسيطرة قوى الائتلاف بثقافتهم الدينية على المجال العام، وإعادة صياغته بما يتوافق مع قيمها وتقاليدها.
الولاياتُ المتّحدة الحليف الأقرب لإسرائيل أبدت رأيها في التغيير القانوني، وحذّرت من تراجعٍ في القيم المشتركة بل عدّت أنّ الأساس المشترك بينهما هو هذا القدر من القانون، ولنا أن نتصوّر أوروبا وبلاد القانون فيها، حيث كانت زيارة نتنياهو لفرنسا هذا الشهر اختبارًا جديدًا لخطّة القضاء، ولأثرها على العلاقات الدوليّة، وبات واضحًا أن إسرائيل بهذا التعديل تقلّل من المعايير المشتركة لدول العالم الحرّ والديمقراطيّات الغربيّة لصالح قيم وقوانين أقرب للعالم الثالث، وسيطرة السلطة التنفيذيّة، وسحق السلطة القضائية.
خصوم وأعداء إسرائيل بالتأكيد يتابعون بسعادةٍ ما يحدث في الدولة التي تشهد تظاهرات وشرخًا اجتماعيًّا وزيادةً للعدائية بين مكونات المجتمع الإسرائيلي، ومأزق الاقتصاد الذي يدخل في أزمةٍ لم يمر بها سوى عام 2008، استدعت تدخل سلطة النقد لرفع الفائدة في محاولة لوقف تدهور العملة المحلية ووقف نزيف الأموال للخارج ووقف هجرة الشركات، خصوصًا العاملة في حقل التكنولوجيا فمن يرى ما يحدث بالتفاصيل يظن أو يعتقد أنّنا أمام دولةٍ تشهدُ اضطرابًا سياسيًّا، وليس دولةً مستقرّةً كالتي عهدناها على امتداد العقود السبعة والنصف الماضية التي كانت خلالها تعرف إسرائيل نفسها دولةً علمانيّةً وديمقراطيّةً بل واحة الديمقراطية في المنطقة... إنّها ترتدي وجهًا مختلفًا لم يأتِ فجاةً لكنّه نتاج تطور الزمن، ملامح جديدة لا تشبه إسرائيل القديمة بالقطع.